إليزابيث دوميتيان (Elisabeth Domitien) هي أول امرأة تشغل منصب رئيس وزراء في جمهورية إفريقيا الوسطى، وتُعَدّ بذلك أول سيدة تتولى منصب رئاسة الوزراء في جمهورية إفريقيا الوسطى؛ بل وفي القارة الإفريقية برمتها. كانت إليزابيث دوميتيان سيدة أعمال وناشطة سياسية منذ سن مبكر ومؤيدة للرئيس الراحل جان بيديل بوكاسا، وكانت نائبة رئيس حزب حركة التطور الاجتماعي لإفريقيا السوداء ميسان (MESAN).
سيتناول هذا المقال حياة السيدة إليزابيث دوميتيان بشيء من التفصيل؛ حيث يركز على محطات مهمة في حياتها، ابتداء من النشأة والتعليم، والحياة الاجتماعية، والمعترك السياسي، والمواقف السياسية، ووفاتها.
إليزابيث دوميتيان Elisabeth Domitien
جدول المحتويات
نشأة إليزابيث دوميتيان وتعليمها
ولدت إليزابيث دوميتيان في عام ١٩٢٥م بمحافظة لوباي (Lobaye) بجمهورية إفريقيا الوسطى التي تعرف آنذاك باسم “أوبانغي شاري” (Ubangi-Shari)، وهي الابنة الوحيدة لوالديها. كان والدها موظف بهيئة البريد ووالدتها مزارعة بسيطة. نشأت إليزابيث في لوباي، وتلقت تعليمها الابتدائي في مدرسة راهبات كاثوليك خلال حقبة الاستعمار الفرنسي؛ إذْ تعلمت القراءة والكتابة والحساب والخياطة؛ لكنها لم تتابع تعليمها المدرسي بعد ذلك، فكانت ترافق والدتها إلى المزرعة ومساعدتها في بيع المحاصيل الزارعية كونها تجيد العمليات الحسابية.
هكذا نشأت دوميتيان كشابة بسيطة في نظر الأجيال المعاصرة؛ لكنها بطلة ومثقفة بالنسبة لجيلها في خمسينيات القرن المنصرم.
حياة إليزابيث دوميتيان الاجتماعية
عاشت إليزابيث دوميتيان طوال فترة حياتها في العاصمة بانغي (Bangui) وتزوجت مرتين، كان زوجها الأول هو السيد جان باكا (Jean Baka) الذي كان يعمل محاسبًا في شركة ملاحة بحرية ومتنقلاً بين بانغي وبرازافيل (Brazzaville) عاصمة جمهورية الكونغو. أنجبا ابنتهم الوحيدة بياتريس (Beatrice)؛ لكن علاقتهما لم تستمر طويلاً وانفصلا تقريبا في عام ١٩٤١م. بعدها تزوجت للمرة الثانية من السيد نغوكا لانجاديج (Ngouk Langadiji)، رجل الأعمال الذي كان يملك مزرعة للْبُنّ وعمدة في موباي (Mobaye)، بمحافظة باس-كوتو (Basse-Kotto) في جمهورية إفريقيا الوسطي.
إنّ مساعدة والدتها في بيع المنتجات الزراعية أكسبتها خبرة بأن تصبح سيدة أعمال، وبدأت بتجارة المجوهرات، ووظفت مهارة الخياطة التي تعلمتها في المدرس لفتح ورشة خياطة خاصة. كانت تتمتع بشخصية قوية وجريئة ومغامرة ومجتهدة، وأصبحت نموذجاً يُحْتذَى به في مجتمعها من قبل السيدات اللواتي اجتمعن حولها، وأصبحت لهن قائدة غير رسمية في المجتمع.
