أحداث مالي تتساراع، ففي مساء يوم الإثنين 24 مايو 2021م، احْتَجَزَتْ عناصر من جيش المجلس العسكري السابق – الذي قاد العملية الانقلابية ضد الرئيس المعزول “إبراهيم بوبكر كيتا” في أغسطس 2020م- كل من الرئيس الانتقالي، “باه انداو” ووزيره الأوّل “مختار وان” ووزير الدفاع الجديد، “سليمان دوكوري” وتم اقتيادهم إلى ثكنة ” كاتي” العسكرية، التي تبعد عن العاصمة “باماكو” 15 كيلومتراً. تطوّر يعتبر محطّة جديدة في التشظّي السياسي الذي تعيشه مالي منذ 2012م.
كانت ” كاتي” الثكنة العسكرية التي انطلقت منها العديد من الانقلابات العسكرية التي شهدتها مالي في غضون العشر سنوات الماضية.
سبق تَحَرٌّك الجيش بساعات قليلة إعلان الأمين العام لرئاسة الجمهورية عن تشكيلة حكومية جديدة (الثانية منذ بداية الفترة الانتقالية، المكلّفة بالعودة إلى الوضع الدستوري الطبيعي، والتي يفترض أن تنتهي بعد 18 شهراً). وأفاد الإعلان عن عزل عسكرِيَيْن من التعديل الوزاري الجديد – وهما من قادة الإنقلاب.
حيث اسْتُبْدل “ساديو كمارا” بـ “سليمان دوكوري” في منصب وزارة الدفاع، كما أخذ الجنرال (العميد) “مامادو بالو” حقيبة الكولونيل “موديبو كوني.”
جميع ما سبق يُفسّر احتجاج عناصر من المجلس العسكري السابق -من سلك الحرس الوطني، وجنود الدرك الوطني- عن التشكيلة الجديدة، ما أدى في النهاية إلى احتجاز الرئيس “انداو” وبعض المسؤولين الكبار في ثكنة ” كاتي.”
يصف أنصار الرئيس الانتقالي، الاحتجازَ بـ “محاولة انقلابية”، بَيْد أنّ المجلس العسكري السابق، يصممّ على اعتباره “استشارة استجوابية”.
وقد حاجج بعض المحللين بأنّ “إقالة أركان الانقلاب كان سوء تقدير فادح للموقف “وما إجراءات احتجازهم للرئيس ووزيره إلا سبيل يهدف إلى إعادتهم لمناصبهم”؛ وربما نيل استقالة هذه الحكومة التي لم تأبه بتحذيرات الجيش، وفضّلت التحدّي. مما دفع المراقبين للتساؤل، أهو انقلاب عسكري جديد في أقلّ من سنة، أم هو مجرّد صراع إرادات؟
بينما لا يرقى -برأيي- الاحتجاز إلى مرتبة “الانقلاب العسكري” حتى الآن، ما لم يتم استبدال رئيس المرحلة الانتقالية بآخر، فهو من المؤكد يَنصَبّ في مناورة سياسية عالية وحَرب إرادات بين الجيش من جهة، ورأس الرئاسة المدنية من جهة أخرى.
وهو ما يثبت الحقيقة التي كررناها أكثر من مرّة بإنّ المجلس العسكري (Junta) الذي قاد الانقلاب على ” كيتا” قبل 9 أشهر لم يغادر الساحة رغم حلّه، والأنباء عن تلاشيه وذوبانه في المناخ السياسي المالي الجديد، وكل ما جرى- ويجري- في الأسابيع القليلة الماضية من شرخٍ سياسي بين الجيش والرئيس الانتقالي ووزيره الأوّل، بمثابة صراع على الإرادات، لتهئية البيئة المناسبة لما بعد المرحلة الانتقالية، ومن ثمّ الكشف عمن سيفرض على الشعب المالي مرشّحه للانتخابات الرئاسية التي ستُجرَى في فبراير عام 2022م.
يسعى الجيش من ثكنة ” كاتي” في هذه المناورة لتثبيت عناصره عبر التمسّك بمناصب وزارية سيادية وحيوية في منظوره، وبالتالي تحقيق أهدافه عبرها على الصعيد الأمني، والترويج- بعده- لمرشّحه على أنّه الضامن لأمن جمهورية مالي الذي يعتبر المعضلة الحقيقية للبلاد التي فقدت سيطرتها على أكثر من ثلث أراضيها منذ 2012م.
