تحاول ورقة البحث هذه الفحص عن دِلالات ألفاظ أنماط الطعام في قصائد الشيخ أحمد بمبا، (العسل، الحليب، الرائب)، الواردة في قصائد الشيخ. وذلك بالنظر إلى مواقعها، وربط سِباقها بلِحاقها. فقررتْ في البداية أنّ دلالاتها محددة حسب محلِّ ورودها.
فتوجهت بذلك إلى تشغيلَ الآليات المعجمية ضمن المحور السياقي، محترزة من تقديم نتائج نهائية عامة، نظرا لعدم الإحاطة بجميع محالِّ الورود في القصائد وما ينتج منه من عدم التمكن بصياغة معنى عام كلي. وفي هذه الحالة، تتنوَّع دلالات لفظ طعامي واحد (سوءا كان لفظ العسل أو الحليب أو الرائب) إلى أكثر من دلالتين، وما يسعفنا من تحديدها هو إدراك السياق الحاضن لها.
من مجاري الكلام العربي تمريرُ الكلمات من منفذين؛ منفذِ تنفذ منه الكلمات حاملةً معانيها الحقيقية، ومنفذٍ تشحَّن الكلمات فيه بلفتات معنوية زائدةٍ، وعلى هذه المجاري تجري فيها الألفاظ المدروسة، وهي: “العسل” و “الحليب” و “الرائب”. ومن هنا تُثار إشكالية قراءتها بين ردِّها إلى معانيها الأصلية، أو حملِها على معانيها التبعية.
وتشتد هذه الإشكالية ونحن نتعامل مع كتابات مَنْ قد بان من خلال مؤلفاته عدمُ اهتمامه بملذات الدنيا، وحَصْحَصَ في الوثائق التاريخية ميولُه عن شهوات الطعام. صحيح أنه كان محطَّ هدايا شتى[1] ولو لم يهتم بها، ولكن لم تقتصر بهذه الضروب العطائية (العسل والحليب والرائب) فقط. كان من المنطقي أن يُسبِغَ ذكره على جميع الصِّلات الطعامية؛ لذلك ستميل قراءتنا إلى المنفذ الثاني (المجاز) مع الاحتراز من المنفذ الأول (الحقيقة).
جدول المحتويات
1. العسل وآثاره المعنوية في قصائد الشيخ الخديم
نختَطُّ في البداية أن ورود كلمة “العسل” مفيدةً لحقيقتها – بناء على الإحصائيات التي أجريناها – تتم في سياق اعتبار خاصية “الإعطاء” لله سبحانه وتعالى، على سبيل رد الجميل، بذكر العطاء. ذلك هو وجهه الحقيقي، فثمة أوجه أخرى تجري على نحو الانحراف من المعنى الحقيقي.
1.1. العسل والرُّسُل بين إشباع النفس وإرواء الروح
من محالّ ورود كلمة “العسل” أذيالُ الأبيات، وذلكم بعد الصلاة والتسليم على الأنبياء عامة، والتوسل بهم، وعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة. وفي ذلكم السياق التذييلي معنيان:
- معنى عام: وهو أنّ العلاقة الموجودة بين “النحل و “فضلاتِه” (العسل)، هي الموجودة بين “الأنبياء والرسل”. إن “العسل” مُخرَج من “النحل” شفاءً للأجسام،[2] و”الرسلَ” فِئامٌ خاصة من “الأنبياء” شفاءً للأرواح، فـالنحل، كما هو، لا يشفي الأجسام السقيمة، و”الأنبياء”، كذلكم، ليست لهم درجة إرواء الأرواح العاطشة. إذا كان ذلكم “الرسل” خواص “الأنبياء”، فثمة خاصُّ الخواص، هو ما وسِم بالسطور الآتية.
- معنى خاص: وهو للرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم (العسل المصفى)، فهو مصطفىً من “الأنبياء” ثم “الرسل” ثم “الخمسة والعشرين” المذكورين في القرآن الكريم، ثم من “أولي العزم”[3]. فهذه التصفية العامة (تصفية الرسل من الأنبياء) والخاصة (تصفية الرسول صلى الله عليه وسلم من أولي العزم) هي المستبطنة في هذين البيتين الآتيين بوسيلة كلمة “العسل” وحدِها:
وَاجْزِ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرَّسُلِ عَنِّيَ خَيْرًا يَا مُنِيلَ الْعَسَلِ[4]
كَلَامُ مَنْ أَرْسَلَ خَيْرَ مُرْسَلِ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ مُعْطِي عَسَلِ[5]
1.2. العسل والحلاوة، من الذوق اللساني إلى الذوق الجَناني
كثيرا ما تدلِّلُ العرب حلاوةَ الشيء سِواءً كان مأكولا أو مشروبا أو مشعورا بمقاربته بحلاوة “العسل”، وخيرُ الدليل على ذلكم هو أقوالُ أفصحِ العرب محمد صلى الله عليه وسلم.[6] إلا أن جميعَ الموارد التي لحظنا فيها نقل حلاوة “العسل” إلى شيء خارجٍ عنه ترتبط غالبا إما بالقلب، في مثل هذا البيت:
وَجَّهَ لِي مَوْلِدُ خَيْرِ مُرْسَلِ حَلَاوَةً تُخْجِلُ طَعْمَ الْعَسَلِ[7]
أو يرتبط باللسان،[8] في مثل هذا البيت:
أَكْرَمَنِي الْأَكْرَمُ فِي التِّلَاوَةْ بِمُخْجِلِ الْعَسَلِ فِي الْحَلَاوَةْ[9]
أو يتعلق باليد، في مثل هذا البيت:
وَلِيَ هَبْ تَوْحِيدَ كُلِّ مُرْسَلِ وَكُلَّ صَاحِبٍ وَخَطِّيَ عَسِّلِ[10]
ومَجمَع هذا التعالُقِ هو ((تلقي أمرٍ له أثر في نفس المتلقي)). إذْ إن “الحلاوة” ما هي إلا طِيبُ الشيء في ميل من النفس إليه، وتحسينُه[11]، لا يهم هل تحققت “الحلاوة” من اللسان أو من اليد أو غيرهما.
