ظلّت الأقلام السنغالية تطرق الأدب العربي منذ قرون، وكان الشّعر العربي يحتلّ مكانةً مرموقةً في حياة المثقف الإفريقي باللغة العربية (المستعرب) قبل قدوم الاستعمار وبعده، إلّا أنّ فنّ الرّواية لم يكن ضمن اهتماماتهم، رغم الصلة الوطيدة بين المستعرب الإفرقي والعالم العربي، ورغم النّفَس الحكائي الذي كان ينجلي في المجتمع الإفرقي، على أنّ الأقلام الإفرقية اتّكأت على اللّغات الغربية ولا سيّما الفرنسية والإنجليزية لتطرق فنّ الرّواية في بداية القرن العشرين.
ولكي تتخطّى الأعمال الأدبية الإفريقية المكتوبة بلغات أخرى، لا سيما الروائية منها، حدود العالميّة، نافست الأعمال الرّوائية العظيمة، وأضفت على الفنّ جمالا استثنائيا، بينما بقي الأدب الإفريقي-العربيّ قابعا في زاوية الشّعر غالباً إلى وقتٍ متأخّر. ولكن العمل الروائي الإفريقي المكتوب بلغة الضاد على الرغم من قلته، إلا أنه سجّل حضورا قويا بين الشباب الإفريقي جنوب الصحراء الكبرى وخاصة في السنغال -موضوع الورقة- فأبهر القاصي والداني. لهذه الأهمية، سيتطرق هذا المقال إلى تسليط الضوء على النقاط التالية:
- تعريف الرواية السنغالية العربية
- قراءات حول واقع الرواية السنغالية العربية المعاصرة
- أهم موضوعاتها الرواية السنغالية العربية
- قدرة المرواية السنغالية العربية على التعبير عن قضايا المجتمع
- أبرز أهداف السنغالية العربية وطموحاتها
- مستقبل الرواية السنغالية العربية
أولا: ما الرواية السنغالية العربية؟
نقصد بالرواية السنغالية العربية تلك الأعمال الأدبية التي أنتجتها الأقلام السنغالية بصبغة سردية، لتطال الروايات الصريحة والسّير الذّاتيّة والرّوايات التّاريخية.
ونرى اختزالها على الأقلام السنغالية وعدم إدراج الأقلام الأخرى التي تكون قد أنتجت أعمالا سرديّة في المجتمع السنغالي، مثل رواية “السنغالي” التي كتبها المصري “مصطفى موسى”، ذلك أنّنا نجد أنّ الأقلام السّنغالية تمثّل الثّقافة السنغالية ما لا تمثّله الأقلام الأخرى.
وإذا كان ثمّة من يجدون في مصطلح “الرّواية السّنغاليّة المكتوبة بالعربية” تحديدا عميقا وملائما، زاعمين أنّ هُوّيّة الرّواية سنغاليّة بحتة، إنّما جاءت العربيّة كثوب يرتديه هذا الفنّ، فإنّنا نرى أنّ المصطلح المتداول في الورقة أنسب؛ لأنّ اللغة ليست بريئة، حيث إنّ ألفاظها تحمل حُمولة ثقافية تكاد تنافس ثقافة الكاتب السنغالي، إضافة إلى مدى تأثّر الكاتب بالأعمال الأدبيّة العربيّة.
