السياسة اللغوية أو التخطيط اللغوي ظاهرة عامة لدى كل المجتمعات البشرية، وقد شاءت الأقدار ألّا يعيش الإنسان إلا بالتواصل مع بني جنسه؛ لذا اتخذ وسائل عدّة بغية التقارب والتواصل مع بني جنسه، ولعلّ أفضل وسيلة أثبتها التاريخ البشري هو التواصل الصوتي، وربما لحكمة ربانية كانت هذه الأصوات تختلف من بيئة لأخرى ومن مجتمع لآخر، ومن جيل لجيل، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾ سورة الروم الآية 22.
جدول المحتويات
أهمية الدراسة
ولأهمية التواصل بين الناس في الحياة الإنسانية كانت أولى هبة وهبها الله للإنسان بعد خلقه أو نفخ الروح فيه هو قناة التواصل اللغوي أو اللساني قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ سورة البقرة (الآية 31)؛ مما أتيح للإنسان أفضلية ما على سائر المخلوقات، وفسح له المجال للسيطرة على بقية الكائنات الحية على وجه الأرض.
وهذا ما فطر عليه كل المجتمعات البشرية بطرق مختلفة؛ إذْ كانت اللغة عبر العصور والحضارات وسيلة التقارب والتفاهم والتواصل، مما سمح للإنسان أن كوّن الحضارات العملاقة على كثير من أنحاء العالم، وسيطر على بقية الكائنات فمنذ القدم والإنسان يحاول السيطرة على بعضه البعض بواسطة اللغة، وخير مثال على ذلك أنّ كل من أراد أن يملك الشعب لابد أن تكون له لغة جيدة تلفت انتباه المتابعين له.
واللغة جزء من السلوك وبواسطتها نسعى للسيطرة على بقية كامل جسم الانسان أو عقله، ومن أجل ارتباطها بالتفكير سعى الجميع إلى الاهتمام بالقضايا اللغوية بغية الحصول على التوازن الاجتماعي والاستقراري؛ إذْ اللغة هي البؤرة التي يسعى كل قائد بواسطتها للسيطرة والتوازن.
وعليه، جاء عنوان هذا البحث “السياسة اللغوية وأثرها في الاستقرار الاجتماعي في مالي“.
تُعَدُّ جمهورية مالي من أشهر دول غرب إفريقيا؛ لقدم جذور حضارتها في تاريخ البشرية، ونقصد مالي اليوم التي تحد كلا من الجزائر شمالا، والنيجر شرقا، وبوركينا فاسو وساحل العاج جنوباً، وغينيا في الجنوب الغربي، والسنغال غربا وموريتانيا في الشمال الغربي. وتزيد مساحتها على (1.240.000كم²) ويصل عدد سكانها إلى 20 مليون نسمة، موزعة على مجموعة من الإثنيات المختلفة. وحُظِيَتْ مالي بمجموعة من اللغات واللهجات؛ لذا أراد الباحث أن يدلي بقلمه لدراسة السياسة اللغوية وأثرها في الاستقرار الاجتماعي. والبحث مقَسَّم إلى مقدمة ومبحثين وتحت كل مبحث مطلبان، وخاتمة، مذيلا بالمصادر والمراجع.
أسباب اختيار الموضوع
- التوسع والزيادة في الأفق المتعلق بالقضايا اللسانية والسياسة اللغوية.
- الوقوف على حيثيات السياسة اللغوية وأثرها في التفكير الاجتماعي.
- إثراء المكتبات العلمية والوطنية والإفريقية والعربية ببحث علمي يعالج أثر اللغة في التفكير الجماعي.
أهداف البحث
يهدف هذا البحث إلى بيان ما يأتي:
- مفهوم السياسة اللغوية
- علاقة اللغة بالاستقرار الاجتماعي في مالي
- البعد الجغرافي للتوزيع اللغوي في مالي
- علاقة اللغة بالفكر وأثرها في الاستقرار الاجتماعي
أسئلة البحث
- ما هي السياسة اللغوية؟ وما هو التوزيع اللغوي؟
- ما علاقة اللغة بالفكر؟ وما علاقته بالفكر الاجتماعي؟
- ما هو أثر اللغة في الاستقرار الاجتماعي في مالي؟
الدراسات السابقة
تُعَدُّ السياسة اللغوية من أولى أولويات كل دولة من دول العالم؛ بل كل دولة سياستها لغوية سواء أكانت بارزة أم غير بارزة، فلا بدّ من تحديد اللغة الرسمية واللغات التواصلية للبلد، وكيفية دعم اللغة الرسمية أو الوطنية. لكن لم يجد الباحث دراسة تناولت هذا الموضوع في مالي، ما عدى بعض الموضوعات شبيهة بهذا العنوان التي ساعدت الباحث في إعداد هذا البحث وبلورة قضاياه، منها:
1ـ السياسة اللغوية في مالي (من الاستقلال 1960 إلى 2000 م) للطالب/ أمادو ميغا، بحث تطبيقي لمتطلبات الماجستر في اللسانيات الاجتماعية، قسم اللغة العربية بجامعة الآداب والعلوم الإنسانية باماكو عام 2019/2020م. اختصرت الدراسة على خمس صفحاتٍ، واعتمدتْ على الإجراءات الإدارية بشأن اللغات الوطنية، مشيرة إلى الأبعاد القانونية بشأن اللغات الوطنية؛ ولكنها لم تُشِر إلى أثر اللغة في الاستقرار الاجتماعي بمالي (ميغا 2020).
2ـ السياسات اللغوية لساحل العاج ومالي: مزايا وعيوب. وهي مقالة للباحث ماميري تراوري، محاضر بجامعة الآداب والعلوم الإنسانية بباماكو. احتوت على عشر صفحاتٍ، تناول فيها الباحث مقارنة بين السياسة اللغوية بساحل العاج ومالي، مشيرا إلى الأهداف الأساسية وراء اللغة الفرنسية في إفريقيا بصفة عامة، وفي هذين البلدين بصفة خاصة، ودور وسائل الإعلام في نشر اللغات الوطنية في كلا البلدين كوت دي فوار (ساحل العاج) ومالي (TRAORE 2022). وركّز الباحث على المقارنة دون الإشارة إلى دور اللغة في التفكير أو الاستقرار الاجتماعي.
3ـ السياسة اللغوية في مالي ا(للغات المحلية) اللغة البمانية نموذجا، بحث تخرج للطالب أبوبكر عبد الله جارا، عام 2021م بجامعة الساحل، احتوى على 102 صفحة، اهتم بتوجه الحكومة المالية في دعم اللغات الوطنية عامة وبالأخص اللغة البمانية، دون إشارة إلى علاقته بالفكر الاجتماعي، أو الاستقرار القومي.
مفهوم السياسة اللغوية في مالي
ينبغي لنا بيان المفهوم اللغوي والاصطلاحي لمصطلح السياسة اللغوية، إذ كثير من المصطلحات تكون سببا في عدم التفاهم، بناء عليه نتطرق هنا إلى بيان الجذور اللغوية لكلمة السياسة اللغوية والاصطلاحية، والسياسة اللغوية في مالي والتوزيع اللغوي.