ومن جهةٍ أخرى، أدرك رئيس المرحلة الانتقالية “انداو” سخط المجتمع المدني والطبقة السياسية عنه، وتخاذله عن تحقيق الإصلاحات السياسية والاجتماعية التي وعدت بها حكومته. ولتدارك الوضع، وأيضاً لتحقيق مكسبٍ على الجيش، يلزمه كسب ودّ المدنيين من قادة الحراك الذين أسقطوا الرئيس السابق ” كيتا” كورقة ضغط (رابحة) ضد عناصر المجلس العسكري.
وهذا ما يفسّر لماذا جددّ الرئيس “انداو” الثقة في الوزير الأوّل، حتى بعد تقديم حكومته لاستقالتها الأسبوع الماضي، وتكليفه بتشكيل حكومة جديدة.
وُصِفت الحكومة الجديدة التي تضمّ 25 حقيبة، بأنها “أكثر إشراكا للطبقة السياسية والمجتمع المدني”، حيث شملت التشكيلة عناصر كثيرة قريبة من الوزير الأوّل وحركة خمسة يونيو (M5) العنصر الرئيس في إسقاط “بوبكر كيتا” خاصةً أعضاء (URD) الحزب الرئيس في حركة ” M5″ الذي حصل على حقيبتين وزاريتين، هما: شؤون الأراضي، ووزارة التعليم الوطني. عطفاً على إشراك حكومة ” انداو” – في مشروع حكومة الانفتاح- عناصراً من بعض الجماعات المسلّحة والمتمردّين.
كانت حكومة مالي الانتقالية واعية بأبعاد هذا النزاع بينها وبين الجيش، وما يُمكن أن تؤول إليه، وفطنت إلى أنّ الحلّ – في حال سيناريو الوصول إلى طريق مسدود، مع جيش يمتلك السلاح “والحق الشرعي لاستخدام العنف”- هو الشعب المدني، لذلك قابل الوزير الأوّل قبل أسبوع من هذا الاحتجاز مختلف القوى السياسية، وتشاوروا حول كيفية إرضائهم، ما نتج عنه إشراكهم في الحكومة الجديدة السالفة الذكر.
في السياق المتصل، اتبّع الجيش نفس سياسة استمالة القوى المدنية، بعدما احتجز الرئيس ووزيره الأوّل مساء يوم الإثنين، باستدعاء قادة حركة خمسة يونيو (M5)، وكذلك القيادات الدينية المتمثّلة في المجلس الإسلامي، وممثلي الكنيسة.
هذا بعد أنْ غرق طرفا الصراع في خضّم أمواج المناورات السياسية، ومصارعة الأَذْرُع، فَطِنا إلى أن النصر سيكون حليفا لمن سيقف المجتمع المدني والطبقة السياسية الضاغطة معه. خاصةً وأنّ ممثل المنظمّة الإقليمية لدول غرب إفريقيا ” إيكواس “السيد” غودلاك جوناثان” -الرئيس السابق لنيجيريا- سيصل البلاد اليوم الثلاثاء، ما يفسر سبب سعي الطرفين لإضفاء “رغبة الشعب” على أطماعهما.
جدول المحتويات
ماذا عن الأبعاد الدولية للصراع في مالي؟
يذهب بعض المراقبين المتخصصّين في سياسات الساحل إلى أنّ سحب الحكومة الانتقالية لمناصب الجيش الرئيسية من أركان الانقلاب، أتى بعد أخذها استشارة فرنسا يوم شارك رئيس المرحلة الانتقالية “باه انداو” في مؤتمر باريس، وأمرته بإقصائهم، بعدما تأكدت من ولائهم لروسيا.
