مستشرفا لعقدين من الزمن، ولست متشائما إن قلت إنّ قدر قارتنا الحبية، وحظها من السلم والاستقرار هو الاسم فقط، مع استثناءات قليلة قد أتطرق لها إن وجدت متسعا، ولعل المغرب هو الأهم فيها نظرا لارتباط جزء من الأمن الغذائي الأوروبي به.
طبعا هذا واقع مُعاش وله مبرراته المنطقية _ من وجهة نظر الأنظمة و حلفائها، وغير المنطقية من وجهة نظر الشعوب و مثقفيهم، و تُضيف هذه الحقيقة التناقضية الْمُرّة عِبئا إضافيا يُعَزز انعدام الأمن والاستقرار، و يزيد في الشرخ الحاصل بين القمة والقاعدة، و كأن الإنسان الإفريقي -الذي لم يتذوق طعم الرفاهيّة إلا ما قبل الاستعمار الأوروبي- قدَرُه أن يظل يرى من بعيد الْمُثُل العليا، و أنماط العيش السعيد المتمثلة أساسا في الديمقراطية و ثمراتها، دون أن يعشيها أو يُسْمَح له بتطبيق نمط حكم الأجداد ما قبل الاستعمار بتكييفٍ يتلاءم وواقع حال العالم اليوم.
وفق نظرة نمطية إفريقية محضةٍ تتحكم في إنجاحها بالغالب الأعم ثلاث عوامل أساسية، هي:
- معرفة وغبر أسبار الإسان الإفريقي بنفسه، (القيادات هي المعنية بهذه النقطة).
- القناعة بأهمية الوحدة الإفريقية الحقة، بالوسائل والأدوات المحلية، لخدمة الإنسان الإفريقي وليس العكس.
- القناعة بحتمية وضرورة التعليم والتعلم وفق الحاجة الإفريقية، مع ترتيب الأولويات تماشيا مع واقع كل بلد.
ففي المنظور القريب، وبحكم المسائل التراكمية التي تُعَزِّزُ في الأذهان فكرة ارتباط المجتمعات الإفريقية بالتخلف والدونية والفوضى وارتجال الحلول العضلية الهدامة، وتفضيلها على الحلول العقلية غير التصادمية، ستطول هذه المأساة إن لم تتوفر إرادة محلية جماعية تضم نخبة قيادية ذات اطلاع واسع عالميا، وذات إعجاب فطري بالأصل الإفريقي محليّا، وبدعمٍ خارجيّ ناصح أو على الأقل محايدٍ ليس أوروبيا ولا أمريكيا خصوصا، وباقي القوى الدولية الأخرى متاح النظر فيها، مع ضرورة مراعاة الحفاظ على المصالح المشتركة بشيء من الاحترام المتبادل والشفافية في الأمور المصيرية.
وبالفعل بدأت إرهاصات هذا السيناريو خاصة مع (الصين، تركيا، روسيا) لكنه سيأخذ وقتا بالتأكيد، إذِ العوائق كثيرة وأبرزها المنافس الأمريكي والأوروبي خاصة فرنسا، التي تعتبر السلم والأمن الإفريقي جائزتها التي لا يشاركها فيها أحد، والمجال الذي تلعب على وتيرته حفاظا على مصالحها الاقتصادية أساسا، وامتيازاتها الاستخبارية ثانيا.
ولا أدل على ذلك من شيء أكثر من حجم الإنفاق الفردي على قوة (برخان) في مجموعة الساحل الخمس، (المبالغ متوفرة على الانترنت بالأرقام) وقوة (تاكوبا) بشرق السنغال التي تخطط فرنسا من خلالها لتشكيل قوة أخرى موازية تضم الغينيتين وغامبيا، وربما مدغشقر، مما يفسر عدم السماح للسنغال حتى الآن بالولوج إلى مجموعة الساحل التي تربطها معها كافة اللوازم الضرورية لانضمامها؛ إذْ يرتبط أمن السنغال بأمن واستقرار موريتانيا ومالي أكثر من غامبيا والغينيتين، وليس العكس. فلأجل بسط قوة (تاكوبا) على الأرض، يلزم صناعة الإرهاب في خليج غينيا لتحصل الضرورة الحتمية لمحاربته.
وبرأيي، ما هي إلا أشهر قليلة ونسمع عن عمليات ترويع (قتل، خطف، قرصنة) في هذه المنطقة، وهكذا يظل الإنسان الإفريقي مُسَلّما أمره للغير، ومستسلما، مندهشا مما يرى ومصدّقا لكل ما يسمع، سواء كان هذا الإنسان ذو صفة قيادية (الأنظمة)، أو ذو صفة عادية (المواطنين)، دون أن يتنبه – عن قصد أو دون قصد‑ إلى أنّ السّلم والأمن هما نقيضا الإرهاب وفق التعريف العالمي شبه المتفق عليه.