مفهوم السياسة اللغوية في اللغة والاصطلاحا
السياسة اللغوية مصطلح له -كغيره من المصطلحات العلمية- بُعْدٌ لُغَويّ معجميٌّ، وبٌعْدٌ اصطلاحي تخصصي. فالبُعد اللغويّ يدل على أنّ هذا المصطلح من الكلمات المركبة من جزئين هما السياسة واللغة.
السياسة لغة: ترجع إلى جذر (س، و، س) ومنهه الفعل ساس، يسوس، سياسة. ساس الدابة أو الفرس: إذا قام على أمرها من العَلَف والسقي، والترويض والتنظيف وغيرها من تربية الحيوانات.
وهذا المعنى هو الأصل الذي انحدرتْ منه كلمة السياسة بمفهومها المعاصر. فبعد ما نجح الإنسان في تمرس الدواب أو الحيوانات، ارتقى إلى سياسة أعظم حيوانٍ على كوكب الأرض وسياسته، ألا وهو الإنسان، وقيادته في تدبير أموره. وقيل هي “استصلاح الخَلْق بإرشادهم إلى الطريق المنجى في العاجل أو الآجل” (معلوف 2002)، وقيل: هي فنّ إدارة المجتمعات الإنسانية.
واللغة كما قال الأزهريّ: “اللُّغَةُ مِنَ الْأَسْمَاءِ النَّاقِصَةُ، وَأَصْلُهَا لُغْوَةُ مِنْ لَغَا إِذَا تَكَلَّمَ” (معلوف 2002)، ولم يرد في القرآن الكريم كلمة اللغة بهذا الوزن لكن وردت بعض مشتقاتها في مواضع عدة، منها كلمة اللغو قال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ([1])، أيْ إذا مرّوا بالرفث كفُّوا، وهو الكلام الذي لا فائدة منه.
وفي الاصطلاح: يقول ابن جني: “اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم.” ويقول تمام حسان، وهو من المتأخرين: “اللغة منظومة من مجموعة من الأنظمة منها النظام الصوتي والنظام الصرفي والنظام النحوي” (حسان 1994م) وغيرها من أنظمة الاتصالات الأخرى المتعارف عليها بين مجموعة من الناس. وعليه يمكن اعتبار اللغة نظاما ذهنيا بموجبه تُصْدر الأنظمة اللغوية طبقا لقواعد معينة، كما تُحلَّلُ الرموز اللغوية طبقا للقواعد المتعارف عليها بين المخاطبين.
ويعتبر مصطلح السياسة اللغوية من المصطلحات الحديثة في الدراسات اللغوية؛ بل لم يظهر هذا المصطلح إلا بعد الحرب العالمية الثانية، حينما أرادت الدول الاستعمارية فرض لغاتها على مستعمراتها، وهم بدورهم يريدون حماية هويتهم اللغوية ضد قهر اللغات الاستعمارية، وإن كانت ممارستها موجودة منذ القدم.
وورد في الأدب العربي أنّ الناس كانوا يرسلون أولادهم إلى البوادي لتلقين اللغة العربية الفصيحة النقية بعيدا عن الكلمات الهجينة في الحواضر، ومنها جهود أبي الأسود الدّؤلي في تقنين قواعد للغة العربية تحميها من التهجين واللحن. وقد ظهرت مع المصطلح مجموعة من المصطلحات منها مصطلح التخطيط اللغوي، والتنمية اللغوية، والإدارة اللغوية، والاستراتيجية اللغوية أو التهيئة اللغوية، أو التقييس اللغوي، أو الأمن اللغوي (م. يوتيوب 2023) وغيرها من المصطلحات التي تتقارب دلالتها ووظيفتها.” ويرى سبولسكي([2]) أن مصطلح “السياسة اللغوية” هو الأنسب لتسمية الحقل كاملا” (محمود 2020) ، وعليه فما هو التعريف الاصطلاحي للسياسة اللغوية وما أنواعه:
السياسة اللغوية: عبارة عن “الممارسة اللغوية الفعلية للمجتمع الكلامي (اللغوي) من حيث التنوعات اللغوية المستخدمة لكل وظيفة من وظائف التواصل والمتغيرات التي تستخدم مع مختلف المحاورين، والقواعد التي يتبناها المجتمع اللغوي في الكلام والصمت، والتعامل مع الموضوعات المشتركة، وللتعبير أو إخفاء الهوية”. وكما عُرِّفتْ أيضا “بأنها عبارة عن جهود بعض أعضاء المجتمع الكلامي (اللغوي) الذين لديهم أو يعتقدون أن لديهم سلطة على الأعضاء الآخرين لتعديل ممارساتهم اللغوية، وتعد المؤسسات الدستورية أو القانونية وتأطيرها للغة الوطنية أو الرسمية” (محمود 2020).
وبناء عليه يمكن تعريف السياسة اللغوية بأنها هي الخطة الاستراتيجية والإجراءات المدروسة من قبل أصحاب القرار، بغية المحافظة على حيوية اللغة في نطاق أوسع وتنميتها.
أنواع السياسة اللغوية
السياسة اللغوية لها أنواع مختلفة طبقاً للأهداف التي ترمي إليها تلك السياسة، ومن ضمن السياسة المتبعة ما يلي:
أ ـ السياسة اللغوية من أجل الحفاظ على الهوية القومية: كتعزيز هوية لغوية معينة في بيئة لغوية غالبة فيسعى الآباء وأولياء الأمور إلى صَوْن لغتهم القومية، كأن يعيش العربي في المجتمع الغربي تسود فيه لغة المجتمع، وهذه الظاهرة منتشرة عند المهاجرين في دول المهجَر، ومنتشرة كذلك عند القوميين في أقطاب أخرى تسود فيها لغة وطنية غير لغتهم، كما تفعل كثير من الإثنيات الأخرى في باماكو غير الإثنية المانديغية أو البامنية.
ب ـ السياسة اللغوية الممنهجة: تتجلى هذه السياسة في مجال التعليم الوطني الرسمي، إذ كل دولة تتجه إلى ترسيم لغة ما، تعتبرها لغة التواصل الرسمي في البلد، فتسعى إلى تقنينها بُغْية تسهيل عملية التواصل بين المواطنين، وقد تكون هذه اللغة من التراث الثقافي والوطني كما هو جليّ في كثير من البلدان المتقدمة، أو تكون من اللغات المسيطرة والغالبة كما نراها في الدول المستعمَرة، أو ترقية المستوى الوطنيين في لغة عالمية لها جدوى في مجال البحث العلمي وفي التعامل الدولي، كما هو جلي في كثير من الدول الإفريقية والعربية عند تمسكها بالإنجليزية أو الفرنسية، وغيرها من الدول الكبرى التي تعتمد على لغاتها الوطنية في تعليم غير الإنجليزية.