إن “الحلاوة” المتحققة بالقلب هي حلاوة إحياء مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فالتوسل بالقلب هنا لذوق حلاوة إحياء النبي، من باب التواصل الروحاني العرفاني بين الخديم الشيخِ أحمد بمبا ومخدومِه صلى الله عليه وسلم.[12] والحلاوة الحاصلة باللسان هي حلاوة تلاوة القرآن الكريم (لا غرو أن يكون اللسان القاسم المشترك بين استعمال “العسل” في طبيعته الحقيقية، وبين استعماله في إحدى مجازاته الموسَّعة). ليس من مّأَمِّ الورقة الابتحاث عن منزل القرآن الكريم عنده، ولكن يعني الورقةَ ذلكم الإكرامُ المخجِل لحلاوة “العسل”.
نبقى في المعنى الخاص لـ “العسل”، وهو أنه مشروب منزوع من “النحل”، فهو أُكرِم بهذا التخصيص،[13] والحلاوة القرآنية هنا حلاوة تخصيص لا حلاوة تعميم، بدليل إسناد ياء المتكلم المفردة إلى فعل “أكرم” الذي يفيد التخصيص. إذن، الحلاوة الأولى المخجلة لحلاوة “العسل” هي “حلاوة التخصيص” في تلاوة القرآن الكريم.
فثمة حلاوة أخرى، هي “حلاوة التكريم”[14]. يكمن معنى هذه “الحلاوة” في مادة (ك. ر. م) لفعل “أكرم”، إذْ إن هذه المادة المعجمية مشتركة من عدة صيغ منها: الكرامة، وهي ما تهمنا في هذا الاتجاه التأويلي.
لابد من إفصاح معنى “الكرامة”[15] لما يحمل من موجهات دلالية مهمة لما نسعى إليه، وهي يدور مفهومه عند جمهور المتكلمين وغيرهم حول المعنى الكلي وهو “خرق العادة”[16]؛ أي تصريف في الوجود بما يصادِم العوائدَ الكونية. ذلكم التصريف وتلكم العوائد الكونية جميعا قدرُ الله وإراداته، ((وليست تُستقبح عقلا وليس فيها قدح في المعجزات.. فالقول بامتناعها لا وجه له))[17]، خلافا لما يقولونه التوليديون[18]/المعتزلة بأن إثباتَ “الكرامة” لأولياء الله إساءةُ الأدب لله تعالى.
ما يهمنا من كل هذا هو أن إبداء ما يخالف العوائد الكونية في أيدي الأولياء مظهر من مظاهر قوات الله، كالعوائد الكونية نفسِها قبل أن تدخلها استثناءات، وتلكم القوات الألوهية هي سر كون “العسل” شفاءً لوخامة البلايا، وهو أيضا “استثناء وجودي”. فهذا “الاستثناء” تكريم[19] لـ”النحل” كما هو تكريم للشيخ أحمد بمبا بمعرفة حلاوةٍ روحيةٍ تفوق حلاوة “العسل”.
إنّ الحلاوتين السابقتين لهما تعلق مباشر بالشيخ؛ أي هو المعنيُّ بهما،[20] أما الحلاوة المتحققة ب “الخط” فتُعمم لجميع قارئيها، بالإضافة إلى الشيخ نفسِه. ونستدل لها بهذا البيت:
وَلِيَ هَبْ تَوْحِيدَ كُلِّ مُرْسَلِ وَكُلِّ صَاحِبٍ وَخَطِّيَ عَسِّلِ[21]
الحلاوة التي تخص الشيخ هي “حلاوة ممارسة التأليف”، لا تنظر إلى لفظ “الحلاوة” كغاية بيولوجية، بل راجِع دلالاتها المعجمية الأولى. وقد أكدنا سابقا أنها تدل ((طِيبَ الشيء في ميل من النفس إليه، وتحسينَه))[22]، نقول، انطلاقا من هذا المعنى، إن ارتياح الشيخ إلى التأليف أداةً للتربية والتعليم والشكر والثناء والعبادة والخدمة…، واتخاذَه القناةَ التبليغية لرؤيته للعالم[23] هما “الحلاوة الحقيقة” عنده.
أما الحلاوة التي يغتذي بها قارئوها تتفاوت حسب النوايا والمقاصد والشهوات، نصنفهم في طبقات ثلاث:
- الطبقة التبركية: يذوق أصحابُ هذه الطبقة حلاوةَ أسرار قصائدَ الشيخ الروحية. من آداب المائدة لأجل ذوق هذه الحلاوة إخلاصُ النية والطهارة واستقبال القبلة وستر العورة واستحضار الشيخ… تتظاهر هذه الحلاوة من خلال التواصل الروحاني والكشوفات والظفر بالجنة والنجاة وفعل خوارق العوائد الكونية، يروي محمد الأمين جوب أن مريديه الحازمين كانوا يسقطون من أعلى الشجرة بدون جراحة، ويدخلون في النار فيخرجون بدون الاحتراق[24].
- الطبقة المستعربة: نسمي أهل هذه الطبقة ب “المستعربين”؛ لأن استهلاكهم للقصائد يبقى في البنية الأسلوبية المعذَّبة والعبارات اللغوية المستملحة، يقومون كثيرا بالمقارنة بين قصائد الشيخ أحمد بمبا وقصائد الآخرين من حيثُ الأسلوب وجزالة الألفاظ وشرفها ولذاذة وقوعها في النفس، وحسن التشبيهات والاستعارات[25]، وأغلب هؤلاء هم من ليس لهم رابط روحي مع الشيخ.
- الطبقة المستلهِمة: هي الأقل وجودا والأندر، ومحصولاتُها هي الأوفر والأكثر، طابعُ أصحاب هذه الطبقة هو قراءة القصائد قراءةً واعيةً فاحصةً، تستنبط منها كل أنواع العلوم والمعارف، والحلاوة الاستكشافية لخفايا المعاني لها ما لا يُتصور من الارتياح النفسي والاقتناع الذاتي، تتجلى هذه الحلاوة في تمسك النفس لهذه المعاني المكتشفَة وإيثارِها على المعاني المتداولَة.