وهذا يعني أنه كلما وُجِد الإرهاب انعدم نقيضيه (السلم والأمن)، مما يُحَتّم على المهتم الإفريقي الحاذق أن يبحث عن المستفيد من عدم السلم والأمن والاستقرار في إفريقيا عموما وفي منطقتي الشمال والغرب خصوصا. فهاتين المنطقتين لهما خصوصيات أهمها: الجوار الأوروبي (المستعمر قديما)، والثروات الطبيعية الهائلة (أرضية كانت أو بحرية)، ثم الموقع الجيوستراتيجية بحدوده المشكّلَة بحواجز طبيعية مع القارات الثلاث (أوروبا وآسيا، والأمريكتين)، فضلا عن التعدد الإثني والقبلي الفريد من نوعه.
ومن هنا، وتماشيا مع السياسة الجديدة للعالم المتمثلة في مبدأ -الفوضى لدى الجيران تعني الاستقرار في الداخل- نتبين المستفيد الأول من زراعة ورعاية الإرهاب في دول المنطقة ومنعها من تذَوُّق السّلم والاستقرار تحقيقا للتنمية واستغناء عن الغير؛ بل وسعيه لأن تظل اليد ممدودة، والحاجة قائمة قدر المستطاع، إلا أنه ومهما ضخّم الإعلام الموَجّه من خطر (الإرهاب في إفريقيا) على اختلاف مشاربه، (القاعدة كانت أو داعشا أو نصرة الاسلام أو بوكوحرام أو غيرها)؛
فعلى كل متابع ومهتم ألاّ يقتنع بغير الحقيقة، وهي أن هذه الجماعات صناعة ورعاية وتأطيرا (خارجيا) ليست إنتاج ولا صناعة محلية إفريقية أبداً؛
بل إنها بلورةٌ لإحدى قواعد علم النفس التي تقول: “الكذب المتكرر يُوَلِّد حقيقةً في أذهان البسطاء”.
أضف إلى ذلك، أنه على الرغم من الإمكانيات المادية واللوجستية والبشرية التي سخرتها فرنسا وحدها لدول الساحل الخمس (مشاريع تنموية، تدريب الجيوش، تخفيف للديون)؛ فإنّ هذه الجماعات لا تزال تُنَفّذ أعمالها ضد مصالح الشعوب منذ أول تواجد فرنسي ِفعْلِيّ عسكريّ في المنطقة أواخر العام 2012م في الشمال المالي، حتى تاريخ انعقاد قمة نجامينا 15 – 16 فبراير 2021 بنفس الوتيرة أو أكبر.
من هنا، يمكن يطرح تساؤلات من قبيل: أين ذهبت هذه الجهود وتبَخّرَت تلك الموارد الضخمة؟ ما هي أوجه التنمية التي حصلت في المنطقة حتى ألان؟ ومن جهة أخرى، ما هي المكاسب المادية والسياسية التي جنتها فرنسا لوحدها مقابل تكاليفها البشرية والمادية في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو فقط؟ هذه تساؤلات لا يرغب المسئولون في إثارتها نهائيا، ولا نتوقع منهم جوابا مقنعا بشأنها كذلك، غير أننا أهل الميدان ونحن به أدرى.
وفي الختام، ستظل الموارد مُسْتَنزَفة، والبلدان مُسْتَباحة، والنُّخَبُ الحاكمة مزدوجة التعامل بين الداخل المزري والخارج الراعي للكرسي المتنفذ عن بعد، ما لم تحدث مراجعة حقيقية من الميدان وبأفكار وجهود محلية أولاً ثم بدعم ومساندة من جهات دولية وفق الشروط التي أشرت إليها سابقا.
ففي أحدث القرارات الرسمية بهذا الخصوص، وبحضور الحلفاء الممولين (عربا وأوروبيين) فقد اتفق القادة المجتمعين على أنّ خطر الإرهاب لا يزال متفاقما وكبيرا؛ بل ويتطلب تدخلا دوليا أكبر، وموازنة اقتصادية إضافية، وكأنّ مصنع الإرهاب هو خليج غينيا والمثلث الحدودي بين مالي وبوركينا والنيجر، دون التطرق للسودان الذي يعيش أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية لم يعرفها منذ استقلاله.
وهذا يؤكد فعلا أنه لو كانت ثمة رؤية سياسية هادفة وخطة أمنية جدية لما اقتصر البيان الختامي لقمة تشاد على هذا؛ لأن لهيب السودان سيحرق عصى مشير تشاد التي يتوكأ عليها من طرفها الأسفل لتلتقي بنار الفتنة التي تنخر عصاه من الأعلى قادمة من ليبيا وهكذا بقية الجيران في الغرب والجنوب عبر مالي والجزائر، فمالي وموريتانيا، فمالي والسنغال، فمالي وغينيا، وهكذا دواليك…
_______________________
أ. محمد يسلم البار: كاتب إعلامي. أستاذ قانون، عضو مؤسس لاتحاد الشباب الافريقي، الرئيس التنفيذي للاتحاد الاسلامي للتصوف ( قيد الانشاء)