ج ـ السياسة اللغوية أو التأمين اللغوي: وهذه السياسة تنتهجها بعض الدول للمحافظة على سلامة اللغة، فيضعون كل القيود بغية المحافظة على سلامة لغتهم الرسمية. ويتجلى ذلك في سياسة بعض الدول، عندما يمنع استعمال اللغة الهجينة في الاستعمالات الرسمية، ويتحفظ في الكلمات الدخيلة، فيمنع نشر بعض المصطلحات الشائعة.
وقد عُرفت ليبيا في عهد نظام الجماهيرية بهذه السياسة عندما كانت تمنَع كثيراً من المصطلحات العالمية، بل تترجمها إلى العربية الأصلية أو يتم تعريبها، مثل ما كان يمنع استعمال كلمة التليفزيون، وتترجم إلى الإذاعة المرئية، والراديو بالإذاعة المسموعة ([3]). ولا يزال النظام السوري ينتهج هذا النهج أيضاً في الحفاظ على الهوية اللغوية العربية.
كما ينتهجها الآن إخواننا المدافعون عن حركة أنكو اللغوية؛ إذْ يسعون إلى إحياء اللغة الماندينغية باسترجاع كثير من كلماتها إلى أصلها مثل كلمة الجامعة (University) المترجمة بالماندينغية بـ (Jabada) ( (دامبلي 2023))، وهذا المنهج يعرف عند علماء اللسانيات بالمنهج التاريخي، عكس المنهج الوصفي الذي يفتح الباب على مصراعيه للكلمات الدخيلة.
السياسة اللغوية في مالي والتوزيع اللغوي
تُعدّ جمهورية مالي من الدول الأفريقية في جنوب الصحراء، تقع في غرب إفريقيا، وتُحَدّ بسبع دول إفريقية، كلها تعتمد اللغة الفرنسية لغة رسمية، وهي الجزائر وموريتانيا اللتان تعدان عضوين في جامعة الدول العربية، فالعربية هي لغتهما الرسمية أولا والفرنسية بالدرجة الثانية ([4])، أما السنغال وغينيا كوناكري وكوت ديفوار (ساحل العاجل) وبوركينا فاسو والنجير فكلها تتبنى اللغة الفرنسية لغة رسمية بالدرجة الأولى، إضافة إلى مجموعة من اللغات المحلية المحكية في التواصل الشعبي.
وكان طبيعيا أن تتشارك مالي مع بعض هذه الجمهوريات في بعض لغاتها، فهي تشارك بعض المدن البوركينية والإيفوارية والغينية في لغة بامنا([5])، وتشارك بعض المدن النيجرية في لغة الصنغاي، والعربية تجمع مالي بالجزائر وموريتانيا، إضافة إلى تشارك هذه الدول بمالي في بعض اللغات الأخرى لم تُذكَر هنا.
تتمتع جمهورية مالي بمساحة جغرافية شاسعة جدا، إذْ بلغت مساحتها حوالي (1.24 مليون كم²) مما يشير إلى بُعْد جغرافي قلّ نظيره في غرب إفريقيا، كما أنّ جمهورية مالي تتمتع بالتزايد الديموغرافي السريع إذ بلغ عدد سكانها حوالي تسعة عشر مليون وزيادة في إحصائية عام 2018م (INSTITUT NATIONAL DE LA STATISTIQUE DU MALI 2018) الموزعة على ثمانية أقاليم وهي: كايس، وكوليكورو، وسيكاسو، وسيغو، وموبتي، وغاوو، وتومبكتو، وكيدال، هذا التوزيع الإداري دام عليه أغلب الدراسات السابقة؛ فكثير من المراجع تعتمد على ذلك، ولكن بسبب الاضطرابات السياسية التي شهدتها مالي خلال العقود الماضية، اضطرت إلى زيادتها أحد عشر إقليماً وهي: تاوديني، وميناكا، ونيورو، وكيتا، وجويلا، ونارا، وبوغوني، وكوتيالا، وسان، دوانزا، وبجانغارا، إضافة إلى العاصمة باماكو، ولا يزال التقسيم الإداري غير مستقر في الآونة الأخيرة، وهذه الإضافات تعد مقترحاً جديداً لإعادة التنظيم الإداري للأقاليم المالية، وتحتوي جمهورية مالي على 156 دائرة، و466 مقاطعة، إضافة إلى 6 مقاطعات تابعة لمدينة باماكو (Diaby 2022).
سياسة مالي تجاه اللغات، اللغات في مالي على قسمين:
- لغة التواصل الإداري: تعد الفرنسية لغة التواصل الإداري، كما أن الخطابات في المواقف الرسمية تكون بالفرنسية، فالجهات الخارجية تخاطب الحكومة المالية أو الشعب المالي باللغة الفرنسية، وجاء في المادة (31) من الدستور المالي: “الفرنسية هي لغة التعبير الرسمي”، بناء على هذا النص فإن التعليم في مالي تتم عبر اللغة الفرنسية في المؤسسات التعليمية التابعة للحكومة المالية، فالدعم اللغوي والنفقات الحكومية جلها موجهة إلى الفرنسية وتقويمها هكذا في الغالب يتركون أثرا ، وبعد الفرنسية تأتي العربية الفصحى في الدرجة الثانية من اللغات التعليمية، إذ هي اللغة الوحيدة التي تلي الفرنسية في التعليم، وتسمح الحكومة المالية منذ عقود بإجراء الامتحانات الرسمية امتحان شهادة الابتدائية (سابقا) وشهادة الإعدادية والثانوية أيضا، ومقابلة بعض الوظائف باللغة العربية، وربما الإنجليزية من ناحية التعليم باللغات، إذ يبدأ تعليم الإنجليزية منذ السنة الأولى للمرحلة الإعدادية الذي يستمر مع المتعلم حتى نهاية مراحله الدراسية، أما بقية اللغات غير هذه اللغات فإنها تُعَدُّ اللغات التخصصية كالإسبانية والألمانية والإيطالية وغيرها من اللغات العالمية.
- اللغات التواصلية الأخرى: تعد مالي من الدول المتسامحة مع اللغات الأخرى، إذ سياستها لم تمنع أحدا من استعمال لغة التي يريدها في المؤسسات الوطنية أو الحكومية؛ خلاف بعض الدول المجاورة التي لا تسمح باستعمال لغة أخرى غير اللغة الرسمية ولو كان شفويا، وجاء في المادة (31) من الدستور المالي اعترافاً باللغات المحكية وبالأخص اللغات الوطنية: “اللغات التي يتحدث بها مجتمع لغوي واحد أو أكثر في مالي هي جزء من التراث الثقافي، لديهم صفة اللغات الوطنية” وبهذا القانون الدستوري يسمح لكل موظف باستعمال لغته الخاصة في المؤسسات العامة، يدعم استعمال اللغات الوطنية في الخطابات الشعبية، كما يتجلى ذلك عندما تعزم قيادة الاتصال بالجماهير، ففي جميع الجمهوريات السالفة يتم التواصل الرسمي بإحدى اللغات الوطنية.