وللجرجاني نص في عبارات واضحة يؤيد ما قلناه، يقول فيه: ((من المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نَيله أحلَى، وبالمزِيَّة أولى، فكان موقعه من النفس أجلّ وألطف، وكانت به أضَنَّ وأَشْغَف))[26]. ولكن من المؤْسف، أن تعامل الباحثين للقصائد الروحية مقتصر على أقلها، وأن أكثرهم يقرءون عن القصائد، ولا يقرءون في القصائد، والقراءة الأولى استدلال بها لتثبيت أحداث خارجية، بينما القراءة الثانية استنباط المعارف من أغوار القصائد. هذه القراءة هي الضامنة لإخراج إضافات الشيخ أحمد بمبا الفكرية والمعرفية في السوق العالمية العلمية.
أو تنصهر تلكم الحلاوة العامة مع النفس، كما في هذا البيت:
أكرمني الباقي بأحلى عسل بعمري عن الأذى منغسل[27]
إن الحلاوة في هذا البيت ظاهرة بشكل جلي، وإذا عدنا إلى معناها الحقيقي، أي طيب النفس إلى شيء، فسنجد عكسَها مَنفِيًّا في البيت (الأذى)، فالنفس تطيبُ ما ليس فيه أذًى، إذن الحلاوة هنا تحمل معنى “صَفاء عمره المبارَك من الأذى”.
1.3. الكسل والعسل، نظرات في دِلالة اقترانهما
نُقلت آثار عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم في باب الاستشفاء ب “العسل”، في البلايا الوخيمة، تدل هذه الآثار على فعالية “العسل” وسرعةِ تأثيره. إذا كانت تلكم الفعالية في باب البلايا الطبيعية، فما بالها في البلايا القلبية (الأمراض القلبية المعروفة مثل الكذب والرياء…)؟ وهل يقي العسل منها؟ نبحث عن إجابات هذه التساؤلات في البيت الآتي بنوع من التضفير التأويلي، والانعطاف العُرفي، وذلك بالجمع بين منطق سِياج البيت اللغوي، ومرجعيتِه الخارجية:
صَلِّ صَلَاةً مِّنْ وُقُوفٍ وَكَسَلْ مَانِعَةً يَامَنْ أَدَامَ لِلْعَسَلْ[28]
تُعتبر كلمتا “الوقوف والكسل” المفتاحَ لكسر معاني هذا البيت، ومعرفةِ نوع شفاء “العسل” هنا، ولكن بدون إهمال العِلاج المفهوم من ظواهر الآثار النبوية. إذْ إن الشفاء موجود مهما كان، ولكن غير المعهود. بل هو ضد البلايا غيرِ الملموسة؛ أي القلبية، ويهمنا هنا بلاءُ “الوقوف والكسل”.
إن “الكسل” في المنظور الصوفي مذموم؛ إذْ يحول دون النهوض بالعبادات وأعمال الخير والأذكار المنذورة، أو تسويفِها وتأجيلِها. و”الوقوف” هو الرجوع عن الطريق المسلوك، وقطعُ العقود الموثوقة (البيع) مع الشيخ المربي. يستمنع الشيخ أحمد بمبا من ربه تحققَ هذا الانقطاع عبر أسلوب “الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم”،[29] وامتناعُهما يعني دوامَ “العسل”؛ لأن الدواء الفعّال (العسل) لا يجتمع أبدا مع الداء (الكسل والوقوف).
2. الحليب والقناة التواصلية في قصائد الشيخ الخديم
إنّ التواصل غير اللغوي متعدد الأدوات والطرائق خلافا للتواصل اللغوي الذي طريقه الوحيد هو الكلام، وهو ضيِّق من حيث القدرة الإنتاجية (نستدل بالبُكْم والذين أصيبوا بالحبسة، وأن الكلام مخصوص بدائرة لا يُتفاهم به خارجها)، ومنغلق من حيث القدرة التأويلية؛ إذْ يقتضي معرفةَ المحيط الثقافي والاتفاق الرمزي والتصور العالمي للمتواصلين.
من بين هذه الطرائق التواصلية غير اللغوية “الطعام”، ربما أكثرها تذرعا بأداء الأغراض والحاجات؛ لكثرة تباشر الناس به طوال اليوم؛ لذلك إن الطعام ((لغة تنقل المعاني من خلال بنيتها ومكوناتها))[30]. وهذه المعاني الممكنة ما سنسعى استبصارها في “الحليب” في قصائد الشيخ الخديم.
2.1. الحليب والنجيب، ترتيب أفقي
إن “الحليب” خالص بلونه الملازم له رغم تنوع مصادره، إنه يحفظ لونه طالما يبقى في طبيعته، إذا تغير لونه معنى ذلك أن جميع ملازماته تغيب؛ بما في تلك طعمُه ورائحته. وإذا ننظر إلى مثل هذه القناة التواصلية لا يعني أننا نكتفي بطبيعته النفعية (الإرواء)، وإنه لا بد من كشف بنيتها ومكوناتها المستبطنة من ألوانها وأذواقها وروائحها، والميزة الكبرى في استخدام هذه الوسائل التواصلية أنها تُطوي معاني غزيرة في كلمة واحدة، كما سنلاحظها في الأبيات المدروسة.
إذن أول ما نقرر هو أن من معاني “الحليب” في قصائد الشيخ الخديم “الصفاء والكمال” وذلك في هذا البيت:
حُبُّ النَّبِيِّ الْمُنْتَقَى لِي حَلَبَا حَلِيبَ كُنْ بِمَالِكِي فَانْحَلَبَا[31]
إنّ المقامات في الأدبيات الصوفية درجاتٌ، وفي نفس المقامات أيضا درجات متفاوتة. ومعلوم أن من المقامات “القبول” وهو أن يقبل الله كل مراد الولي المقلّد بها، وهو معنى “كن فيكون”. ولا شك أن المرء قد يُقبل حينا وقد لا يُقبل حينا آخر، فالدرجة الأسنى هي القبول في كل أمر وفي كل الحين، وهو المعنى المفهوم من هذا البيت بدليل إضافة “حليب” إلى “كن”.
