تشير ساعتي الجداريّة الزّرقاء إلى التّاسعة ليلا والجوّ يملؤه الغيوم، أحاول في اتخاذ قرارات مصيريّة لم أكن متيقّنا منها بعد بالقدر الكافي فتعود بي الصّدفات إلى محيطها عنوة بلا طائل مني. وفي أوّل وهلة أقرّر فيها تغيير وجهتي تصادفني أنجمينا حزينة كعادتها مثل بوصلة تقود صاحبها إلى اللّامكان في أغلب الأحيان.
تنتابني دوّامة القلق وصمت رهيب يعود بي إلى الوراء حيث تركت حقيبة ذكرياتي القديمة وكأنّها لا تزال حبلى بقلق المآسي، والماضي بات مثل مومياء في صورة كلمات قديمة بقيت في الذّاكرة ربّما كل مدينة تجعلك تدفع ثمن اللّعنات إن أدرت لها ظهرك يوما ونويت الهرب من قساوة الأوطان.
يومي بات أثقل من غدي وكأنّني أعيش في دوّامة المصارعة مع الأشباح داخل حلبة يتيمة في مباراة لا تنتهي وكأنّ كل شيء هنا في مدينتنا يعيد نفسه.
في ذلك اليوم كل شيء متقلّب في حياتي مرّ يومي بطيئا كالسّلحفاة مكسوة بلؤم التّشاؤم وبعد ساعة من ذلك بدأت العتمة تغطّي أرجاء المدينة وبدأ الناس بالتّجمهر قبيل أذان المغرب لأداء صلاتين في جلسة واحدة بسبب الغيوم الكثيفة.
والسّماء حبلى بالأمطار الغزيرة وصوت الرّعد يخيف المارة والأطفال وعوام النّاس يتسارعون في الطّرقات ويتسابقون في الوصول إلى البيوت وكأنّها قرب القيامة عرفت حينها أنّ المطر قادم لا محالة هنا نبوءة البشر تقرأ في وجوههم مما تدل على صلتهم القويّة بربهم فبحثت عن ملجأ لي في تلك اللّيلة لكن كل حواءات الحارة رفضن إيوائي.
فبقيت عاريا للمطر وحيدا وصوت الرّعد يرعبني وحين اشتد المطر قادني إلى الغيبوبة التّامة، ثقل عليّ جسدي وروحي وحتى الشّهيق والزّفير بسبب ذلك الطّقس المتجمّد الذي غزى عروقي وقتها دخلت ضمن صفوف الذين توقّفت ساعاتهم اليدويّة عن العمل ربّما هي قرب النّهايات.
حين تم نقلي إلى مستشفى لا يهب الحياة بل ينقص العمر حتى تكاد تموت من شدة الإهمال، هنا مت نعم ..! هنا .. فارقت الحياة الفعلية فولد مني ألم ثّاني.
أما حواء فهي قصة أخرى كانت فتاة شرقيّة تسكن مدينة ريفيّة عاشت فيها معظم أيام طفولتها تمتطي الجياد والجِمال وتروّض الخيول الأصيلة قضت جل أيام الطّفولة في البادية هنالك بين الصّحاري والبراري.
وعندما بلغت الثّانية عشرة من العمر قرّر أهلها مجمعين كإجماع أهل السّنة والجماعة الذي لا يقبل التّأويل والرّفض على تزويجها من شيخ القبيلة؛ بَيد أنّها رفضت الخضوع وتمرّدت على الجميع.
لكن الكثرة غلبت الشّجاعة فبات أمر زواجها محتوما فرضيت بالواقع، وما إن نام الجميع في تلك الليلة الشّتائيّة الباردة هرولت بالهرب دون تحديد وجهتها المقبلة حتى انتهى بها القدر إليّ صدفة حيث كنت أتسكّع خارج الحمى في زيارة صديق لي كان يقطن البادية منذ نعومة أظافره.
وهنا توحّد قدرنا وبعد ما سمع كل واحد منّا قصّة الأخر قررنا الموت معا كي نحيا حياة جديدة لنرويها لأجيال لم يروا من دنيانا اللّعينة سوى القساوة فصنفنا من تلك اللحظة من قبل المجتمع أننا خرافيّون تارة وأحفاد آلهة الأوليمب تارة أخرى حتى استقرّ رأي الأغلبيّة أننا من الأساطير القدامى فبنوا علينا حكاياتهم الشّعبيّة التي صارت تحكى حتى للأطفال قبل النّوم في تلك البقعة المظلمة.
هنا .. في مدينتنا البرئة يمرّ يومك عاديّ جدا وبسيط جدا تنام العاشرة ليلا فتصحو على صوت المآذن كي يستعد الجميع لزيارة المساجد لأداء صلاة الصبح؛ الفريضة.
وبعدها يهمهم الأغلبيّة بالمغادرة وينتشروا أصحاب الأرزاق المحدودة في الأرض للبحث عن قوت يومهم، أما البرجوازيّون من أهلي والعاطلون عن العمل وطلاب الجامعات والمدراس يعودون إلى البيوت وبرفقتهم الأطفال ليكملوا ما تبقى من نومهم أو الأشغال الأخرى كالتّلاوة والتّذكار وبعد ساعة أو ساعتين يعد الفطار الذي بعده يغادر الأغلبية البيوت لأداء الواجبات التي تتطلّبها الوظيفة.