من السياسة اللغوية دعم اللغات الوطنية لارتقائها، كما جاء في الدستور عند تناول اللغات الوطنية “اللغات الوطنية وبإمكانها أن تصبح لغات رسمية” على ذلك تبنت الحكومة بعض المؤسسات للعناية باللغات الوطنية بغية المحافظة عليها، فقننوا لأصواتها رموزا بغية دراستها، فلا تزال هذه المؤسسات تقوم بجهود علمية لتعليم الناس اللغات الوطنية، بل أحيانا تستعمل في بعض المراحل الابتدائية، كما تدرس كمادة في بعض التخصصات، وهناك منظمات عالمية ومحلية تعمل ليلاً ونهاراً من أجل نشر اللغات الوطنية (ميغا 2020).
تُعَدُّ التعددية اللغوية ثروة في التنوع الثقافي والمعرفي في البلد الواحد، فكل من تمكن من معرفة لغات كثيرة أصبح عنده الرصيد المعرفي والثقافي، بل في هذا العصر قد يتحول هذا الرصيد المعرفي إلى الرصيد الاقتصادي أو الرأسمالي التجاري في حياته الفردية أو المؤسساتية أو الاجتماعية. ويتجلى ذلك كثيرا في الأجور التي يتقاضاها المترجمون خلال أعمالهم اللغوية، فكل سفارة أجنبية تحتاج إلى مترجم أو مترجمين خاصة في أمثال البلدان الإفريقية التي تستعمل لغة في الإدارات غير اللغة الشعبية، كما تعمد الوزارات الخارجية على المترجمين.
الصّراع اللغوي بين اللغات المحلية
لما كانت اللغة هي المنطلق الأول في عملية التواصل والتفاهم، فكلما قلّت درجة التواصل قلّت درجة التفاهم، وكلما قلت درجة التفاهم قلّت درجة الانسجام والتماسك وقلّت درجة المؤانسة، ومن هذا المنطلق نلاحظ الصراع اللغوي بين اللغات، وقد يحتد هذا الصراع إلى درجة التباين والتنافر بين اللغات أو بين المتكلمين في العالم، بل أغلب الحركات الانفصالية في العالم من أسبابها النزعة اللغوية القومية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر:
-
حركات انفصالية في إقليم كتالونيا
تُعَدُّ كتالونيا من الأقاليم الإسبانية انضمت مع اسبانيا وكونت المملكة الإسبانية منذ 1931م ولها لغتها الخاصة نتيجة لذلك تختلف عن العاصمة ثقافةً، وكان لها الحكم الذاتي، ثم ألغيت، فأصبح البلد يحكم بحكم واحد وأصبحت اللغة الإسبانية اللغة الرسمية للبلاد، وقد توجد عوامل أخرى لكن بسبب العوامل الاقتصادية واللغوية القومية، ترفض الكتالونيون سيطرة اللغة المدريدية عليهم وتُدَرَّس أولادُهم في مدارس كتالونيا باللغة الكتالونية؛ مما عرقلت عملية التواصل والتفاهم بين الشعب الواحد؛ وعليه نرى لديهم من حين لأخر توجد توترات سياسية ونوايا انفصالية من قادة الكتالونين (العتر 2015).
-
الإقليم الفلامندي في بلجيكا
تعاني بلجيكا انقسامات اجتماعية وسياسية نتيجة صراع بين القوميتين الكبيرتين هما الفلامنديون وهم الناطقون باللغة الهولندية وتشكّل حوالي (58%) من التعداد السكاني، والوالونين وهم الناطقون بالفرنسية وتشكل حوالي (32%) من التعداد السكاني، نتيجة لهذا الصراع اللغوي تطالب الفلامنديون باستقلالهم إقليمهم لتكون دولة مستقلة. (البوابة، 2017).
- جزيرة الكورس: وهي إحدى مناطق فرنسا التي تمتلك لغتها الخاصة وهي اللغة الكورسية التي هي أقرب إلى الإيطالية أكثر من الفرنسية، ولكن بسبب جهود الفرنسيين لنشر لغتهم عبر الوسائل الإعلامية الفضائية والتجارة تمكنت الفرنسية من السيطرة عليها، وهي جزيرة يعتمد في اقتصادها على السياحة، وتعتز بلغتها الكورسية على اللغة الفرنسية المشهورة، بل تسعى إلى زرع النزعة الانفصالية عن الجمهورية الفرنسية، وقبل عدة سنوات “أعلنت الجبهة الوطنية لتحرير كورسيكا نبذ الخيار المسلح في يونيو/حزيران 2014م، وربما لمكانة فرنسا في السياسة العالمية تخلت الحركة عن مطلب الاستقلال الكامل بل تسعى إلى الاعتراف بإدارة ذاتية للجزيرة الجبلية في البحر المتوسط”(نصح. 2018).
- حملة محو الأمية الشاملة التي انتهجها الامبراطور هيلاسيلاسي واعتمد على اللغة الأمهرية من بين مجموعة (80 لغة) من اللغات الوطنية أو اللهجات، بما فيها اللغة التيغرينية لغة آهالي اريتريا، وفعلا نجحت خطة حملة محو الأمية حتى أصبحت اللغة الأمهرية اللغة الرسمية لجمهورية إثيوبيا الفيدرالية الديمقراطية، ولغة التعليم في مراحل التعليم الأساسي حتى في إقليم ارتريا الذي كان يعتمد على اللغتين العربية والتيغرينية في تواصلها الشعبي، فترقية اللغة الأمهرية كانت على حساب إقليم ارتيريا، فمن أجل ترقية الأمهرية يشترط للمتقدمين للتعليم العالي معرفة اللغة الأمهرية كتابة وقراءة؛ مما كان سببا لمنع إقليم ارتيريا عن حقوقها الوطنية، وأصبح الأمهريون يشعرون بالاعتزاز على إخوانهم الذين لا يتكلمون بهذه، مما حرك مشاعر الارتيريين فأصبح ثورة في صفوف الطلبة والقيادات الارتيرية(الأسود 2006م، 50-60)، و”بعد 30 عامًا من الكفاح المسلح المستمر من أجل الاستقلال، دخل مقاتلو جبهة تحرير إريتريا عاصمة الإقليم “أسمرة” منتصرين، معلنين استقلال ارتيريا عن إثيوبيا عام 1991م (ويكيبيديا الموسوعة الحرة غير مذكور).
- جنوب السودان: كان جنوب السودان جزءا من جمهورية السودان التي تعتمد على اللغة العربية لغة رسمية للبلاد والإسلام ديانة وهوية، على الرغم من أن السودان تتمتع بمجموعة من القبائل والأعراق ومجموعة من اللغات واللهجات، وبالأخص جنوب السودان التي غالبيتها من القبائل والأعراق الأفريقية وديانتهم التقليدية والمسيحية، فبسبب سياسة السودان نحو العربة والإسلام اتهمت زعماء جنوب السودان ساسة جمهورية الخرطوم بالتراجع عن الوعود وهي فيدرالية الدولة، وأنها تسعى إلى فرض هوية إسلامية وعربية، مما أدى إلى دخول السودان إلى حرب أهلية دامت عقودا، وأخيرا الى الاستقلال عام 2011م(بدران 2021).
