اتفاقية الدفاع بين تشاد وفرنسا التي استمرت 66 عامًا انتهت بقرار جريء يعكس رغبة تشاد في تعزيز سيادتها ورفض الإرث الاستعماري. القرار، الذي يحمل تداعيات على منطقة وسط إفريقيا، يشير إلى تحول في العلاقات مع القوى العالمية ويثير تساؤلات حول مستقبل التحالفات والسيادة الإفريقية، وهو ما يناقشه هذا المقال بتفصيل.
جدول المحتويات
الخطوة الجريئة لتشاد تنهي عقوداً من الوجود العسكري الفرنسي
في قرار تاريخي يعيد تشكيل الملامح الجيوسياسية لمنطقة وسط إفريقيا، أعلنت تشاد رسميًا إنهاء اتفاقية الدفاع مع فرنسا التي استمرت 66 عامًا. هذا الإعلان، الذي صدر في 28 نوفمبر 2024، يعكس اتجاهًا متزايدًا في إفريقيا لمواجهة الإرث الاستعماري واستكشاف تحالفات جديدة. وقد أثار هذا القرار نقاشات واسعة النطاق داخل القارة وخارجها، لما له من تداعيات على الأمن الإقليمي والسيادة وتوازن القوى العالمي.
اتفاقية الدفاع، التي أبرمت في عام 1958، كانت تمثل رمزًا لنفوذ فرنسا المستمر في مستعمراتها السابقة. وقد وفرت الاتفاقية لفرنسا قواعد عسكرية استراتيجية ومكنت من التدخل في الشؤون الأمنية الداخلية لتشاد، تحت ذريعة تحقيق الاستقرار في البلاد ومنطقة الساحل. ومع ذلك، ومع مرور الوقت، بدأ العديد من التشاديين في اعتبار الاتفاقية إرثًا استعماريًا، حيث أولوية المصالح الجيوسياسية الفرنسية كانت تأتي على حساب سيادة تشاد.
ما الذي دفع تشاد لاتخاذ هذا القرار؟
جاء إعلان تشاد وسط موجة من المشاعر المناهضة لفرنسا التي تجتاح منطقة الساحل ووسط إفريقيا. من مالي إلى بوركينا فاسو، اتخذت قرارات مماثلة للنأي بالنفس عن فرنسا، مما يعكس استياءً واسع النطاق من تدخلاتها العسكرية، التي يُنظر إليها غالبًا على أنها غير فعالة وتخدم مصالحها الذاتية. في تشاد، ازداد هذا الاستياء على مدى عقود، مدفوعًا بتصورات الاعتماد المفرط وشراكات غير متكافئة.
الرئيس محمد إدريس ديبي إيتنو، الذي تولى السلطة في عام 2021 بعد اغتيال والده، يبدو مصممًا على رسم مسار جديد لتشاد. من خلال إنهاء اتفاقية الدفاع، يرسل ديبي إشارة قوية إلى التزامه بسياسة خارجية أكثر استقلالية وسيادة، متماشية مع الحركات الإقليمية التي تسعى إلى مزيد من الاستقلال عن القوى الاستعمارية السابقة.
السياق الجغرافي والسياسي لتشاد لعب أيضًا دورًا حاسمًا في هذا القرار. تقع البلاد في مفترق طرق لعدم الاستقرار الإقليمي، تحدها السودان وليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى. فشل فرنسا في تحقيق الاستقرار في ليبيا بعد التدخل بقيادة الناتو عام 2011، ووجود مجموعة فاغنر الروسية المتزايد في جمهورية إفريقيا الوسطى، قد غيّر حسابات تشاد. هذه الديناميكيات تؤكد الحاجة إلى تحالفات متنوعة وسيطرة أكبر على الأمن الوطني.