تظهر فيما سبق الصفتان الملازمتان ل “الحليب” “الكمال والصفاء” أي الكمال الإرادي والصفاء القلبي، وعندما يصل المريد السالك (بالمفهوم الصوفي الواسع) إلى هاتين الدرجتين يصبح مرادَه منقادا، ويعبِّر الشيخ نفسه كثيرا في قصائده هذه المرتبة مثل البيتين الآتيين:
يَقُودُ لِي مِنْكَ رَسُولُ اللهِ مَا شِئْتُ مِنْكَ أَبَدًا إِلَهِي[32]
إِذَا جَلَبْتُ أَوْ دَفَعْتُ بِالَّنَّبِي قَادَ وَذَبَّ ثُمَّ قَالَ أَطْنِبِ[33]
وتظهر سمة مركزية تنضوي تحتها الصفات المذكورة وغير المذكورة، هي “الملازمة”؛ إذْ إن جميع الصفات ملازمة ل “الحليب” تتحقق ببقاء “الحليب” في أصله، وينكدر صفاءه حين تستحيل إحداها. وضد الملازمة هو “الانتزاع”، صُرِّح في قصائد الشيخ أحمد بمبا بالمصطلح (الانتزاع) تصريحا لا يتبعه لبس، نستدل له ببيت واحد وهو:
نَزَعَ لِي وَلَيْسَ مِنِّي يَنْزِعُ وَإِنّنِي بِهِ حِمًى وَمَفْزَعُ[34]
2.2. الحليب والقلوب، دراسة سوسيولوجية للمجتمع السنغالي أوان مجيء الشيخ أحمد بمبا وأحوال أتباعه قبل قبول دعوته التجديدية
من المؤكد أن الورقة لا تسِع أن تجمع هذه الحقبة الزمنية المتشعبة القضايا، يعنيها فقط الابتحاث في تيمة “الحليب” لمحاتِ هذه القضايا، ونتركز على مصدره ومجاوراته الطبيعية.
يخرج “الحليب” من بطون الحيوانات الناطقة وغير الناطقة، ولكن المقصود هنا حليب الحيوانات غير الناطقة (بهيمة الأنعام)، وهذه البطون يتراكم فيها الفرْثُ والدم مع الحليب (اللبن) دون أن يختلط بهما ويتغير لونه أو طعمه أو رائحته.
إن الأتباع الذين تلبوا دعوة الشيخ لم يكونوا أراذلَ القوم، هم كانوا أسيادا وعلماء؛ منهم إخوته، وزملاؤه في الكُتَّاب، وذووا الأقلاد الْمُلكية، وغيرُ جاهلي المعرفة الإلهية. إن مريديه كانوا صفوة مختارين من هذا المجتمع الشائك، وكانوا نُسَّاكا عبادا قبل أن يتفيؤوا تحت ظلال الشيخ. يقابل الأتباعُ الكبار “الحليب” من حيث الصفاء والطهارة، ويقابل بعض المتقاعسين “الفرث والدم” من حيث الدنس والنجاسة.[35] نستدل لهذه التقابلات بالبيتين الآتيين:
صَلِّ صَلَاةً لِي تَجُودُ بِالْغُيُوبْ وَلِسِوَى قَلْبِي تُزَحْزِحُ الْعُيُوبْ
مَعَ سَلَامٍ لِي يُلَيِّنُ الْقُلُوبْ بِلَا أَذًى وَلِي يُخَلِّدُ الْحَلِيبْ[36]
والشيخ هو أول من فعل التقابل حينما ذيَّل البيتين بالضدين “العيوب” (حال المجتمع) و”الحليب” (حال مريديه). ما حال مريديه بعد تصدرهم من هذا المجتمع الدنِس، وتلقيهم التعاليم الدينية والإصلاحات الروحية من عتد الشيخ؟
وسنذهب نفس المذهب للإجابة عن هذا السؤال، وهو أن صفاء المصدرية هو سماتهم المميِّزة طيلة حياتهم، رغم اختلاطهم مع الناس، وانغماسهم في ذلكم المجتمع الوسِخِ، والغريب أنهم يؤدون مهامَّ التصفية والإصلاح في المحيط الذي يعيشون فيه بعد ضمان سلامتهم ونجاتهم من كدرات عصرهم.
لا بد أنْ نشير هنا إلى بعض لمحات، هي أن “الطعام” بصفة عامة، و”الحليب” بصفة خاصة تؤلفه بنيات معينة وتكوِّنه مقومات خاصة تمثل الهوية المميزة له، تتمثل تلكم المقومات في الشكل والرائحة والذوق واللون، تتوزع خواصُّه النقائية بين هذه المكونات. وغنى عن الإبانة أن التربية في الأدبيات الصوفية تشمل جميع أعضاء الجسم؛ فهي المنافِذ للعيوب المتسرِّبة من وساخة المجتمع. إذا تصورنا الحليب إنسانا، فلا بد أن نأخذ مكوناتِه أعضائَه الملازِمةَ له؛ فانقطاع إحداها؛ يعني غيابُ بعض مقوماته.
3. الحليب والرائب، الشريعة بدايةٌ والحقيقة نهايةٌ: محطات التربية في التصوف
من ألفاظ “الطعام” المعلنَةِ دراستُها “الرائب”، وستكون استمدادا لما سبق؛ إذْ إن “الرائب” هو “الحليب” الذي قد ضُمَّ وجمِع[37]، وهو الحليب في حال جماده. نروم في هذا المقام إثباتَ التدرجات في سيْر المريدين السالكين (بالمفهوم الواسع) من خلال تدرج “الرائب” من “الحليب”، ونعتمد على الأبيات التالية:
صَلِّ صَلَاةً تُذْهِبُ الْأَمْرَاضَاذ لِغَيْرِنَا وَتُصْلِحُ الْأَغْرَاضَا
مَعَ سَلَامٍ يُصْلِحُ الْقُلُوبَا وَيُجْلِبُ الرَّائِبَ وَالْحَلِيبَا[38]
أَلَانَ لِي بِالْمُنْتَقَى رَبِّي الْقُلُوبْ وَرَائِبًا يَقُودُ لِي مَعَ الْحَلِيبْ[39]
إن الملحوظ المهيمن في هذه الأبيات هو إسناد فعلين مختلفين بنيةً ومتفقين معنًى إلى اسم “القلوب”، وفك معاني هذه التعالقات يتيح لنا أن نفهم العلاقة المجازية الرابطة بين “الرائب” و”الحليب”.