دور المماليك القديمة في إثراء التنوع اللغوي في مالي
تُعَدُّ جمهورية مالي من الدول ذات الحضارات العريقة في غرب إفريقيا؛ إذْ تُنسب إليها مجموعة من المماليك القديمة، منها مملكة غانا، ومملكة الصوصو، ومملكة مالي، وسلطنة جيني، ومملكة سيقو، وكارتا سلطنة ماسينا، ومملكة كينيدوغو، وفوتا واسولون، فدولة مالي الحديثة، فكل هذه المماليك لها أثر في التوزيع اللغوي في مالي، وأبرز هذه المماليك التي تركت أثرا ملموسا في السياسة اللغوية أو التوزيع اللغوي هي:
- جنوب مالي: وهو مجموعة من الأقاليم الواقعة جنوب البلاد وغربها، يتم التواصل الشعبي بمجموعة من اللغات الوطنية أشهرها لغة بامنا بلهجاتها، التي وراء سياسة نشرها مجموعة من العوامل منها التاريخ (مملكة الصوصو ومالي، وسيقو وكارتا، وكينيدوغو، واسولون، ومالي (الحديثة) والجغرافية. وسكان غالبية هذه المناطق ذات الناطقة بلغة بامنا، وأشهر الأقاليم ذات النفوذ لغة بامنا في إقليم كاي وكوليكورو، وإقليم ديوئيلا، وسيكاسو، وسيقو ويوغوني وكوتيالا، إضافة إلى العاصمة باماكو وضواحيها، وتأتي اللغة السوننكية في الدرجة الثانية بعد لغة بامنا في إقليم نيورو وبعض دوائر إقليم كاي، ولتوزيعها مجموعة من العوامل على رأسها العامل التاريخي والعامل الجغرافي.
- وسط مالي: وهو إقليم موبتي وضواحيها، وتتواصل سكان هذا الإقليم بمجموعة من اللغات الإفريقية وعلى رأسها لغة الفولاتة، وهي اللغة التواصلية الشعبية إذ كل قبيلة تتواصل فيما بينها بلغتها الخاصة، ولكن اللغة الفولاتية هي الرابط بين مجموعة من الشعوب والقبائل لأوساط جمهورية مالي، ومن أشهر المناطق ذات النفوذ الفولاتية إقليم موبتي وضواحيها وباجنغارا ودوانزا، إضافة إلى بعض مناطق إقليم سان، ولتوزيع الفولاتية مجموعة من العوامل منها التاريخية (مملكة ماسينا الفولاتية) والجغرافية (هي البقعة الفولاتية).
- شمال مالي: وهو تلك الأقاليم الواقعة شمال مالي وشرقها، يتم التواصل بين قاطنيها بمجموعة من اللغات واللهجات الإفريقية، وعلى رأس هذه اللغات لغة الصنغاي ووراء انتشارها مجموعة من العوامل منها التاريخية إذ منشأ مملكة الصنغاي، والجغرافية إذ هي من المناطق الرئيسة لأهالي الصنغاي، وأشهر هذه الأقاليم: غاو وتمبكتو، أما إقليم كيدال وتوديني وميناكا فيتم التواصل عبر لغة الطوارق. ولعل العوامل اللغوية بين الطوارق ومجموعة من الشعوب الأفريقية خلقت قطيعة بين الطوارق وبقية الشعوب، مما ساهم في مطالباتهم المتكررة بالانفصال أو الحكم الذاتي في مالي وفي النيجر، والقومية الأمازيغية في كل من الجزائر والمغرب وليبيا.
ولما كانت بعض أقاليم الشمال تعاني من مشكلة لغوية وهي أنّ الفرنسية هي لغة التواصل الإداري، وغالبية الشعب لا يفهم ذلك، ولغة التواصل الشعبي في العاصمة أيضا غير مفهومة لدي غالبية السكان الأبعد عن العاصمة، الأمر الذي خلق فجوة التواصل بين قلب الدولة وأطرافها منذ نشأة دولة مالي الحديثة، فالتواصل في الجنوب يتم عبر اللغة البامنية وخاصة في العاصمة ويعتز أبناء تلك اللغة بثقافتهم بأنها اللغة الوطنية بالدرجة الأولى.
والوسط بدوره يعتز بلغته وثقافته، ولا سيما أنه كان له فضل في تأسيس حضارة إسلامية كبيرة، فبطهارة الإسلام ونقائه يعتز الفولان بنزعتهم اللغوية، وهويتهم الإسلامية على كثير من الشعوب، وهذا ما جعل أهالي اللغة الفولاتية لديهم نظرة خاصة في كل من مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري.
سياسة التوزيع اللغوي في مالي
التوزيع الديموغرافي بين هذه الأقاليم، أدّـت الطبيعة الجغرافية إضافة إلى سياسة الإدارات السالفة إلى أن استقرار أو تمركز غالبية سكان جمهورية مالي في المناطق الجنوبية، وبتعبير آخر فإن التوزيع السكاني غير متكافئ بين الأقاليم بحسب مساحة مالي. وتعتمد على مجموعة من اللغات الوطنية اعترفت ببعضها ولم تعترف ببعضها الآخَر.
وقد اعترفت الدولة بما يقرب من اثنتي عشرة لغة وطنية، واللغات المعتمدة لدى أكاديميات اللغات الوطنية([6]) أما عن اللغات التي اعتمدتها الأكاديمية فهي: لغة بامنا: وهي الأكثر انتشارا، ولغة الفلاتة، والصنغاي، والسوننكي، وسينافو، وماماري، ودوغوسو، وبومو، وبوزو، ولغة تماشق. فضلا عن اللغة العربية باللهجة الحسانية (تراوري، اللغة العربية في المنومة العلمية بمالي، الواقع والآفاق 2017)، كما أنّ هناك جدلاً واسعاً حول لهجنة بعض اللغات ولغويتها، ربما من هذا المنظار لم تعتمد الأكاديمية بعض اللغات الوطنية باعتبارها لهجات تندرج تحت مسمى بعض اللغات.
البعد الجغرافي لجمهورية مالي
تتوزع الجمهورية إلى ثلاث مناطق مختلفة:
- المناخ السوداني: ويقع تحديدا ما بين مدينة كايس ومنطقة موبتي.
- المناخ الساحلي: تكون المناطق لتي تقع في هذا المناخ جفافة طيلة ثمانية أشهر خلا السنة، ويغطي كلا من غاو تومبكتو وكيدال وتوديني وميناكا.
- المناخ الصحراوي: تتميز هذه المنطقة بالجفاف الدائم تقريبا، وقد تصل درجات الحرارة إلى 40 درجة مئوية وتنخفض في الليل إلى 5 درجات مئوية أو أقل أحيانا(مجموعة من المختصين 2009ـ2010، 06).، ولعل هذا الاختلاف في المناخ الطبيعي كان له دور في تعزيز الهجرة الى مناطق أخرى داخل البلاد.