خاصةً أنّ كلٌ من العقيد “ساديو كمارا” والعقيد “موديبو كوني” وآخرين تلقّوا تدريبهم العسكري في روسيا. ويحاولان هندسة المرحلة الانتقالية بطريقة تسمح لهما باستبدال “الحليف الفرنسي” بـ “الحليف الروسي” في مكافحة الجماعات المسلّحة، ففرنسا بنظرهم جزء من المشكلة وليست الحلّ. وبحسب رأيهم؛ فإنّ عملية إقصاء ” كمارا” و ” كوني”، ردّة فرنسية على الموالين لروسيا في لعبة الشطرنج الواسعة في منطقة الساحل بين كتلة فرنسا في الساحل من ناحية، وكتلة روسيا من ناحية أخرى.
بينما لا يزال الغموض يكتنف حقيقة إضلاع الطرفين في الأزمة الراهنة، والواقفين وراء التشكيلة الحكومية الجديدة؛ إلا أنّ ما أسمّيه بـ “التكالب على إفريقيا 2.0” قائمٌ ومشهودٌ في كل صراعات إفريقيا جنوب الصحراء بين فرنسا وحلفائها من طرف، وروسيا والصين من طرف ثانٍ، وتركيا من طرف ثالث.
كانت المحطّة الأولى في صراع النفوذ الروسي الفرنسي، في غينيا الاستوائية؛ حيث استهدفت فرنسا حكومة “مالابو” عاصمة البلاد، بعدما اقتربت واستوردت أسلحة روسية عبر رجل روسيا في إفريقيا “يفغيني بريغوجين” (Evgueni Prigojine) مالك مجموعة “فاغنر”. بحسب التحيليلات، فإن فرنسا طالبتها بالنأي عن موسكو، فرفضت حكومة الرئيس ” تيودورو أوبيانغ نغيما مباسونغو”، لتُقْدِم بعدها فرنسا على تجميد أصول المسؤولين الكبار من غينيا الاستوائية في بنوكها، بمن فيهم ابن الرئيس، واتهمتهم بـ “الاستحواذ غير الشرعي للأصول” (Bien Mal acquis)، ما دفع غينيا الاستوائية إلى الارتماء في أحضان موسكو بالكامل.
لاحقا، انتقل الصراع إلى دول الجوار، فكانت المحطّة الثانية هي جمهورية إفريقيا الوسطى، إذْ حاولت فرنسا عن طريق دعم خصوم الرئيس “فوستان آركانج تواديرا” بشتّى الوسائل للإنقلاب عليه، بما في ذلك التمرد المسلّح، لكنّها باءت كلّها بالفشل. وآخر محاولة كانت قبل أسابيع حين قُبض على عسكري فرنسي تنكّر في هيئة صحفي ودخل البلاد بذخائر وأسلحة ثقيلة، يتوقّع أنّها للمتمردين والحركات المُسلّحة.
وتوالت سباقات الهيمنة والنفوذ، مروراً بالكاميرون، مدغشقر، موزمبيق، جنوب إفريقيا، والسودان. وباستهدافٍ أقلّ طموحاً في تشاد، النيجر، بوركينا فاسو، الجزائر، وساحل العاج.
واتخذت فرنسا من استراتيجية الشيطنة(Demonization ) والاستمالة عبر الدعم الاقتصادي والإعفاء من الديون، وسائل لاحتواء النفوذ الروسي المتصاعد من جهة، ولتقليص “الشعور المعادي” لفرنسا المتنامي في أوساط الجيل الإفريقي الصاعد من جهة أخرى.
فكانت جائحة كورونا الفرصة المواتية لفرنسا، حيث حاولت – عبر نبوءة كاذبة- التعاطف مع إفريقيا بتصريح زعم فيه أنّ القارة ستكون موبوءة بنسبة عالية مقارنة بأوروبا وآسيا، وأنّ فرنسا ستقف معها وستساندها، لكن –ليس أن النبوءة لم تتحقق فحسب- لتحقيق أجندتها، يتطلب من فرنسا النجاح في صناعة ” لقاح فرنسي” وهو ما فشلت في تحقيقيه.
بطبيعة الحال استغلت روسيا هذا الإخفاق، وكثفت “دبلوماسية اللقاح” وتوزيع “سبوتنيك5 (SputnikV) الروسي على العديد من الدول الإفريقية لتحسين صورتها. كان على فرنسا الردّ على الخطوة الروسية، فأعلنت عن “مؤتمر الإنعاش الاقتصاد الأفريقي” وأطلقت عليه “الصفقة الجديدة (NEW Deal) كنوعٍ من مغازلةٍ سياسيةٍ للقارة الإفريقية.