إن التربية في الفكر الصوفي إصلاح وإلانة لقلوب المريدين، يستغرق مدةً غير قصيرة حتى يغدوا جامدين عقيدةً وثابتين إيمانًا ك “الرائب”. من هنا نؤكد أن بدايات المسلم ك “الحليب” من حيث الهشاشة الإيمانية، ويصبح ك “الرائب” بعد التربية والإصلاح الروحي. ويفيد فهمُنا لمقصود “الحليب” و”الرائب” في قصائد الشيخ أحمد بمبا بأن الأولَ رمزٌ للشريعة، والثانيَ إشارةٌ إلى “الحقيقة”، والأولَ ابتداءٌ، والثانيَ انتهاءٌ، يستدعيان مَعبَرا يُسلك فيه فوق مطية الرَّكوب بقيادة القائد.
فالمعبر هو السلوك، والمطية هي التربية، والقائد هو الشيخ المربي. يؤدي هذا الترميز استراتيجية حجاحية قوية يكون من الصعب دحضُها، ولا سبيل إلا القبول لها، يقتنع بها المتلقي بضرورة استقالة سفينة الشريعة للاستسقاء من بحر الحقيقة، لا تستقيم الحقيقة بدون الشريعة، كما لا يتكوَّن “الرائب” بنفسه، ولكن تصح الشريعة بدون الحقيقة ولو تكون ناقصة كنقصان لذاذة “الحليب” عن شهوة “الرائب”، يؤكد الشيخ هذه العلاقة الشائكة في موقع آخر، يقول:
وَمَنْ تَفَقَّهَ بِلَا تَصَوُّفٍ فَذُو تَفَسُّقٍ صَرِيحٍ فَاعْرِفِ
وَمَن يَّكُنْ بِعَكْسِ ذَا فَإِنَّهُ إِلَى تَزَنْدُقٍ أَمَالُوا شَأْنَهُ
وَمَنْ لِّفِقْهٍ وَّتَصَوُّفٍ جَمَعْ فَهُوَ الذِي حُقَّ أَن يَّتَّبَعْ[40]
عبَّر الشيخ خطورة إهمال الشريعة عند سلوك طريق أهل الحقيقة، وفضلَ جمعهما بمعجمين يليق الوقوف عليهما لإثبات تأويلنا.
إن مادة الفاء والقاف، ومهما يثلثهما،[41] تفيد الانفصال والانشقاق؛ لذلك فمادة (ف. س. ق.) تدل على العصيان والخروج عن طريق الحق[42] (الحقيقة)، فهي أدنى من مادة (ز. ن. د. ق) التي تفيد سترَ الكفر وإظهارَ الإيمان[43]، يؤكد الشيخ من خلال المعجمين أن متفقها غيرَ متصوفٍ خارجٌ عن طريق أهل الحقيقة، وأن متصوفا غيرَ متفقهٍ نافقٌ وخادع لنفسه. ونظرا للصيغة الصرفية لكلي المعجمين (افتعل)، فإننا نجد أن الذي يزعم تجريدَ الفقه عن التصوف، أو النزولَ في مهْمَع التصوف بغير الفقه، فإنه كمن يتحمل مالا يطيق حملَه (إن صيغة افتعل تدل على التحمل).
4. نظرة تركيبية لأنماط الطعام في قصائد الشيخ أحمد بمبا
لاحظنا في هذه الجولة التفحصية أن أكثر موارد “الطعام” في قصائد الشيخ أحمد بمبا تأخذ الطابع المجازي، عن طرائق مختلفة تنشأُ علاقاتٍ غيرِ محددة، ولهذا السبب قد تتباين التأويلات وتتعارض. تتمثل محصولات البحث في تقرير مهِمِّ حاصلِه أنه لا يمكن الجزم على تأويل واحد، لذلك يظل هذا التأويل الذي تبيناه بين القوسين؛ أي غير مسلَّم به كليا لاعتبارات منها: عدمُ الإحاطة بجميع الأبيات التي ورد فيها “ألفاظ الطعام”، وأخذُ الاعتبار بمقصود الشيخ في استخدامه خارجاً عن معهود كلام العرب، وذلك معروف عند المتصوفة. وفي هذه الحال نعطي المروياتِ الصحيحةَ السندِ مرجعا أساسا في فك شفرات الرموز المعقدة في قصائد الشيخ.
وعلى هذا، ندعو الباحثين إلى تغيير نمط قراءتهم المختزل، لا بد من قراءة قصائد الشيخ قراءة تفحصية، نستطيع بها تمييز أفكار الشيخ الأصيلة. ولتحقيق هذه الرؤية القرائية ذات القيمة الاكتشافية يتطلب رفعَ الستار الصوفي بأسلوبه البارز وجهازه المفاهيمي المهيمن في غالبية القصائد الخديمية. وذلك بالوقوف على كل معجم مستخدم في البيت المدروس، وعقدِ علاقات بينها لينتج معنى معينا.
إذْ إنّ الشيخ بارع في استخدام الألفاظ الأكثر فعالية لتأدية مراده، ولاسيما في ذكر أسماء الله الحسنى، وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم، من يظن أنه يستخدمها (أي أسماء الله تعالى وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم) في موقع محدد هكذا فلم يباشر القصائد حق المباشرة. شأن القصائد هو شأن القرآن الكريم في هذه الخصوصية؛ ينقص المعنى المفهوم من الآي القرآنية دون مراعاة مزيَّلاتِها، وغالبا تكون أسماءَ الله الحسنى.
إن خواتم الأبيات في الكتابات التعلمية (المدرسية) تشكل أنماطا تبئيرية لمواقف الشيخ الخديم، هي بمثابة التعليقات والمداخلات والحوار المعرفي بينه وبين النص الأصلي (علما أن أغلب المنظومات العلمية نُظمت من منثورات أجنبية)، وهذا الحوار نوع نقدي سواء كان إيجابيا أو سلبيا.
وألا يهمل الباحثون منجزاتِ العلماء الأصوليين والمحدثين واللغويين، ولا سيما أعمالهم المتعلقة بالقرآن الكريم، ولكن بوعي التفريق بين التي يمتاز بها القرآن الكريم وغيرَها، وأن ينفتحوا على المناهج اللغوية الجديدة مثل الحجاج واللسانيات والسيميائية والتداولية والأسلوبية؛ مما تتيح له الإمكانيات التأويلية الفائقة، يتحكم عليها السياج الداخلي والسياق الخارجي للنص المدروس.