علما أنّ الاقتصاد في مالي كان يعتمد على الزراعة وتربية المواشي، إضافة إلى الصيد البري والنهري. وكل هذه الموارد تعتمد على مياه الأمطار، مما جعل توالي الهجرات الى المناطق التي تكثر فيها الأمطار والأشجار، وهذا ترك أثرا في التوزيع الديموغرافي في مالي، فأصبح جنوب البلاد مكثفة سكانيا أكثر من شمال البلاد، وإقليم سيكاسو خير مثال ومناطق زراعة نهر النيجر في سيقو.
كما أن هناك عوامل سياسية أخرى مهدت للاستعمار أن اختار الجنوب عاصمة للبلاد؛ إذ ْكان قصر كولوبا مقرا رئيسيا للحاكم الفرنسي أيام الاستعمار الفرنسي، وبعد الاستقلال لم تغير السلطات المحلية كثيرا من التنظيمات الإدارية كالعاصمة.
فلما كانت العاصمة موجودة في جهة الجنوب ساهمت في استيطان كثافة سكانية في الجنوب، ولما كانت العاصمة في المناطق الناطقة بالبمانية ساهمت بشكل مباشر في انتشار اللغة البامنية وتعميم الثقافة البمانية في أرجاء معمورية البلاد، بل أصبحت لغة تواصل شعبي في كثير من الأقاليم والدوائر والمقاطعات.
خلاصة القول أنّ لغة تواصل الجنوب يدور بين بامنا والسوننكي، ولغة تواصل الوسط يكون بين الفلاتة وبامنا، ولغة تواصل الشمال بين الصنغاي والتماشك وبامنا في المدن الكبرى، والكل يعتمد على الفرنسية لغة الإدارة.
اللغة والاستقرار الاجتماعي في مالي
لما كانت اللغة والفكر عملة ذات وجهين لا يمكن فكُّ أحدهما عن الآخر، فكان طبيعيا علاقة اللغة بالتفكير الإنساني، وأنّ فهم المرء مرهون بفهم لغته، وممّا لا شك فيه أنّ التفكير أساس كل سلوك يصدر عن الإنسان، وعليه فإنّ سلوك المجتمع هو لغته، فالأمن والاستقرار ناتج عن لغة المجتمع. وفي هذه الفقرة سأتناول اللغة وعلاقتها بالفكر الاجتماعي، وأثرها في الاستقرار الاجتماعي في مالي.
-
اللغة وعلاقتها بالفكر الاجتماعي
إنّ تحديد العلاقة بين اللغة والتفكير الإنساني من الموضوعات التي أعيت علماء اللغة والمفكرين، حتى رأى البعض أنهما شبه مترادفين؛ لكونهما عملة ذات وجهين، فلا يمكن تصور أحدهما دون الآخر، وفي سياق ذلك كثرت التعريفات حول ماهية الإنسان نفسه. يقول أرسطو الفيلسوف الإغريقي قائد علماء المنطق عن الإنسان بأنه “حيوان ناطق،” فالإنسان كائن عاقل، وصاحب العقل هو من يفكر ويتخيل ويحلل ويقيم وينتقد.
ولكن مهما طال هذا الجدل في ترجيح تعريف على تعريفٍ، فإنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي استطاع أن يضع أفكاره في قالب الأصوات أو الألفاظ المضبوطة وينقلها من جيل إلى جيل، وهو الذي ساهم في تطور الحضارة الإنسانية؛ إذ بسببه يسعى كل فرد إلى نقل تجربته (الأفكار والآراء) إلى أبنائه بواسطة اللغة، فكان سببا في تقدم الكائن البشري على بقية الكائنات التي لا تقدر على نقل تراثها أو تجاربها الفكرية والعقدية إلى الأجيال اللاحقة.
ولما كان التواصل بين الكائنات البشرية عملية ضرورية لاستمرار الحياة البشرية، تَنَبّه الإنسان منذ عصر مبكّر إلى ضرورة الاهتمام بالجوانب اللغوية بغية كسر حواجز التفاهم وتركيع رموزها نحو التواصل بين المخاطبين؛ بل لا تزال هذه العمليات مستمرة في دراسات الرموز اللغوية وقواعدها وماهيتها؛ وعليه عُرِّفَت اللغة تعريفات عدّة، منها أنّها عبارة عن نسق من الرموز والإشارات التي تشكل في النهاية إحدى أدوات المعرفة (تراوري، مفاتيح علم اللغة الحديث 2023).
يرتبط التفكير الإنساني باللغة ارتباطا وثيقا؛ إذ دلّت الدراسات على أنّ هناك توافُقاً وتفاعُلاً وتلازُماً بين اللغة والفكر الإنساني، وأن مفردات اللغة ترمز إلى فكر، وكل لفظة تتضمن فكرة أو صورة ذهنية تترسخ في العقل عبر التجربة والاختبار؛ عليه فاللغة وسيلة للتعبير عن الفكر، وبتعبير آخر اللغة وسيلة والفكر غاية، وهناك تأثير وتأثّر بين اللغة والتفكير، كما لا يوجد تفكير بدون لغة، ولا توجد لغة بدون تفكير، فاللغة هي التي تحدد مسار الفكر وترسم له حدوده، كما أن التفكير هو أيضا الموجِّه للغة، والتفكير هو الكلام الداخلي.
قد يختلف المرء مع سياسة فرنسا الداخلية أو الخارجية؛ لكن من الإنصاف الاعتراف بأن مجمع اللغة الفرنسية من أنجح المجامع اللغوية في العالم…
يتفق كثير من الباحثين في اللسانيات على أنّ اللغة عبارة عن مجموعة من العلامات أو الدلالات، ترمز إلى أشياء غير الأصوات أو الرسوم الكتابية التي نسمعها أو نراها، وإنما ترمز إلى مفهوم أو قيم لا توجد إلا في أذهان مجموعة من الناس، بمعنى آخر: لا معنى لمجرّد صوت “الإنسان” إلا في الفكر اللغوي العربي، ولا معنى لصوت “الحمار” إلا في الفكر اللغوي العربي، عليه فقد تسمع كلمة “أو صوتا” يحرك مشاعر وعواطف قوم، وتلتقي قوما آخرين لا يعطون بالا لتلك الأصوات.
فاللغة عبارة عن موروث ثقافي تَوَارَثَ عليه الناس جيلاً بعد جيل، وهي التي توجه سلوك المجتمع وتحركه، فكلما قُنِنَتِ اللغة وعُنِيت بها بطريقة موجهة أثّرتْ في سلوك مستعمليها، ولعلّ هذا ما تنبه إليه الكاردينال ريشيليو رئيس وزراء الملك الفرنسي لويس الثالث[7]، الذي كان مولَعاً بالأدب والفن؛ فخطّط لتكون مدينة باريس مجمع الأدباء والفنانين، كما سعى إلى المحافظة على الأمن والاستقرار لباريس حتى أصبحت قبلة أدباء أروبا وفنّانيها ورجال الفكر الأوربي، وأصبحت مضرب الأمثال في النشاط الأدبي والعلمي.