ثانيا: قراءات حول واقع الرواية السنغالية العربية المعاصرة
لم تكتشف الأقلام السّنغالية النّاطقة بالفرنسيّة فنّ الرواية إلا في وقت متأخر؛ حيث ظهرت الرواية السنغالية الفرنسية عام 1920 تحت عنوان “إرادات مالك الثلاث” للسنغالي أحمد مباتي جانج. وقد اتخذت الرّواية السنغالية الفرنسية خطوات جادّة حتى استطاعت أن تنافس الرّوايات العالمية، من أمثال “المغامرة الغامضة”، و”رسالة طويلة جدا”، و”الذاكرة الأكثر سرية”…إلخ. على أنّ الأقلام السّنغالية العربيّة لم تكتشف هذا الفنّ إلا متأخّرا، صحيح أنّه كان ثمّة نصوص سرديّة لم تستوف معايير الرواية المعاصرة؛ لكنها بمثابة إرهاصات لبروز فنّ الرواية على المعنى الدّقيق للكلمة، منها:
- ما جاءت على شكل سيرة ذاتية: مثل “جزاء الشكور”، للشّيخ أحمد بمبا، في مطلع القرن العشرين التي يحكي فيها بعضاً من أحداث غيبته إلى الغابون، وهي ما زالت قيد الطبعاعة بتحقيق من “الرابطة الخديمية للباحثين والدارسين”. ورواية الصحفي الحاج سيلا بعنوان “إلى أين” سنة 1991م، وهي رواية تحكي دوافع اغترابه لطلب العلم والأحداث المهمة التي حدثت في ثنايا الرحلة. ورواية “من وحي السبعين” للدّكتور خديم امباكي سنة 2018م، و”محطّات في حياة يتيم“، للدّكتور محمد أحمد لوح سنة 2020م.
- أعمال سردية تنحو منحى الرّوايات التاريخية: مثل رواية “على آثار القوم” للحقوقي “سرنج امباكي لوح، سنة: 2020م”، ورواية “رحلتي إلى الشيخ أحمد بمبا” للمفتش الكاتب سرين مام مور حمدي امباكي، سنة: 2019.
وقد ظلّت الأعمال السّرديّة مفتقرة إلى المعايير الفنيّة، أو بعيدة عن خصوصيّات الرّواية الصّريحة بالمعنى الحديث للكلمة، إلى أن نَشر المهندس الرّوائي أبو بكر انجاي سنة 2016م روايته المشهورة “جريمة ولكن“، وهي رواية رومانسية اجتماعيّة. وقد فازت قصّته القصيرة المعنونة ب”بائعة السمك” سنة 2018م بجائزة أفرابيا قبل أن تُنشر له في السّنة نفسها روايته الموسومة بـ”الهاربات من الجنّة“.
اقرأ أيضا:
ويمكن أن يضاف إلى هذه الأعمال، رواية “نَيْسانْ” للكاتب عُمَر لي، وهي تحت النّشر بمبادرة من وزارة الثّقافيّة السّنغاليّة ودار “منشورات تِمْبُكْتُو السّنغاليّة”؛ فضلا عن الرّوايات السّنغاليّة الفرنسيّة المترجمة إلى العربيّة، مثل: “المغامرة الغامضة” لشيخ حاميد كن، ورواية “رسالة طويلة جدّا” للرّوائيّة مريام با، وغيرهما.
ثالثا: أهمّ موضوعات الرواية السنغالية العربية
لقد تطرّقت الروايات السنغالية العربية إلى كثير من الموضوعات التي تتناولها إليها الرّوايات العربيّة عادةً، بل لم تسلم البعض منها من التحدث عن بعض المجتماعات والقضايا العربية، مثل: رواية “جريمة ولكن”، و”إلى أين”، و”محطّات في حياة يتيم”، و”الهاربات من الجنّة”. هذه الروايات تتميز بأنّها تضمّنّتْ ثقافات ثلاث أو أكثر، فالكاتب السّنغالي -إضافة إلى ثقافته- يتميز بإلمامه بالثّقافتين العربيّة والفرنسيّة، ممّا يعني أنّه قد تتطرّق إلى موضوعات لم تكن تتطرّق إليها الرّوايات العربيّة؛ فضبلا عن طبيعة المجتمع الإفرقي المغايرة. ومن هذه الروايات، مثلا:
- حياة المستعرب السّنغالي تجاه التّحدّيات والعراقيل، روايات مثل: “إلى أين” و”محطّات في حياة يتيم”.
- الطبقيّة الجديدة التي تزامنت مع بداية القرن العشرين، مثل رواية: “من وحي السبعين”.
- التّشبّث بالتاريخ اللامع وتمجيد الرجال الذين تركوا بصماتهم في التّاريخ، مثل: “على آثار القوم” و “رحلتي إلى الشّيخ أحمد بمبا”.