التأثير الإقليمي لقرار إلغاء اتفاقية الدفاع بين تشاد وفرنسا
هذا القرار يتردد صداه عبر الجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا (CEMAC) ومنطقة الساحل، حيث تعيد الدول التفكير في اعتمادها على القوى الخارجية. إنهاء تشاد لعلاقاتها الدفاعية مع فرنسا يعزز السرد المتزايد حول مستقبل تقوده إفريقيا، وهو ما يتجلى في الكونفدرالية الساحلية الناشئة—وهي تحالف إقليمي مقترح يركز على التعاون الاقتصادي والأمني بعيدًا عن النفوذ الغربي. من خلال رفض الاتفاقية، تضع تشاد نفسها كقائد محتمل في هذه الحركة، مما يعكس التزامها بسيادة إفريقيا.
ومع ذلك، فإن التداعيات على الأمن الإقليمي معقدة. الوجود العسكري الفرنسي، رغم عيوبه، وفر قدرًا من الاستقرار في مواجهة الجماعات المسلحة مثل بوكو حرام والمليشيات التابعة لداعش. قدرة تشاد على مواجهة هذه التهديدات بشكل مستقل—أو من خلال شراكات إفريقية—ستكون اختبارًا حاسمًا لهذا القرار.
تراجع النفوذ الفرنسي
بالنسبة لفرنسا، يمثل إعلان تشاد عن إنهاء اتفاقية الدفاع بين تشاد وفرنسا تذكيرًا صارخًا بتراجع نفوذها التاريخي في إفريقيا. هذا القرار لا يأتي بمعزل عن سياق إقليمي أوسع، حيث تواجه فرنسا تحديات متزايدة تمثلت في انسحاب قواتها من مالي وبوركينا فاسو، والآن من تشاد، التي كانت تمثل شريكًا استراتيجيًا رئيسيًا. هذا التآكل في القوة يدفع باريس إلى مواجهة تساؤلات وجودية حول دورها في إفريقيا ومستقبل استراتيجيتها في السياسة الخارجية، وسط مشهد متغير لا يمكن التحكم فيه بذات الأساليب التقليدية.
إن اتفاقية الدفاع بين تشاد وفرنسا كانت رمزًا لعقود من النفوذ الفرنسي في المنطقة، ولكن الإنهاء المفاجئ لها يبرز مدى عمق المظالم التي ظلت تُخفيها تلك الاتفاقية. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي حاول مرارًا إعادة صياغة انخراط بلاده في إفريقيا بشعار “الشراكة المتساوية”، يجد نفسه أمام شكوك متزايدة حول مصداقية هذه التصريحات، خاصة مع تصاعد الدعوات الإفريقية للاستقلالية والسيادة.
يمثل قرار تشاد بإنهاء اتفاقية الدفاع بين تشاد وفرنسا اختبارًا حقيقيًا لفرنسا في تعاملها مع الحقائق الجيوسياسية الجديدة. هل تستطيع باريس التكيف مع قارة تتطلع إلى تحالفات جديدة وأقل تبعية؟ أم أن هذه التطورات ستدفعها إلى مزيد من التراجع في موقعها التقليدي؟ مع تزايد النفوذ الروسي والصيني في إفريقيا، يبدو أن إنهاء اتفاقية الدفاع بين تشاد وفرنسا هو خطوة نحو إعادة ترتيب ميزان القوى الإقليمي، مما يجعل فرنسا مضطرة لإعادة التفكير في كيفية تعاملها مع إفريقيا بطريقة تتناسب مع تطلعاتها المتغيرة.
ما الخطوات التالية لتشاد؟
بينما تشرع تشاد في هذا الفصل الجديد بعد إنهاء اتفاقية الدفاع بين تشاد وفرنسا، تواجه تحديات معقدة وفرصًا استراتيجية. القرار، الذي يمثل تحولًا كبيرًا في السياسة الخارجية للبلاد، يترك فراغًا أمنيًا قد تسعى الجماعات المسلحة أو القوى المزعزعة للاستقرار إلى استغلاله. لمواجهة هذه التحديات، ينبغي على تشاد اتخاذ خطوات حاسمة لضمان الاستقرار وتعزيز سيادتها الوطنية، يمكن تلخيصها في التالي:
- تعزيز التحالفات الإقليمية: يجب على تشاد العمل عن كثب مع الدول المجاورة، خاصة من خلال تجمعات إقليمية مثل الجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا (CEMAC) والكونفدرالية الساحلية الناشئة. التعاون الإقليمي يعزز الأمن ويحد من تأثير الجماعات المسلحة التي تستغل الفراغات الأمنية.