ولله الحمد بدئا وختما.
_____________________
الهوامش والإحالات
[1] ولاسيما فترة مكوثه في جوربل تحت الإقامة الجبرية مدة خمسة عشر عاما.
[2] وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ ٦٨ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ﵞ [النحل: 68-69].
[3] وهم سيدنا نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
[4] – الشيخ الخديم أحمد بمبا، قصيدة نور الدارين في خدمة الحامي عن النارين (مخطوطة).
[5] – الشيخ الخديم أحمد بمبا، القصيدة المقيدة بحروف: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” ومطلعها: إلى فؤادي ويدي ووطني/وجود رب قاد ذكر عطني (مخطوطة).
[6] ورد في صحيح مسلم: حدثنا سويد بن سعيد، وابن أبي عمر جميعا، عن مروان الفزاري، قال ابن أبي عمر: حدثنا مروان، عن أبي مالك الأشجعي سعد بن طارق، عن أبي حازم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن حوضي أبعد من أيلة من عدن، لهو أشد بياضا من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم، وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه”. قالوا: يا رسول الله، أتعرفنا يومئذ؟ قال: “نعم، لكم سيما ليست لأحد من الأمم، تردون على غرا محجلين، من أثر الوضوء”. صحيح مسلم، مجلد1/كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، حديث: 247/ص: 149.
[7] – الشيخ الخديم أحمد بمبا، القصيدة المقيدة بحروف: ” مولد النبي لي” ومطلعها: مولد أحمد ربيع الأول….. (مخطوطة)
[8] نقصد باللسان هنا وظيفته النطقية. ومن هنا يكون “اللسان” عضوا مركزيا في تعاطي “العسل” حقيقة ومجازا.
[9] – الشيخ الخديم أحمد بمبا، القصيدة المقيدة بحروف: ” إن أجري إلا على الله” ومطلعها: أكرمني الله بأفضل الورى/وصان بي إلى الجنان السورا (مخطوطة).
[10] – الشيخ الخديم أحمد بمبا، نور الدارين في خدمة الحامي عن النارين (مخطوطة).
[11] – ابن فارس أبو الحسين أحمد، معجم المقاييس في اللغة، تحقيق شهاب الدين أبي عمرو، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع-بيروت-لبنان، ط1/2011/مادة (ح. ل. و).
[12] بالتأكيد كان هذا التواصل في مرحلة من حياته؛ حيث إن العلاقة الرابطة بينه وبين مخدومه فيما بعدُ هي: العلاقة الخِلِّيَّة، كما قال:
أقسمت بالله إني للنبي أبدا خل وحب وماآباه يأباه.
من قصيدة مقيدة بحروف الآية: لقد جاءكم رسول من أنفسكم (مخطوطة)..
والعلاقة التلازمية كما قال:
ولجت في جيب رسول الله عبدا خديما راضيا بالله.
ديوان الفلك المشحون (مخطوط). إن الجيب هو ملازم لصاحبه؛ لذا أطلقه دلالة على تلازمه صلى الله عليه وسلم.
وكذلك هي العلاقة الاتصالية بدون افصال كما قال:
على الذي بيني وبينه اتصل بلا انفصال يا نجي من وصل.
قصيدة نور الدارين في خدمة الحامي عن النارين (مخطوط).
[13] يكفي هذا التخصيص أنه يخرج منه شراب يقي عظماءَ البلايا، كما ورد في سنن ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال: من لعق العسل ثلاث غدوات كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء. سنن ابن ماجه، كتاب الطب، باب العسل، مجلد5/ ص: 125.
[14] التكريمات المخصصة لبني آدم ثلاثة: “التكريم التقويمي.” ((لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ ٤ ﵞ [التين: 4]، “تكريم التسوية” ((فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ ٢٩ﵞ [الحجر: 29]، “التكريم التسخيري” ((وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ١٢)) [النحل: 12].
[15] وقع خلاف حول “الكرامة” بين مثبتيها لأولياء الله ومن ينكرونها لهم. والخلاف تمتد جذوره من اختلاف الأنظار إلى “السنن الكونية”؛ فالمعتزلة الذين يقرون ب “السببية” في الوجود؛ أي أن الأشياء تحدث بسبب خارجي يؤدي إلى حدوث تلكم الأشياء، حيث ((لا يحصل المسبب بأن يعرضه عارض فيمنعه من التوليد)). عبد الجبار القاضي، شرح الأصول الخمسة، تحقيق عبد الكريم عثمان، مكتبة وهيبة، ط3/ 1996م/ ص: 389. ينكرون بهذا النظر “الكرامات”؛ إذْ أنها خرق لهذه القاعدة الكونية، وهو سوء أدب تجاه الله تعالى. بيد أن الأشاعرة ينكرون هذا “السببية”، ويعتبرونها مشاركة في ملك الله تعالى في إيجاد الموجودات، لذلك ينظرون إلى السنن الكونية بأنها متقارنة، فالذي يقولون بأنه مسبِّب هو في الحقيقة مقارن للمسبَّب، طال هذا الاقتران حتى يحسب أنهما تربطهما علاقة سببية. لذلك، إن تدخلَ صفوة الأولياء في التصريف في الكون ليس من باب خرق القوانيين الكونية، حاشا لهم أن يفعلوا ذلك وهم أخضعوا الناس وأعلمهم عظمة الله تعالى، بل إن تصريفاتهم من تلكم القوانيين والعادات، وهي رأي أبي إسحاق الإسفراييني، نقله تاج الدين السبكي في طبقاته، يقول: ((إن الكرامات لا تبلغ مبلغ حرق العادة)). السبكي تاج الدين، طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو ومحمود محمد الطناحي، دار إحياء الكتب العربية، (بدون ذكر سنة النشر وعدد طبعاته في المطبوعة المعتمدة)، ج2/ ص: 315.
[16] – الفرجي محمد، التفكير الديني زمن الوباء ضمن الكتاب الجماعي: خطاب الجائحة، رؤى ومقاربات من تنسيق محمد الفرجي-عبد اللطيف عادل-هشام فتح، مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال مراكش-المغرب، ط1/2020م/ص: 172.
[17] – النيسابوري أبو سعيد عبد الرحمن، الغنية في أصول الدين، تحقيق عماد الدين أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، 1987م/ط1/ص: 153.