- معاناة المرأة السّنغاليّة والتّضحيات التي يقوم بها تجاه التّحدّيات، مثل: “بائعة السّمك”
- التغيّر الجذريّ للمجتمع والانصياع للمادّة على حساب الضّمير والقيم، مثل: “نَيْسان”
- هجرة النساء السنغاليات إلى الخليج للعمل تحت الخدمة وما فيها من معاناة، مثل: “الهاربات من الجنّة”
- الهجرة غير الشرعية والدوافع التي تجعل الشاب السنغالي يغامر إليها،مثل: “زوارق الموت”.
- ممارسات المستعمر في جزيرة غوري والأحداث التي تمت بصلة إلى التهجير القسري نحو العالم الجديد، مثل: “زوارق الموت”.
- تعزيز التعاليم الإسلامية بنفحة صوفية، مثل: “على آثار القوم” و “رحلتي إلى الشّيخ أحمد بمبا”.
رابعا: قدرة الرواية السنغالية العربية على التعبير عن قضايا المجتمع
إذا كانت الرّواية -على حسب تعبير هيجل- هي الصّورة التّعبيريّة الملائمة لحالة الوعي في المجتمع الحديث؛ فإنّ الرواية السنغالية العربية رغم خطواتها الثّقيلة والبطيئة استطاعت أن تعبّر عن المجتمع السنغالي الحديث دون أن تنسى المجتمع القديم. ولعل ميزة الرّوائي السنغالي تكمن في ذاك القديم الخالص، ذلك القديم الذي يعكس أصالة المجتمع وثقافته وتقاليده. وكثيرا ما نلمس مقارنة بين الزمانين في ثنايا الروايات السنغالية العربية كما لو أنّها تغار على المجتمع من فقدان ثقافته وأصوله ومعاييره.
بَيْد أنّ هذا الفنّ ربّما لجدّته، وربّما لانكباب المستعرب السنغالي على الشّرعيّات وتزمّته من الفنّ الحديث، وربّما لمحدودية الشريحة المهتمّة بالقراءة لم يقدر إلى الحين أن يشارك في بلورة المجتمع السنغالي، وإن عبّر عنه إلى حدّ ما؛ لأنّ الفن لم يَعُد محصورا على التعبير عن المجتمع بقدر ما جاء لتطوير المجتمع ونشر الوعي واتخاذ قرارات حاسمة، كافية لكتابة قصّة جادة في رواية العالم الرّاهن. بطيعة الحال، ثمّة أقلاما واعدة بمقدورها أن تنافس الرّوايات العالميّة إذا حفّزت ووجّهت من هنا وهناك.
خامسا: أبرز أهداف الرواية السنغالية العربية وطموحاتها
من خلال ما سبق، اتضحتْ لنا بشكل واضح أهداف الرواية السنغالية العربية وطموحاتها، ويمكن تقسيمها إلى مجالين رئيسين، هما:
-
المجال الأخلاقي والاجتماعي
- التعبير عن المجتمع انطلاقا من رؤية إفريقية مرنة تأخذ في الاعتبار الثقافات الأخرى.
- رسم الهوّيّة السّنّغالية والاعتناء بالتقاليد العتيقة مع الانفتاح على الممارسات الحديثة الملائمة.
- خلق صلة وطيدة بين الأحداث السّنغاليّة والقارئ العربي.
- توعية القارئ السنغالي وإعادته إلى القيم الإفرقية والمبادئ الإنسانية.
-
المجال الفني
- الوصول إلى الجودة التي تسمح للرواية السنغالية العربية بتنافس الأعمال العظيمة في العالم العربي.
- ترجمة الأعمال السنغالية المكتوبة بالفرنسية إلى العربية.
- اهتمام العالم العربي بهذه المنتجات ونشرها في أوسع نطاق.
سادسا: مستقبل الرواية السنغالية العربية
لقد عرف الفن الروائي السنغالي العربي ركوداً صارخاً خلال حقبٍ طويلة، بَيْد أنّه أخذ يجد انتعاشا في الزمن الراهن، مما يوحي أنّ ثمّة مستقبلا مشرفا يتجلى في النّقاط التالية:
- كثرة الإنتاج وجودته حتى نافس بعضها الأعمال المنتجة في الدول العربية.