الحياة المهنية للسيدة إليزابيث دوميتيان
في أوائل العشرينيات من عمرها، وفي خمسينيات القرن الماضي، انضمت إليزابيث دوميتيان إلى المناضل بارتيليمي بوغاندا (Barthélemy Boganda)، الأب المؤسس لجمهورية إفريقيا الوسطى الحديثة، الذي أسس حركة التطور الاجتماعي لإفريقيا السوداء (ميسان) في ٢٨ سبتمبر ١٩٤٩م، وهي حركة شعبية مناهضة للاستعمار الفرنسي. كافح بوغاندا من أجل استقلال جمهورية إفريقيا الوسطى التي كانت تُعرف آنذاك باسم أوبانغي شاري.
فصاحة إليزابيث وقوة خطاباتها باللغة المحلية (السانغو) مكنتها من أن تحشد الشعب للالتفاف حول حركة التطور الاجتماعي من أجل إفريقيا السوداء (مسيان). وعلى إثر ذلك، تعاونت دوميتيان بشكل وثيق مع بارتيليمي بوغندا مؤسس الحركة، وعملت على توحيد جميع أطياف الشعب وبث روح الوطنية، وأصبحت رئيسة المجموعة النسوية في حركة التطور الاجتماعي لأفريقيا السوداء (ميسان).
أتت جهود إليزابيث دوميتيان ومساهماتها بثمارها؛ حيث في ١ ديسمبر ١٩٥٨م حصلت مستعمرة أوبانجي-شاري، جمهورية إفريقيا الوسطى حاليا، على حكمها الذاتي بقيادة ومساهمة قوية من إليزابيث دوميتيان، ونتيجة لذلك أصبح اسم البلد يعرف بـ “جمهورية إفريقيا الوسطى”، وأصبح بارتيليمي بوغندا أول رئيس للحكومة حتى وفاته في حادث تحطم طائرة في ظروف غامضة في ٢٩ مارس ١٩٥٩م، وذلك قبل أن يُنَصّبَ رسميا.
وفي ١٣ أغسطس ١٩٦٠م، حصلت جمهورية إفريقيا الوسطى على استقلالها بشكل رسمي، وأصبح دافيد داكو (David Dacko) أول رئيس للبلاد. بعد الاستقلال، عملت دوميتيان عن كثب مع الرئيس ديفيد داكو أيضا، وأصبحت مستشارته السياسية الخاصة، وقامت برحلات خارجية رسمية لمدة ٤٥ يومًا إلى أوروبا – فرنسا والمملكة المتحدة وبلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا وجمهورية ألمانيا الاتحادية وإيطاليا واليونان من أجل توطيد العلاقات الخارجية للدولة الوليدة.
كما عملت على التوفيق بين المصالح الخارجية والداخلية للدولة، وسعت إلى تحسين مستويات معيشة الشعب على مستوى جميع الأصعدة. حكم الرئيس داكو البلاد بِيدٍ من حديدٍ، وأصبحت البلاد دولة ذات حكم الحزب الواحد، حزب ميسان، باعتباره الحزب الوحيد والقانوني في البلاد، مما أصبح البعض يصفه بالرئيس الدكتاتور. وفي عام ١٩٦٥م أطاح العقيد جان بيدل بوكاسا (Jean Bédel Bokassa) بالرئيس داكو، وأنهى حكمه من خلال انقلاب عسكري وأعلن نفسه رئيساً للبلاد وحكمها أيضا بقبضة من حديد.
تعيين إليزابيث دوميتيان رئيسا للوزراء
وفي عام ١٩٧٢م، أعلن بوكاسا نفسه رئيسًا للبلاد مدى الحياة، وعين إليزابيث دوميتيان نائبة رئيس حزب حركة التطور الاجتماعي لإفريقيا السوداء (ميسان). ولم يكتف الرئيس بوكاسا بذلك؛ بل منح نفسه أعلى رتبة عسكرية ليكون مشيراً ومن ثم نصب نفسه امبراطورا لجمهورية إفريقيا الوسطى، وذلك في ١٩ مايو عام ١٩٧٤م. وفي حفل تنصيبه، ألْقَتْ إليزابيث دوميتيان خطابًا مدحت فيه بوكاسا وأهدته عصا ترمز إلى القوة والسلطة، وأكدت ولائها الكامل له.