- استكشاف شراكات دولية جديدة: إنهاء اتفاقية الدفاع بين تشاد وفرنسا يوفر فرصة لتشاد لبناء علاقات جديدة مع قوى دولية ناشئة مثل روسيا والصين. روسيا، من خلال وجودها المتزايد في إفريقيا الوسطى، تقدم دعمًا أمنيًا مباشرًا، بينما تقدم الصين استثمارات اقتصادية كبيرة في البنية التحتية والتنمية.
- إعادة هيكلة الدفاع الوطني: ينبغي على تشاد الاستثمار في بناء جيش وطني قوي ومستقل يقلل من الاعتماد على الدعم الأجنبي. يشمل ذلك تدريب القوات المحلية وتعزيز المعدات العسكرية من مصادر متنوعة.
- معالجة القضايا الأمنية الداخلية: التركيز على القضاء على التهديدات الأمنية الداخلية، مثل جماعات بوكو حرام والجماعات المسلحة الأخرى، لضمان عدم استغلالها للفراغ الناتج عن إنهاء اتفاقية الدفاع بين تشاد وفرنسا.
- تطوير الاقتصاد المحلي: تشاد بحاجة إلى استثمار مواردها الطبيعية وتعزيز الصناعات المحلية لتقليل الاعتماد الاقتصادي على الشركاء الخارجيين. التعاون مع القوى الاقتصادية الناشئة يمكن أن يوفر الدعم اللازم لتحقيق هذا الهدف.
- تعزيز الحكم الرشيد: لضمان استدامة هذا التحول، يجب على الحكومة تحسين مستويات الشفافية ومكافحة الفساد. نجاح هذا الفصل الجديد يعتمد بشكل كبير على قدرة تشاد على تحقيق نتائج ملموسة تلبي تطلعات الشعب.
- إدارة دقيقة للتحالفات الجديدة: يجب على تشاد الحذر من أن تصبح مرة أخرى تعتمد بشكل مفرط على قوى أخرى. التحالفات مع روسيا أو الصين ينبغي أن تركز على تحقيق مصالح متبادلة، دون الوقوع في شباك تبعية جديدة.
محليًا، يعزز هذا التحول صورة الرئيس محمد إدريس ديبي كقائد يضع سيادة تشاد في المقدمة. لكن الحفاظ على هذا الزخم يتطلب تحقيق مكاسب ملموسة في الأمن والتنمية. بإنهاء اتفاقية الدفاع بين تشاد وفرنسا، فتحت تشاد الباب لمستقبل أكثر استقلالية، لكن النجاح في استغلال هذه الفرصة سيعتمد على قدرتها على تنفيذ هذه الخطوات بحكمة وفعالية.
هل هناك تداعيات عالمية لهذا القرار؟
قرار تشاد بإنهاء اتفاقية الدفاع بين تشاد وفرنسا ليس مجرد تغيير ثنائي في العلاقات بين البلدين، بل يعكس ديناميكيات أعمق وإعادة ترتيب في النظام العالمي. بينما تعيد إفريقيا تأكيد سيادتها ورفضها لأطر العلاقات الاستعمارية القديمة، تبرز القارة كفاعل حيوي في عالم يتجه نحو التعددية القطبية بشكل متزايد. من خلال هذا القرار، أرسلت تشاد إشارة قوية بأن الدول الإفريقية لن تقبل بعد الآن بشراكات غير متوازنة لا تلبي طموحاتها الوطنية.