فالرئيس الفرنسي -إيمانويل ماكرون- الذي ما فتئ يوحي للأفارقة بأنّه “المسيح الجديد” ومن سينقذ سياسة ” فرنسا-أفريكا” المتهالكة الميكانيزمات، والمتهافتة السمعة، وجد في المؤتمر الذي أطلق عليه “النيوديل الأفريقي” الفرصة التي طالما انتظرها. فنشرت جميع الصحف الغربية تحت عنوان “مبادرة باريس لإنقاذ القارة من أزمة الديون التي أرهقت كاهلها ودمرت اقتصاداتها نتيجة الأضرار الناجمة عن فيروس كورونا.”
الغاية الفرنسية كانت “إعادة تحسين صورة فرنسا لدى الأفارقة”، كما يهدف المؤتمر إلى إيقاف الإستراتيجية الروسية الكبرى، التي ترغب بربط منطقة نفوذها من “خليج سرت” في ليبيا على البحر المتوسط، بالبر الإفريقي في إفريقيا الوسطى، إلى البحر الأحمر في السودان، المتمثلة في اتفاقية إنشاء قاعدة عسكرية روسية في بورسودان. “
وهذا ما يفسّر سبب تركيز الإعلام الفرنسي والغربي على السودان رغم مشاركة 15 رئيسا إفريقيا، و15 قائداً ما بين المؤسسات والهيئات، والجمعيات المدنية، في مؤتمر باريس بالقصر الكبير في قمة «تمويل الاقتصادات الإفريقية»؛ فقد خصصت فرنسا يوم 17 للسودان، واليوم التالي لبقية البلدان، لأنّ اللعبة الجيوبوليتيكية تقتضي وضع السودان وإلغاء ديونه، في المقدّمة.
في حين كانت القمة مخصصّة للوصول إلى آليات دعم اقتصادات إفريقيا، بمناقشة إمكانية إلغاء الديون وضخ السيولة والتمويل لجميع دول القارة وليس السودان فحسب.
إذاً لماذا التركيز على السودان؟
لفهم ذلك، سنرجع إلى الوراء قليلاً، بالضبط إلى السودان في عهد البشير 1989-2019م؛ حيث كان موالياً لكتلة روسيا، وقد منح البشير روسيا عبر اتفاقية رسمية حق بناء قاعدة عسكرية في بورسودان على البحر الأحمر.
لكن في أبريل 2021م في عهد سودان رئيس الوزراء “عبد الله حمدوك” ناقش مسؤولون مقربّون للقوى الغربية قرار “تجميد اتفاقية القاعدة الروسية على البحر الأحمر.”
وفي الأثناء، لم تنف الدوائر الرسمية في السودان هذا الخبر ولم تؤكده، ما يترك مجالاً للمناورة لكسب ود الحكومة الجديدة للسودان، وهذا ما يسعى إليه ماكرون. فالخطر الروسي على المصالح الفرنسية في الساحل خطر وجودي. وفرنسا بحاجة إلى تحسين صورتها، والسودان بحاجة إلى إعادة دمجه في الساحة الدولية والاقتصاد العالمي.
لذا أعلن الرئيس ماكرون إعفاء السودان من ديون بلاده، ومنحها قرضاً تجسيرياً مقداره 1.5 مليار دولار لسداد متأخرات السودان لصندوق النقد الدولي، ومرّرته فرنسا – بذكاء- على أنه عمل كريم، دون أنْ تكلّف نفسها عناء الشرح بأنّ الغرض من ورائه هو الحصول على امتيازات التنقيب في قطاعي النفط والذهب السوداني، ولاحقاً في اليورانيوم والكوبالت، كما أنّها فرصة لفرنسا لتحويل ديونها الجديدة على السودان إلى استثمارات بموجب ما يسمى بـ “عقد تخفيض الديون والتنمية.” (CD2).
عودةً إلى مالي
كانت الضغوطات الشعبية في مالي للتخلّص من فرنسا نشطة في الحراك الذي أطاح بالرئيس “بوبكر كيتا”، وغدوا يرفعون العلم الروسي، ويلمعون قادة الإنقلاب الموالين لروسيا.