وتعرضت السيدة إليزابيث لانتقادات عديدة بعد هذا الخطاب من قبل بعض الأشخاص في جمهورية إفريقيا الوسطى لدعمها بوكاسا، إلا أنها ترى بأنه يجب على الشعب احترام زعيمهم واتباع أوامره. وفي الوقت نفسه طالبت الرئيس بوكاسا بضرورة احترام الشعب والحفاظ على مصالحه والدفاع عنها.
نالت دوميتيان رضا بوكاسا، ففي ٢ يناير ١٩٧٥م قام بوكاسا بتشكل حكومة جديدة، وأختار السيدة إليزابيث دوميتيان لتشغل منصب رئيس الوزراء، وبذلك أصبحت أول امرأة تُعَيّين في منصب رئيس وزراء في جمهورية إفريقيا الوسطى؛ بل في القارة الإفريقية عامة، والرابعة على مستوى العالم.
مواقف إليزابيث دوميتيان السياسية
لقد كانت إليزابيث دوميتيان امرأة صريحة، ولم تكن تخشى التعبير عن رأيها حتى للرئيس، ودائماً ترفض أي سياسة متبعة لا تلبي توقعات الشعب. بفضل موقعها قرب بوكاسا وسيادة منصبها، استطاعت إخراج العديد من الأشخاص الذين تم اعتقالهم واحتجازهم تعسفياً في معتقلات بوكاسا دون محاكمات. كما عملت على تعزيز وضع المرأة في جمهورية إفريقيا الوسطى ورفع مستوى دخلها.
كانت إليزابيث دوميتيان موضع احترام وتقدير الكثيرين بسبب صدقها وصراحتها.
وقالت ذات مرة في حديثها: “لقد احترمني الرئيس بوكاسا؛ لأنني كنت أقول الحقيقة”
عندما أراد بوكاسا إعلان نفسه امبراطورًا للبلاد، عارضت إليزايبث خطته، ونصحته بأنّ قرار إعلان نفسه امبراطوراً لا يجد قبولاً من قبل المجتمع الدولي، إلّا أنّ بوكاسا تجاهل نصيحتها، ونفذ قراره مما أدى إلى توترت علاقتها مع بوكاسا، وقام بإقالتها من منصب رئاسة الوزراء، وذلك في تاريخ ٤ أبريل عام ١٩٧٦م. وفي بداية عام ١٩٧٩م استدعاها الامبراطور بوكاسا مرة أخرى، وعينها مستشارة في قصره.
ومع نهاية العام نفسه، وتحديدا في ٢٠ سبتمبر ١٩٧٩م، أطاحت قوات فرنسية خاصة بالامبراطور بوكاسا، وأنهت حكمه عبر انقلاب عسكري، وأعادوا تنصيب الرئيس السابق دافيد داكو رئيساً للبلاد. وبعد الإطاح بوكاسا، أُلْقِيَ القبض على إليزابيث دوميتيان وتقديمها للمحاكمة التي حكمت عليها بالحبس حتى انتهاء التحقيق، وذلك بتهمة اختلاس أموال عامة يُزعم أنها اختلستها خلال فترة عملها كرئيسة وزراء، وذلك في فبراير ١٩٨٠م.
وبعد مُضي عام، أُفْرج عنها (فبراير ١٩٨١م) بعد أن برأتها المحكمة من التهم التي وجهة إليها، ومع ذلك مُنعت من العودة إلى العمل السياسي، وصادرت حكومة داكو جميع املاكها تقريبًا. قررت دوميتيان الانسحاب من الحياة العامة والعمل السياسي؛ وركزت جهودها للاعتناء بحياتها الخاصة وتطوير عملها الخاص، وأصبحت تتنقل بين العاصمة بانغي ومدينة بيمبو(Bimbo). وهكذا ظلت بعيدة عن السياسة ومهمشة من قبل الحكومة؛ لكن المجتمع لم ينس ما قامت به من أجل وطنها.