[18] هم الذين يقولون ب “التوليد الواجب” لسيرورات الموجودات من المعتزلة.
[19] مثل التكريم بالوحي: (وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ ٦٨) [النحل: 68]. ولكن اختلف العلماء في الوحي هنا، هل هو استعمل حقيقة أو مجازا.
[20] ولكن إذا نظرنا إلى “القصائد” باعتبارها إعادة إنتاج لما تلقاه الشيخ أحمد بمبا (ذكره لشمائل الني صلى الله عليه وسلم بأسلوبه الخاص، وذكره لفضائل القرآن الكريم وآدابه في التلاوة لإعداد القلب في تلقي حلاوته) نتعبر أن الحلاوة شاملة له ولمريديه الأتباع. لدكتور صالح سلام نص مهم يؤيد ما ذكرناه، لأهمية النص سأسرد كله رغم طوله، يقول: ولن نخطئ إذا قلنا إن القصائد بهذه الدلالة الموافقة للتداول الإسلامي، تنطوي على دعوة دينية تتكلم بلغة الإسلام، وتنادي من خلال جهازها المفاهيمي (أي أسلوبها) إلى التوسل، وتتوجه لدعوة المريدين إلى التواصل مع الماضي، مع الصالحين السابقين على أساس الحضور مع الله والإخلاص… والإقبال عليه بالهمة والتأدب بآداب جميع المتوسَّلين (بهم) من الأنبياء والرسل والصالحين، بمن فيمم الشيخ الخديم نفسه، ليتذوقوا، بقراءتها والاستماع إليها، أسرار طريق الحق ومكاشفة أنوار الحقيقة وثمراتها المعرفية الباطنة والأخلاقية التي تطهر القلوب وترقي الأرواح إلى عالم الملكوت. سلام صالح، من أجل إعادة قراءة المريدية، مشروع رؤية، دار الأمان للنشر والتوزيع، ط2/2023م/ص: 206.
[21] – الشيخ الخديم أحمد بمبا، نور الدارين في خدمة الحامي النارين (مخطوط).
[22] – ابن فارس أبو الحسين أحمد، معجم المقاييس في اللغة، مذكور، مادة (ح. ل. و).
[23] ورؤيته للعلم رؤية مركبة يندمج فيها الروحاني والواقعي، سلام صالح، من أجل إعادة قراءة المريدية، مشروع رؤية،
[24] – الدكاني الشيخ محمد الأمين جوب، إرواء النديم من عذب حب الخديم، دراسة وتحقيق عبد القادر امباكي شيخ ميمونة-مام مور حمدي امباكي-محمد بمب درامي-شيخنا خديم امباكي مرتضى فاضل-أبي مدين شعيب تياو-عيسى عافية كي، مطبعة المعارف الجديدة-الرباط، ط1/2017/ص: 95.
[25] ميول هؤلاء إلى استحسان الألفاظ تذكرنا بإيثار المعتزلة الألفاظَ على المعاني.
[25] – الجرجاني عبد القاهر، أسرار البلاغة، تحقيق محمود شاكر، مطبعة المدني-القاهرة، (دون ذكر التاريخ والعدد)، ص: 139.
[26] – الجرجاني عبد القاهر، أسرار البلاغة، تحقيق محمود شاكر، مطبعة المدني-القاهرة، (دون ذكر التاريخ والعدد)، ص: 139.
[27] – الشيخ الخديم أحمد بمبا، القصيدة المقيدة بحروف: عام جكسش (مخطوط).
[28] – الشيخ الخديم أحمد بمبا، نور الدارين في خدمة الحامي عن النارين (مخطوط).
[29] ننبِّه في هذا المقام الباحثين بأن لا ينظروا إلى أساليب الشيخ أحمد بمبا، وجهازها المفهومي ذي الطابع الصوفي، مثل الدعاء والتصلية والشكر… مجردة عن النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية والحضارية والثقافية… التي تمثل رؤيةً مركبَّة لرؤيته للعالم.
[30] – كارول م. كونيهان، أنثروبولوجيا الطعام والجسد: النوع، والمعنى، والقوة، ترجمة سهام عبد السلام، إشراف جابر عصفور، المركز القومي للترجمة-القاهرة، ط1/2013/ص: 38.
[31] – الشيخ الخديم أحمد بمبا، من القصيدة المقيدة بحروف: محمد الممدوح (مخطوطة).
[32] – الشيخ الخديم أحمد بمبا، من القصيدة المقيدة بحروف الآية: وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد (مخطوطة).
[33] – الشيخ الخديم أحمد بمبا، من القصيدة المقيدة بحروف الآية: واتقوا الله….. (مخطوطة)
[34] – الشيخ الخديم أحمد بمبا، منن الباقي القديم في معجزات الراقي المخدوم (مخطوط).
[35] ظلت الأطباق الطعامية معيارَ تمايز الطبقات الاجتماعية، والغريب أن ((بين الطبقة والطبق صلات لفظية ودلالية، قد تدفع بنا إلى الموازاة بين الطبقات الاجتماعية والأطباق الأكلية، ما دام لكل طبقة طبق طعامي يميزها)). العوادي سعيد، الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي، أفريقيا الشرق-المغرب، 2023م/ص: 42. ومما تدل على هذه الرتبة الطبقية بناء على الأطباق الأكلية رواية الأصمعي عن ذي الرمة: ((إذا قلت للرجل: أي اللبن أطيب؟ فإن قال: قارص، فقل: عبد من أنت؟ وإن كان الحليب، فقل: ابن من أنت؟)). الدينوري أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، عيون الأخبار، دار الكتب العلمية-بيروت، 1418ه/ج3/ص: 230.
[36] – الشيخ الخديم أحمد بمبا، نور الدارين في خدمة الحامي عن النارين (مخطوط).
[37] – ابن فارس أبو الحسين أحمد، معجم المقاييس في اللغة، مذكور، مادة (ر. أ. ب).
[38] – الشيخ أحمد بمبا، نور الدارين في خدمة الحامي عن النارين (مخطوط).
[39] – الشيخ أحمد بمبا، من القصيدة المقيدة بحروف: أدعو إلى الله على بصيرة، ومطلعها: أذهب جملة العدى لغيري/من للجنان لي يصفي ميري (مخطوطة).