- إمكانية وجود منافسة شرسة بين فنّي الرّواية والشّعر.
- تميّز الرّواية عن الأعمال السّرديّة الأخرى، واكتشاف الفنون السّرديّة الأخرى وفق المعايير الفنّيّة.
ولكي يتحقّق هذا المستقبل، لا بُدّ أن تجد الرواية السنغالية العربية إقبالاً من القارئ السنغالي، ومرافقة جادة من قبل الدّول العربية والهيئات المهتمّة بالأعمال الثّقافية؛ فضلا عن إصدار جائزة أدبيّة خاصّة لكتّاب دول غرب إفريقيا، مثل جائزة كتارا أو جائزة الشيخ زايد أو جائزة الشارقة لكتّاب دول غرب إفريقيا.
والجدير بالذكر، أنّ معرض الشارقة في هذه النسخة قدم مبادرة طيبة باستضافة مجموعة من الكتاب الأفارقة وإشراكهم في ندوات علمية لتناول القضايا الثقافية التي تجمع بين اللغة العربية والعالم الإفريقي الغربي، ولعل الرواية العربية السنغالية ستحقق مبتغاها انطلاقا من هذه المبادرات الطيبة
كلّ ذلك مساعدة للأدب الإفرقي العربي ليتمكن من الاتصال بالعالم العربي من جهة، وليكون ثمّة تنافس جادّ يؤدّي إلى بعث الجودة في هذه الأعمال من جهة أخرى. كما يتطلّب العمل ترجمة الأعمال السنغالية المكتوبة بالفرنسية إلى العربية، من أجل أن يعتمد عليها المستعرب السنغالي حتّى ينافسها.
الخاتمة
أصبح فنّ الرّواية بمثابة ملحمة العصر، وتخطّى خطوات متعدّدة قبل أن يصل إلى ما هو عليه الآن، إلّا أنّ هذا الفنّ ما زال في مرحلة الطّفولة عند كثير من البلدان، وإذا كان البعض لا يرون للتقسيمات الجغرافية أي اعتبار، إذْ يقسّمون العمل الأدبي إلى جيّد ورديء فإنّ الرواية السنغالية أخذت تنبعث من رقادها، وتنتعش لتتخطى الإقليمية إلى قرع أبواب العالميّة؛ لتسهم في رسم الواقع السنغالي من جهة، وفي إضفاء الجمال على الأدب العربي بلمسة إفريقية مغايرة من جهة أخرى،.
“صحيح أنّ الإنتاج الأدبي السنغالي باللغة العربيّة ما زال شحيحاً -لا سيما عندما مقارنته بالإنتاج الأدبي باللغة الفرنسيّة؛ ولكن ثمّة إقبال واسع على هذا الفنّ من قبل الشّباب المستعرب السّنغالي”
وسيبقى فقط أن تحظى الأقلام السنغالية بتحفيز من هنا وهناك يدفعها إلى المزيد من الجهد للالتحاق بالركب، ما دام الركب في طريقه إلى التّقدم الذي يمنعه من الوقوف أو التقهقر.
المصادر الأدب الإفرقي، د. علي شلش، عالم المعرفة، رقم 112، سنة 1993 السنغالي، مصطفى موسى، دار الأدب، 2014. جزاء الشّكور العطوف في جواب عبد اللطيف، الشّيخ أحمد بمبا إلى أين، الحاج سيلا، 1991. إرادات مالك الثلاث، أحمد مباتي جانج، 1920. Les trois volontés de Malic, Ahmadou Mapaté Diagne المغامرة الغامضة، شيخ حاميدو كن، ترجمة: الأستاذ محمد سعيد با. L'Aventure ambiguë, heikh Hamidou Kane, 1961 رسالة طويلة جدا، مريام باUne si longue lettre, Mariama Ba,1979, الذاكرة الأكثر سرية، محمد امبوغار سار، 2021. La plus secrète mémoire des hommes, Mohamed Mbougar Sarr محطات في حياة يتيم، أ.د. محمد أحمد لوح، 2020