ومن شدة حرصه على الأدب والفن الفرنسي كان أول من نهج تقنين اللغة الفرنسية بأسلوب الأدباء والفنانين، وسعى إلى تخليص اللغة اللاتينية وتبديل الفرنسية الأدبية بها، فكان أمرا مدهشا في أوروبا وفي العالم، فلم تكن الفرنسية لغة التعليم في فرنسا إلا بعد عام 1637م.
وكان أول معاهدة دولية كتبت بالفرنسية هي (اتفاقية راستات)[8] بدلا من اللاتينية. وبعد ذلك صار من الضروري إثراء اللغة الفرنسية وتنمية مفرداتها وتوحيد المفردات اللغوية المستجدة فيها، بغية القيام بمهامها الجديدة المناطة إليها، كما قام المجمع اللغوي الفرنسي المكوَّن من مجموعة من الأدباء والفنانين بتنقية اللغة الفرنسية من اللهجات والألفاظ المستهجنة، وقد كرّس ملهابي جهدا جبارا في ذلك من خلال أشعاره وإنتاجاته الأدبية، بدعم من قصر الملك (الأسود 2006م).
قد يختلف المرء مع سياسة فرنسا الداخلية أو الخارجية؛ لكن من الإنصاف الاعتراف بأن مجمع اللغة الفرنسية من أنجح المجامع اللغوية في العالم، على الرغم من أن بداية الاهتمام بها والتعليم بها في المدارس لا تتجاوز ثلاثة قرون وزيادة، مقارنة ببعض اللغات كالعربية التي يزيد الاهتمام بها على أربعة عشر قرناً.
ولا تزال هذه الأثار الأدبية تلاحَظ في الفكر الاجتماعي لفرنسا، حتى أصبح فلاسفتها يُعرَفون بالفلاسفة التنويريين، واللغة الفرنسية من اللغات الأدبية، ولا تزال فرنسا مضرب الأمثال في الدراسات الأدبية.
فمن آثار اللغة الفرنسية على الناطقين بالفرنسية عدم استخدام ضمير المفرد للسادة الكبار وذوي الفخامة كأمثال الرئيس أو الملك أو الوزير (كـ “أنتَ أو أنتِ”Toi))”، أو مَن ليس بينك وبينه معرفة مسبقة. قواعد الفرنسية تستلزم استخدام ضمير الجمع عند الخطاب (أنتم أو أنتن “Vous”).
وهذا يدل على أثر العلماء في تنقية اللغة الفرنسية، كما أن حركة تحرير المرأة تؤمن بأن اللغة ليست بريئة من تقليل شأن المرأة، فالرجل مثلاً مهما كانت حالة زواجه يسمى السيد، بينما المرأة إذا تزوجت تسمى السيدة، وإن لم تتزوج تسمى الآنسة. وحركة تحرير المرأة ترفض هذه الازدواجية في اللغة وغيرها (الأسود 2006م، 37) .
وفي إطار ذلك يرى بعض المطالبين لحقوق الانسان أنّ اللغة ليست بريئة من بعض المعتقدات الخاطئة في المجتمع، كأفضلية الجنس الذكوري على الجنس الأنثوي، أغلب اللغات الغربية سعت إلى محاربة هذا المعتقد في التفكير الغربي، فبدأوا بتقديم الجنس الأنثوي على الجنس الذكري، ويتجلى ذلك في تحياتهم “سيداتي آنساتي سادتي” حتى أصبح أسلوبا معروفا في الخطابات العالمية اليوم، وظهرت فرقة أخرى لا تقبل التفريق بين السيدة والآنسة على أساس أنّه لا فرق بين الرجل المتزوج وغير المتزوج في الخطاب الرسمي بل يطلق لفظ “السيد”.
وهذا ما قام به علماء العربية وخصوصا علماء المعاجم الذين قسّموا المواد اللغوية إلى الفصيح والغريب، والمبتذل والوحشي، فكانوا يحرصون كل الحرص على تنقيه اللغة العربية وترقيتها من الكلمات الهجينة والمبتذلة والوحشية، وهذا واضح في كثير من أسماء المعاجم العربية مثل تهذيب اللغة للأزهري والصحاح للجوهري وأساس البلاغة للزمخشري (الفرج 1966م).
ربما هذه الآثار جلية في اللغة العربية الفصحى، فمثلاً الهجاء فن من فنون الأدب العربي؛ لكن الهجاء العربي يحترم شخصية الإنسان بصفته إنساناً، فقلّما يستخدم بعض الكلمات المبتذلة والبذيئة أخلاقيا وأدبيا، إذْ أصبح أبشع شتم تستخدمه اللغات المتحضرة هو تشبيه الإنسان بالبهائم والحيوانات، مما يؤكد وجود آثار اللغة في التفكير والسلوك الاجتماعي.
أثر اللغة في الاستقرار الاجتماعي في مالي
من الأدبيات التي شغلت فِكر علماء النفس القومي أو الثقافي هو ارتباط أثر اللغة في العمليات الإدراكية أو التفكرية (تروادِك 2007)؛ لكن يكاد الباحثون يتفقون على أن الصراعات التي تشتعل بين الجماعات والإثنيات محلها اللغة. وتُعَدُّ جمهورية مالي دولة ذات الفسيفساء؛ إذْ تتكوّن من مجموعة من عرقيات مختلفة تكاد تصل إلى سبعين عرقية، بعضها لديه لغة خاصة والبعض الآخر ليست لديه لغة خاصة؛ بل يتشارك مع مجموعة أخرى في اللغة، وكل عرقية تعتز بقوميتها وتاريخ أمجادها ودورها المحوري في عمارة البيئة المحلية.
ومن طبيعة الإنسان أنّ كل فئة ترى الظواهر التي تحيط بها بالاستمرار صواباً، أي قلّما يقدِر أحدُهم أن يفكر خارج محيطه البيئي، فيلجأ إلى تفسير الظواهر تفسيرا بسيطا؛ مما جعل كثيرا من الناس يفكر دائما بأفضلية ما عنده أو ما يحيط به من سلوكيات بيئته، ويؤمن بخطأ ما عند الآخرين، وهذا هو الأصل في الشعور بالتفوق العرقي أو القومي أو اللغوي (ن. لبيديفا 2003).
ومن هذا المنظار، يمكننا إيجاد تفسير لأسباب كثيرة من الصراعات والنزاعات بين الشعوب عبر العالم، فكل شعب يَكْمن في داخله أن ما تربى عليه من الثقافة والعادات هو الأرقى وهو الأفضل، وأنّ ما عليه غيره هو الأضعف وهو الخطأ، وفي الغالب الحجج الأفضلية والنظرة الغيرية تكمن في التاريخ والبيئة، وهذا جعل كل اثنية تفتخر بلغتها وثقافتها، لا سيما إن كانت لا تعي لغة غيرها أو ثقافته.