أما العاطلون من القوم، فيبدؤون في تحديد وجهة الشّمس كي ينتقلون عكسها ليقبعون تحت الظّلال في مدينتا التي لا ينام النّاس فيها حتّى لا يفكروا باليوم الأسود، ورغم كل المحن ترى الجميع راضٍ وشاكر، قناعة نادرة. فالجميع هنا رضي بأمر الإله وببساطة الحياة رغم فظاظة الظّروف القاسية.
وفي كل يوم عبوس نحتسي فيه الشّاي أو القهوة الصّباحية على جناح السّرعة في صدر النّهار نجد فيه التّفاؤل فنتوهّم بأنّ اليوم أفضل من أمسه ولكن الأيام هنا تكرّر نفسها.
هنا .. بقيت وحيدا في ذلك اليوم مسافر في الخيال يحيط بي الملل من الجهات الستة فبقيت شاردا في غضون بضع دقائق ثم عدت ألملم فراشي في كسل حتّما انتهيت، جلست وراء شاشة التلفزيون أنتقل بالرّيموت على كل البرامج فإذ بجلّها برامج أجنبيّة لا تمت لي بصلة .
سألت نفسي أين ذهب الموهوبون من أهلي؟ لماذا لا يستضيف مواهبهم تلفزيوننا الوطنيّ الغارق في اللّاوعي بيدي اللّاوطنيّ؟ بدل هذه البرامج اللّعينة التي لا تبثّ سوى الهراء.
بدأت أحدث نفسي فوا الله أنني أرى في كل واحد من المهمشين موهبة لو أتيحت له الفرصة وتفجرت لفاق حدود الخيال وتحدث عنها الجميع إلى أبد الآبدين ورفع شأن الوطن بهم إلى أعلى الدّرجات لكن نحن شعب نعشق المستورد حتى من اسمه فأصبحنا مدمنين حينها أصبنا بهوس التّأخر.
مرّ على جلوسي وراء شاشة التلفزيون خمس دقائق فانقطع الكهرباء فجأة .. فانتظرت، وبعد ساعتين من الانتظار قال لي طفل في السّابعة: إذا كنت تنتظر عودة الكهرباء فرّبما تنتظر حتى العشيّة.
هنا أدركت حقيقة الأمر فألقيت كل ما في يدي وبدأت ألعن الجميع وغادرت البؤرة بلا عودة ولا زال قومي ينتظرون الكهرباء مثلي وهم صابرون عليها يفرحون بقدومها وعندما تنقطع هم ليسوا مثلي يرون ذلك طبيعيّا؛ لأنّ الأمر بات اعتياديّا لديهم “من شبّ على شيء شاب عليه”.
في تلك الليلة الظّلماء حاولت تقييم نفسي لكن لم يحضرني سوى شيء واحد هو أنني الوحيد العائد من الموت وسط هذا الزخم المليء بالأحلام المفقودة وأنا حلمي الوحيد هو متى أعانق هذا الحلم كي أغرق في خيوط ضوء مدينتنا الغارقة بالظّلام.
انقطع عني الحلم تحت وابل من المطر، في ذلك الصباح قادني والدي إلى شيخ في خلوة قرءانية فبقيت عنده ما يفوق أربع سنوات شكلت تلك السنين نصف حياتي.
والشّارع هو الآخر شكل نصف حياتي الأخرى، لا تستغرب من الكلام فالشّارع ليس بمفهومه السلبي الذي تعوّدت عليه أنت فأنا هنا أقصد من فيه من أناس وتجارب من البشر كانوا أو حيوانات البشر فكل واحد فيهم أضاف لي تجربة حياة شكّلتني على أحسن ما يمكن، وتعلمت من كل هذه التجارب أنك أنت من تواجه قساوة الحياة وحدك، وهذه أفادتني حين غادرت الوطن واستوطنت في المَهْجَر بعد عمر طويل بعيدا عن الأحبة.
هنا نتقاسم كل شيء حتى الغرف؛ فإما ثنائية أو ثلاثية. الأكل مشترك والأقدار أيضا مشتركة؛ ولكن لكل واحدٍ فينا وجهته التي سرعان ما تتدهور فتنصدم بقلق المآسي.
حينما كنت طفلا .. عندما أسمع النّشيد الوطني أقوم بحماس لأحيّ الوطن دون تردد؛ لأنني كنت أظن أنه للجميع كما هو في كتبنا المدرسية؛ لكن صار الأمر مختلفا تماما وعرفت ذلك عندما كبرت وبعدها ما قمت يوما ولا رددت نشيدا فقد تغيرت قناعاتني حينما رأيت الحقيقة تناقض مع الواقع، هنا تذكرت كلام تميم البرغوثي حين قال: “وأنّ المرء لا يعاقب على ما لم يختر لا على فقره ولا دينه ولا عرضه ولا جنسه وأنّ الاستعمار والاستبداد واحد”، فأقول أنا: وإنّ ممارسة أيّ منها على البرايا عنصريّة.
هنا أرخى اللّيل خيوطه كي يقودني الكسل والخمول العظيم إلى النّوم تمنيت أن أجد كل شيء متغير إلى الأفضل في الغد حين أفيق ولكن يا للغرابة! تستقبلني كل يوم ظروف أسوأ كالعادة ووجه القساوة بالكآبة كوجه غراب لا يأت بخير أينما توجّهه.
كما أنّني لا أدري هذا الذي ينتابني الآن أهو القلق، المآسي، الحزن السّلس، التشاؤم أم هو شيء خامس محاط بأربع جدران؟!
ولكنّني أعرف حقيقة واحدة فقط هي أنّني لست في بروج مشيّدة!
___________________________
أ. صالح إسحاق عيسى: كاتب روائي تشادي، خريج كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، جمهورية مصر العربية.