وجدير بالذكر، أنّ محاولات فرنسا لقطع الطريق أمام الجنود الموالين لروسيا نجحت بتحريك المنظّمة الإقليمية ” إيكواس “والاتحاد الأفريقي-المرآة الأخرى لفرنسا في المنطقة- وفرضت إرادتها عبرهما، بتعيين رئيس مدني للفترة الانتقالية لجمهورية مالي. لهذا السبب دعمت فرنسا موقف الأنظمة الإقليمية والقاريّة، حين طالبت مالي بتسليم السلطة لرئيس مدني، لأنّ مصلحتها تقتضي إبعاد الموالين لروسيا.
في المقابل، حين اقتضى الأمر حماية مصلحتها في تشاد قامت بدعم المجلس العسكري. أيْ بتعبير أشد صراحةً، لا مبدأ قِيَمي لدى القوى الغربية، فمن يُؤَمِّن مصالحها تدعمه للبقاء في السلطة.
إلاّ أنّ فرنسا أدركتْ أنّ إرادة الجنود الموالين لموسكو صارمة، فانتهجت سبيل الشيطنة نهجاً معاكساً.
ففي دراسة للخبير السياسي “كوينتين فيلويت” (Quentin Velluet) بعنوان “حرب التأثير الروسي الفرنسي: حالتي مالي وإفريقيا الوسطى نموذجاً” في مجلّة “جون أفريك” تاريخ 16 ديسمبر 2020م؛ يؤكد فيه أنّ “فرنسا كثفت محاولات التلاعب العام بالجمهور المالي عبر منصّة فيسبوك، وعلى أرض الواقع” فأضحت تنشر خلال حسابات تنتمي للمخابرات الفرنسية منشورات من نوع “انتبهوا من امبريالية روسيا القيصرية في إفريقيا” وغيرها من سياسات نشر العداء تجاه موسكو، كوسيلة تدعو من خلالها مكافحة التوغل الروسي في أوساط الشباب المالي والأفرو-وسطي، لكن اكتشفتها إدارة فيسبوك وحذفت معظم حسابات فرنسا الوهمية.
“يمكنك أيضا قراءة: الصراع الروسي الفرنسي على إفريقيا: حرب الجيل الرابع وتضليل الرأي العام”
ويجدر التنويه إلى أنّ روسيا هي الأخرى اتخذت الاستراتيجية نفسها لتوسيع دائرة ” كراهية فرنسا” واللعب على إحياء ضغائن حقبة الاستعمار الفرنسي.
في سياق ما سبق، بَيْد أنّه لا توجد أدلّة صريحة على أنّ التشكيل الحكومي الجديد في مالي، كان بتوصيات المستشارين الفرنسيين في العاصمة المالية “باماكو”، إلاّ أنّ الخيال- على الصعيد الاستراتيجي والبراغماتي البحت- لا يُبعد وقوف ودعم فرنسا للكتلة الموالية لها في حكومة مالي، تأميناً لمصالحها ضد الكتلة المنحازة لروسيا وإبعاد كل خطر “محتمل” يدفعها لخسارة نفوذها في الساحل. كما يؤكد الرأي العام المالي المعترض على إقصاء الجيش، أن رئيس المرحلة الانتقالية، أخذ هذا القرار الجريء بعد عودته من مؤتمر إنعاش الاقتصاد الإفريقي في باريس. برأيي يمكن حل هذا اللغز عبر تشفير تصريحات باريس في الساعات القادمة.
الخاتمة ومؤشرات أحداث مالي
رغم جميع ما سبق، وإلى من تنتمي ولاءات طرفي النزاع (فرنسا أو روسيا)، بل ورغم إعراب الشعب المالي عن دعمه للإنقلاب الذي أطاح بـ “إبراهيم بوبكر كيتا”-كون ” كيتا” صار جزاءاً من المشكلة ودوامة العنف المتزايد في البلاد، إلاّ أنّ استحواذ الجيش على السلطة -في تاريخ مالي المعاصر- نتج عنه دائماً نقيض التوقعّات الإصلاحية، سواءً كانت سياسيةً، اجتماعيةً، اقتصاديةً، أو حتى أمنيةً.
