مع تصاعد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، تزداد المؤشرات على بروز قوى جديدة تسعى لاقتحام مشهد الأمن الغذائي العالمي. البرازيل، بثقلها الزراعي المتنامي، لم تكتفِ بلعب دور المورّد التقليدي، بل بدأت تُقدّم نفسها كـ”شريك استراتيجي بديل” لقوى كبرى، خصوصًا في ظل إعادة ترتيب سلاسل التوريد العالمي.
هذا التحوّل جاء على لسان وزير الزراعة البرازيلي، كارلوس فافارو، خلال مؤتمر صحفي عُقد في 18 أبريل 2025، عقب اجتماع وزراء الزراعة لدول مجموعة “بريكس” في العاصمة برازيليا. الاجتماع ضم ممثلين عن ست دول: البرازيل، الصين، روسيا، الهند، جنوب إفريقيا، وإيران، وركّز على تعزيز التعاون الزراعي، واستعادة الأراضي، وتحقيق التنمية المستدامة، وتوسيع التجارة البينية ضمن إطار جنوب–جنوب.
وأكد فافارو أن البرازيل باتت في موقع يؤهلها لتكون أحد أعمدة الأمن الغذائي العالمي، مشيرًا إلى أن بلاده استجابت سريعًا لقرار الصين المفاجئ بتعليق استيراد لحوم الأبقار من 395 منشأة أمريكية، عبر توسيع صادراتها إلى السوق الصينية. هذه الخطوة فتحت المجال أمام البرازيل لتعزيز مكانتها في آسيا، خاصة وأنها نجحت في استعادة أكثر من 4.1 مليون هكتار من الأراضي الزراعية المتدهورة خلال عامين فقط، وإدخالها مجددًا في المنظومة الإنتاجية بطريقة مستدامة.
لكن أهمية هذا التحول لا تكمن فقط في أرقامه، بل في سياقه الجيوسياسي. العالم يعيش حالة إعادة تشكيل في مصادر الغذاء وممراته، بفعل الأزمات المركبة التي تراكمت منذ جائحة كوفيد-19، والحرب في أوكرانيا، واحتدام النزاعات التجارية بين القوى الكبرى. وفي هذا المشهد، تسعى دول الجنوب العالمي – وعلى رأسها البرازيل – إلى كسر احتكار الغذاء الذي طالما سيطرت عليه دول الشمال.
اللافت أن البرازيل لا تتحرك منفردة، بل ضمن كتلة صاعدة مثل مجموعة “بريكس”، التي تُعيد طرح نفسها كمظلة اقتصادية بديلة، تُنسّق السياسات الزراعية، وتفتح خطوط تمويل وتقنيات للتعاون في استصلاح الأراضي وتحقيق الاكتفاء الغذائي. ومن الواضح أن الملف الزراعي بات يحتل موقعًا متقدمًا في أجندة هذه المجموعة، باعتباره بوابة جديدة للتأثير الناعم وتوازن القوى في عالم مضطرب.
أما بالنسبة لإفريقيا، فإن صعود البرازيل في ملف الأمن الغذائي العالمي يحمل أكثر من رسالة. فالبرازيل التي كانت حتى ثمانينيات القرن الماضي تعاني من مشكلات في الأمن الغذائي المحلي، نجحت خلال عقود قليلة في التحوّل إلى إحدى القوى الزراعية الكبرى، اعتمادًا على مزيج من الابتكار المحلي، ودعم البحث العلمي، وإصلاح السياسات. وهذا النموذج – رغم خصوصيته – يُلهم الكثير من دول إفريقيا التي تمتلك مقومات مناخية وأرضية مماثلة، لكنها تفتقر إلى الاستقرار والسياسات الرشيدة.
فرص الشراكة بين البرازيل والدول الإفريقية أصبحت أكثر إلحاحًا. فالبلدان الإفريقية تبحث عن نقل التكنولوجيا، وتبادل الخبرات في استصلاح الأراضي، وتقوية سلاسل القيمة الزراعية، بعيدًا عن النماذج الغربية التي غالبًا ما تأتي مشروطة أو ذات طابع استغلالي. والبرازيل، بسياساتها المتزنة، ومقاربتها غير التدخلية، تملك المقومات لتكون شريكًا موثوقًا في هذا المسار.
ورغم أن المشهد العالمي معقّد ومليء بالتحديات، فإن ما يجري اليوم في برازيليا لا يجب أن يُقرأ فقط في إطار السياسة الزراعية، بل كإعادة رسم لدور الجنوب العالمي في قيادة ملفات حساسة مثل الغذاء والمناخ والتكنولوجيا. وبينما ينشغل الغرب في إدارة أزماته، تفتح البرازيل مسارًا جديدًا نحو ريادة الأمن الغذائي العالمي… مسارًا لا تُريد أن تكون فيه وحدها.
للمزيد من هذا النوع من المحتوى، رجاء تصفح مرآة إفريقيا