القوى الغربية، وخصوصًا فرنسا، تجد نفسها أمام واقع جديد يتطلب التكيف مع هذه الحقائق. إنهاء اتفاقية الدفاع بين تشاد وفرنسا يبرز الحاجة إلى تقديم شراكات مبنية على العدالة والمنفعة المتبادلة. يجب أن يتحول التركيز من الاعتماد على الحلول العسكرية فقط إلى الاستثمار في البنية التحتية والتعليم والتنمية الاقتصادية. هذه المجالات تمثل المفتاح لتعزيز الاستقرار والثقة على المدى الطويل، خاصة في منطقة تعاني من التحديات الأمنية والاقتصادية.
في الوقت نفسه، فإن صعود لاعبين مثل روسيا والصين يضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى هذا المشهد. على سبيل المثال، روسيا التي عززت وجودها في إفريقيا الوسطى عبر مجموعة فاغنر، والصين التي تستثمر بكثافة في البنية التحتية والتنمية في القارة، توفر بدائل للدول الإفريقية بعيدًا عن النفوذ الغربي التقليدي. اتفاقية الدفاع بين تشاد وفرنسا أصبحت الآن مثالًا على كيفية استغلال الدول الإفريقية لهذه البيئة التنافسية لإعادة صياغة علاقاتها مع القوى الكبرى وفقًا لأولوياتها الوطنية.
تداعيات هذا القرار تمتد إلى أبعد من العلاقات الإفريقية-الفرنسية. إنه يشكل ضغطًا على القوى الغربية لإعادة تقييم استراتيجياتها في إفريقيا. هل ستتمكن هذه القوى من تقديم نموذج شراكة جديد يلبي تطلعات القارة؟ أم أن الفراغ الناتج عن تراجع النفوذ الغربي سيملؤه الفاعلون الجدد مثل روسيا والصين؟ بينما تواصل إفريقيا تعزيز استقلالها، يبقى قرار تشاد بإنهاء اتفاقية الدفاع بين تشاد وفرنسا خطوة حاسمة في إعادة تعريف دور القارة على المسرح العالمي، وفرض واقع جديد يضع إفريقيا في مركز المعادلة الدولية.
تشاد، كغيرها من دول إفريقيا، تعيد كتابة سرديتها بيدها، لتصبح جزءًا من حركة أوسع تطمح إلى استقلال القرار الإفريقي.
الخاتمة
إنهاء تشاد لاتفاقية الدفاع مع فرنسا هو أكثر من مجرد قرار سياسي؛ إنه إعلان عن تطلعات إفريقيا لإعادة صياغة موقعها في النظام العالمي. هذا القرار، الذي يُنهي عقودًا من الاعتماد على نموذج استعماري مغلف بشعار الشراكة، يمثل نداءً واضحًا لمستقبل يتسم بالسيادة والاعتماد على الذات بالنسبة لمنطقة وسط إفريقيا، إنه لحظة تستدعي إعادة التفكير في الديناميكيات الأمنية الإقليمية والتعاون الاقتصادي، وهي فرصة للتخلص من القيود التي فرضتها التحالفات غير المتكافئة.
لكن هذا القرار لا يخلو من التحديات. لا تزال المنطقة تعاني من انعدام الأمن، والجماعات المسلحة التي تستغل الفجوات الناتجة عن ضعف التعاون الإقليمي، والضغوط الناتجة عن تدخلات القوى العالمية المتنافسة. السؤال الأهم ليس فقط كيف ستتعامل تشاد مع هذه التحولات، ولكن كيف يمكن للقارة بأسرها أن تعيد تصور استراتيجياتها الإقليمية لمواجهة هذه التحديات مع الحفاظ على استقلالها وكرامتها؟
في النهاية، تشاد، كغيرها من دول إفريقيا، تعيد كتابة سرديتها بيدها، لتصبح جزءًا من حركة أوسع تطمح إلى استقلال القرار الإفريقي. وبينما تتابع القارة والعالم هذا التطور بعيون يقظة، يبقى السؤال: هل تستطيع إفريقيا أن تحول هذا الرفض للماضي إلى بناء مستقبل يجمع بين القوة والكرامة والسيادة؟