وقد خلّفت تجربة مالي مع الحكومات العسكرية بين فترتي 1968-1991م نتائج كارثية، بدأت بركود النمّو الاقتصادي، وانتشر الفساد، وسَحق المظاهرات والاحتجاجات، كما تعرّض قادة أحزاب المعارضة للقمع بمختلف أصناف التعذيب.
ظلّ الوضع سيئاً حتى عام 1992م حين أجرت حكومة مالي إصلاحاً حقيقياً في الجوهر، وانتقل إلى نظام متعدد الأحزاب. منذ ذلك الوقت حققت مالي نمواً سنوياً للفرد بنسبة (4.5)، وقفز دخل الفرد من 300 دولار إلى قرابة 1000 دولار، أي ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل 1992م. مع أنّ المواطن المالي ، لا يزال -مع هذا الدخل- فقيراً وفقاً للمعايير الدولية، إلاّ أنّه أحرز تقدماً يجب الإشادة به.
انطلاقاً من هنا، يجب أنْ يدرك مروجّو فكرة “قيادة عسكرية” لحلّ التحدّيات الأمنية، وربما حل الفساد، والخلاص من براثن الفقر والخروج من عباءة فرنسا، بعد فتورهم من الطبقة السياسة المدنية الفاسدة، أنّهم قد يصابون بخيبة أملٍ مريرة، مع الحذر –أيضاً- من عدم إعادة تدوير الطبقة السياسية الفاسدة هي الأخرى. فالقيادة المدنية في المرحلة الانتقالية بَدَلَ مناصفة السلطة مع العسكر كما هو مُقررّ في “وثيقة المرحلة الانتقالية ” حاولت تعقيد الوضع بطرق ملتوية، وهي مجرد حكومة انتقالية لم يخترها الشعب، خاصةً وأنها تخدم أجندة فرنسية، ثم تحاول إيهام الشعب أنّ ذلك لمصلحته. الخلاصة، إن كان لمالي أنْ تتحالف مع قوى أخرى لتُبعد فرنسا يجب أن يكون من الشعب وليس من مجلسٍ عسكري لا صلاحية لديه لذلك، مهما كانت نياته حسنة.
مؤشرات الأحداث:
هناك مؤشران تثبتهما أحداث أمس، هما:
- إذا تُرك الحبل على غاربه للمجلس العسكري، فإنّ البلد قد يشاهد نمطاً تسلسلياً من الانقلابات، كلّما حدث تغيير لا يصبّ في صالح الجيش، وبما أنّ الجيش له الحق الشرعي لحمل السلاح، فسيسعون إلى توظيفه لحسم أي نزاع لصالحهم. وليس هكذا تبنى دولة مدنية. في البداية تمّ الاحتفاء بإنقلاب ( أو ثورة ) أغسطس على نطاق واسع باعتباره حررّ الشعب من إخفاقات ” كيتا”، لكن الرعب اللاحق من أنّهم قد يستفردون بالسلطة أثمر استجابة مختلفة، مما أوحى لكثير من الماليين أنّه لا يجب مكافأة الجيش بإعطائهم المزيد من النفوذ؛ برهاناً أنّ الحُكْم العكسري المطلق يجب ألا يبقى بلا تحديد. مع ذلك أرى إعطائهم ضمانات بعدم ملاحقتهم جنائيًا أيضًا.
- إنْ كانت ثمة استفادة إيجابية من الانقلاب العسكري على “كيتا” و “احتجاز قيادات المرحلة الانتقالية ” مساء أمس، فهي إدراك الشعب أنّ كلا الطرفين بحاجة له لإضفاء الشرعية على سلوكهما السياسي، لذا يجب على الطبقة السياسية والمجتمع المدني، والنقابات، مقايضتهما بالمطالبة بالتغيير، عبر القانون ولوازم لائحة الفترة الانتقالية، ودعم مؤسسات الدولة، إنّها الطريقة الوحيدة لتمضي الإصلاحات السياسية الضرورية قدمًا من دون عنف، وهي العملية النظامية في جميع الحالات الناجحة في القرن العشرين.