[40] – الشيخ الخديم أحمد بمبا، مسالك الجنان في جمع ما فرقه الديماني، دراسة وتحقيق دائرة روض الرياحين، مطبعة المعارف الجديدة-الرباط، 2014/صص: 42-43.
[41] مثل: فأق- فتق- فرَّق- فلق- فشِق- فقَّ- فقه- فهَق- فاق.
[42] – ابن منظور، لسان العرب، دار صادر-بيروت، ط3/1414ه/مادة (ف. س. ق).
[43] – الفيرزآبادي مجد الدين أبو ظاهر محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، تحقيق مكتبة تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت-لبنان، ط8/2005م/مادة (ز. ن. د. ق).
قائمة المصادر والمراجع
-
القرآن الكريم برواية الورش عن نافع
-
الجرجاني عبد القاهر، أسرار البلاغة، تحقيق محمود شاكر، مطبعة المدني-القاهرة، (دون ذكر التاريخ والعدد).
-
الدكاني الشيخ محمد الأمين جوب، إرواء النديم من عذب حب الخديم، دراسة وتحقيق عبد القادر امباكي شيخ ميمونة-مام مور حمدي امباكي-محمد بمب درامي-شيخنا خديم امباكي مرتضى فاضل-أبي مدين شعيب تياو-عيسى عافية كي، مطبعة المعارف الجديدة-الرباط، ط1/2017م.
-
الدينوري أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، عيون الأخبار، دار الكتب العلمية-بيروت، 1418ه/ج3.
-
السبكي تاج الدين، طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو ومحمود محمد الطناحي، دار إحياء الكتب العربية، (بدون ذكر سنة النشر وعدد طبعاته في المطبوعة المعتمدة)، ج2/.
-
سلام صالح، من أجل إعادة قراءة المريدية، مشروع رؤية، دار الأمان للنشر والتوزيع، ط2/2023م.
-
سنن ابن ماجه، كتاب الطب، باب العسل، مجلد5.
-
ابن سيده أبو الحسن، المخصص، تح مجموعة من المحققين، دار إحياء التراث العربي، بيروت-لبنان، ط1/ 199.
-
الشيخ الخديم أحمد بمبا، من القصيدة المقيدة بحروف: أدعو إلى الله على بصيرة، ومطلعها: أذهب جملة العدى لغيري/من للجنان لي يصفي ميري (مخطوطة).
-
الشيخ الخديم أحمد بمبا، القصيدة المقيدة بحروف: " إن أجري إلا على الله" ومطلعها: أكرمني الله بأفضل الورى/وصان بي إلى الجنان السورا (مخطوطة).
-
الشيخ الخديم أحمد بمبا، القصيدة المقيدة بحروف: " مولد النبي لي" ومطلعها: مولد أحمد ربيع الأول..... (مخطوطة)
-
الشيخ الخديم أحمد بمبا، القصيدة المقيدة بحروف: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" ومطلعها: إلى فؤادي ويدي ووطني/وجود رب قاد ذكر عطني (مخطوطة).
-
الشيخ الخديم أحمد بمبا، القصيدة المقيدة بحروف: عام جكسش (مخطوط).
-
الشيخ الخديم أحمد بمبا، ديوان الفلك المشحون (مخطوط).
-
الشيخ الخديم أحمد بمبا، قصيدة نور الدارين في خدمة الحامي عن النارين (مخطوطة).
-
الشيخ الخديم أحمد بمبا، مسالك الجنان في جمع ما فرقه الديماني، دراسة وتحقيق دائرة روض الرياحين، مطبعة المعارف الجديدة-الرباط، 2014م.
-
الشيخ الخديم أحمد بمبا، من القصيدة المقيدة بحروف الآية: واتقوا الله..... (مخطوطة)
-
الشيخ الخديم أحمد بمبا، من القصيدة المقيدة بحروف الآية: وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد (مخطوطة).
-
الشيخ الخديم أحمد بمبا، من القصيدة المقيدة بحروف: أدعو إلى الله على بصيرة، ومطلعها: أذهب جملة العدى لغيري/من للجنان لي يصفي ميري (مخطوطة).
-
الشيخ الخديم أحمد بمبا، من القصيدة المقيدة بحروف: محمد الممدوح (مخطوطة).
-
الشيخ الخديم أحمد بمبا، من قصيدة مقيدة بحروف الآية: لقد جاءكم رسول من أنفسكم (مخطوطة)..
-
الشيخ الخديم أحمد بمبا، منن الباقي القديم في معجزات الراقي المخدوم (مخطوط).
-
الشيخ الخديم أحمد بمبا، نور الدارين في خدمة الحامي عن النارين (مخطوطة).
-
صحيح مسلم، مجلد1/كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء.
-
عبد الجبار القاضي، شرح الأصول الخمسة، تحقيق عبد الكريم عثمان، مكتبة وهيبة، ط3/ 1996م.
-
العوادي سعيد، الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي، أفريقيا الشرق-المغرب، 2023م.
-
الفارس أبو الحسين أحمد، معجم المقاييس في اللغة، تحقيق شهاب الدين أبي عمرو، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع-بيروت-لبنان، ط1/2011/مادة (ح. ل. و).
-
الفرجي محمد، التفكير الديني زمن الوباء ضمن الكتاب الجماعي: خطاب الجائحة، رؤى ومقاربات من تنسيق محمد الفرجي-عبد اللطيف عادل-هشام فتح، مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال مراكش-المغرب، ط1/2020م.
-
فيرزآبادي مجد الدين أبو ظاهر محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، تحقيق مكتبة تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت-لبنان، ط8/2005م/مادة (ز. ن. د. ق).
-
كارول م. كونيهان، أنثروبولوجيا الطعام والجسد: النوع، والمعنى، والقوة، ترجمة سهام عبد السلام، إشراف جابر عصفور، المركز القومي للترجمة-القاهرة، ط1/2013م.
-
ابن منظور، لسان العرب، دار صادر-بيروت، ط3/1414ه/مادة (ف. س. ق).
-
النيسابوري أبو سعيد عبد الرحمن، الغنية في أصول الدين، تحقيق عماد الدين أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، 1987م/ط1.