لكنّ الرياح غالبا تجري بما لا تشتهيه السُّفنُ، لم يلبث الرئيس دافيد داكو طويلا حتى أطاح به الجنرال ورئيس أركان الجيش -آنذاك- أندريه كولينجبا (Andre Kolingba) عبر انقلاب عسكري غير دموي، وذلك في ١ سبتمبر ١٩٨١م، وحكم كولينجبا البلاد لمدة ١٢ عاماً. وهكذا ظلت دوامة الانقلابات العسكرية في جمهورية إفريقيا الوسطى مستمرة حتى عام ١٩٩٣م.
تم انتخاب السيد آنج فيليكس باتاسيه (Ange-Félix Patassé) رئيساً للبلاد عبر صناديق الاقتراع، وهو أول رئيس مدني يتم انتخابه ديموقراطياً في جمهورية إفريقيا الوسطى. كما أنّ الجنيرال كولينجبا يعتبر أول رئيس إفريقي يخسر الانتخابات وهو في سدّت الحكم ويسلم الحكم بمراسم رسمية وبشكل ودي لغريمه المدني الذي اختاره الشعب.
بعد وصول السيد باتاسيه على السلطة، اقترح على السيدة إليزايبث العودة إلى العمل السياسي لكنها رفضت الاقتراح، ثم قدم لها مساعدة مالية وأمر بإعادة تجديد منزلها كتعويض عن المعاملة غير العادلة التي تعرضت لها. وفي سبتمبر ٢٠٠٣م، أصبح الجنرال بوزيزيه -الذي انقلب على آنج فيليكس باتاسي وعرقل العملية الديموقراطية في البلاد- رئيسا لجمهورية إفريقيا الوسطى، ودعا السيدة دوميتيان للمشاركة في الحوار الوطني الذي نظمه، وطلب منها التحدث عن تجاربها السياسية وخبراتها المختلفة خاصة عندما كانت تشغل منصب رئيس الوزراء.
وفات إليزابيث دوميتيان
توفت السيدة إليزابيث دوميتيان في ٢٦ أبريل ٢٠٠٥م بمدينة بيمبو، وأقيمت لها جنازة رسمية في ١٠ مايو ٢٠٠٥م بعمر يناهز الثمانين (80) عاما. وبهذا طوى التاريخ صفحة المرأة السياسية المناضلة المكافحة ورائدة أعمال، أول امرأة في إفريقيا تشغل منصب رئيس الوزراء، ورابعة على مستوى العالم. على الرغم من تعليمها الأكاديمي المتواضع؛ إلا أنها استطاعت أن تضع بصمة واضحة في تاريخ السياسة الأفرووسطية. وحاولت إشعال شمعة أمل لتظل مضيئة في طرقات مغطاة بعتمة مخلفات السياسة، كي يهتدي بضوئها الخافت أجيال باحثة عن مخرج من النفق الذي انزلقت فيه البلاد منذ عقود متعاقبة نتيجة للممارسات الخاطئة للساسة والقادة العسكريين!
على الرغم من الدور العظيم الذي لعبته السيدة إليزابيث دوميتيان في عالم السياسة، ومغامراتها المتعددة في بيئة تسودها الغطرسة الذكورية من قادة عسكريين متغطرسين وساسة هلعين متوحشين؛ إلا أنها لم تترك للأجيال اللاحقة مذكرات خاصة بها تُدَوِّنُ فيها تلك المغامرات التي أُرِيدَ لها أن تنتهي وتندثر بين سراديب القصر الرئاسي، وأروقة مبنى رئاسة الوزراء وتوابعها. وهذه معضلة منتشرة في ربوع إفريقيا وليست جمهورية إفريقيا الوسطى فحسب.
ليت كل شخصية خاضت معتركا سياسيا، أو تقلّدت منصبا سياديا أو اجتماعية، تدوّن ملاحظاتها الخاصة، وتكتب مذكراتها؛ لتكون شاهدة على حقبة من حقب التاريخ، وتظل مصدرا ملهما للأجيال المتلاحقة.