وجمهورية مالي كغيرها من غالبية دول العالم، بها مجموعة من الأعراق واللغات الوطنية، ولما أرادت تأسيس دولتها الحديثة تبنت اللغة الفرنسية لغة رسمية للبلاد، ما جعل النخب يخاطبون باللغة الفرنسية، وعامة الناس بمجموعة من اللغات المحلية. هذا يعني انفصالا شبه تام بين النخب والجماهير الشعبية، وأصبح خطاب النخب لا يُفهم كما ينبغي، وعدم الفهم هذا يعرقل أحياناً وصول بعض رسائلهم إلى الناس.
ومن أجل ذلك كان أول تمرّد حدث في مالي هو تمرد الطوارق شمال مالي. ولا شك أن عدم فهمهم لغة الجنوب له دور في تعزيز التقاطع الإقليمي؛ بل حتى الآن أغلب الحركات الانفصالية عدم فهم لغة العاصمة أحد الأسباب في تكوينها. أو أغلب المسلَّحين ضد الحكومة لا يفهمون لغة التواصل الشعبية لسكان العاصمة أو القادة، ومن هنا جاءت مقولة “الترجمة خيانة،” أيْ الترجمة لن توفي كلّ خصائص اللغة المترجمة، مما يقلل تأثير خطاب النخب، وربما كان من الأجدر العمل على توسيع دائرة اللغة الرسمية بكل وسيلة، أو ترجمة الخطابات الرسمية فور إلقائها بلغة أدبية جذابة لتصل إلى جميع المواطنين في أسرع وقت ممكن.
وتاريخ جمهورية مالي ليس ببعيد عن هذه الأدبيات؛ إذْ كل عرق أو كل لغة تفتخر بما عندها؛ بل تنظر إلى اللغة الأخرى بنظرة خاصة، وبالأخص الأعراق المتباعدة وحتى المتقاربة أحيانا، على الرغم من أنّ أغلب الإثنيات المالية لها تقارب في الجذور والتاريخ، وكان من الأجدر دراسة خصائص كل الأعراق أو اللغات وبيان مميزاتها وحِكَمها وإدراجها في المناهج التربوية، بغية التقارب بين وجهات النظر المختلفة بين أعراق الشعب الواحد.
كما أنّ الإثنيات المالية يصعب حصرها دون الرجوع إلى اللغة، فاللغات الوطنية المالية ترجع أصولها إلى ثلاثة فصائل رئيسة رغم اختلافها، وفصائل اللغات المشهورة في مالي تتمثل في الآتي:
- فصيلة اللغات النيجرية الكونغولية منها: لغة بامنا على فروعها، ولغة السوننكي، ومنها لغة الفولاتة، ولغة بامو، ولغة بوزو، ولغة الدوغون، ولغة سينافو ولغة ماماري، وكلّ لغة من هذه اللغات لها لهجات وتسميات مختلفة. أما ما يتعلق بالفروع الداخلية بين اللغات النيجرية الكونغولية فلم أتطرّق إليه اختصاراً.
- اللغات النيلية الصحراوية: وهي بدورها كثيرة، وأشهرها في مالي: لغة الصنغاي على اختلاف لهجاتها وتسمياتها.
- فصيلة اللغات الأفروـ آسيوية: وهي أيضاً كثيرة ولكن نذكر منها ما يوجد في مالي وهي: اللغة العربية على اختلاف لهجاتها وتسمياتها، ولغة التماشيك على اختلاف لهجاتها وتسمياتها(مؤسسة ويكبيديا 2023).
من خلال الفصائل اللغوية المالية السابقة، يتجلى لنا أنّ أغلب اللغات الوطنية تنتمي إلى فصائل لغوية للغات النيجرية الكونغولية في الغالب، وهذا الرجوع لا يكون صدفة وإنما له عوامل تاريخية وجغرافية، وربما كان أغلبها من أصول لغوي واحد، وتشتّتتْ إلى مجموعة من اللغات أو اللهجات المتقاربة في الأصل.
ويبدو -من خلال الدراسات التاريخية- أنّ الصراعات التي كانت تحتد بين المماليك والإمبراطوريات كانت الصراعات الإثنية وراءها، نتيجة شعور بعض القوميات بالتهميش العرقي أو العقدي، يظهر ذلك في التجاذبات التي حدثت بين مملكة غانا السوننكية والصنهاجة، أيْ المرابطين (كجيرى غير منشور) والصراعات التي كانت تحدث من حين لآخر بين مملكة بامنا سيغو موسي وفلاتة ماسينا (كجيرى غير منشور، 389-391).
والأحداث التاريخية والأعمال البطولية كانتا عاملين في دعم الشعور العرقي بالارتقاء؛ إذ المماليك الإفريقية لم تعتمد على تأسيس معسكر خاص بالجنود والمحاربين، بل كانت تعتمد على الرجال الأقوياء من كل قبيلة، يمكن أن يدافع عن نفسه وعن قبيلته عند الحاجة، وعُرفوا في التاريخ بـ (الدونصو) الصيادون، وكان طبيعيا أن يتعود الصياد استعمال السلاح ويتدرب عليه، وهذا يتطلب ملكة في البنية الجسدية التي يمنحها الله لمن يشاء، أو ملكة السلاح مما ساهم في تقسيم الشعب إلى عدة أقسام:
- طبقة الجنود المحاربين: هم النبلاء (الأحرار والأسياد) يأتي منهم الملوك من حين لآخر.
- طبقة القائمين بالحرف اليدوية أو الاجتماعية: في الغالب هم من لا يقدرون على الحرب، أو من خصصتهم السلطات بالحرف اليدوية، كما خصّص الملك سوماورو كانتي بعض الأسر بالعناية بصناعة السلاح وصيانته وقطاع غياره، أو القائمين بالشؤون الاجتماعية كالإصلاح بين الخصيمين أو السعي بين الأسرتين بغية الزواج، وغيرها من الأعمال الاجتماعية المعروفة عندنا.
- طبقة العبيد: وهذه الطبقة كانت تأتي نتيجة لحرب بين القوميتين المختلفتين(موسوعة تاريخ مالي غير منشور، 128).
وفي الغالب هذه التقسيمات كانت موجودة في تاريخ كثير من الشعوب المتحضرة، مثلما كان في فرنسا طبقة رجال الدين أو الذين يعملون في صالح معتقدات الكنيسة، وطبقة النبلاء زهم الأشراف الذين ينحدر منهم الملوك والقادة وطبقة الأيدي العاملة.
ولعل هذا كان سببا لولادة علم خاص داخل علم النفس سُمي بعلم نفس الثقافات الذي يبحث في الدراسة العلمية للسلوك الإنساني والعمليات العقلية، لما فيها من تباين وتماثل في الظروف الثقافية المتنوعة. تسعى إلى توسيع وتطوير علم النفس عبر توسيع منهجيات البحث للتعرف على الاختلافات الثقافية في السلوك واللغة والمعنى (تروادِك 2007، 102).
وهذا التقسيم التاريخي والطبعي هو الذي أعني بلغة الطبقات أو مصطلح الطبقات إلى درجات متفاوتة أثارت خمول بعض القبائل واعتماد بعضها على بعض، بل تسخير بعضها البعض، فتنبه إليها السياسي المحنّك قائد مملكة الصوصو سوماورو كانتي، فأراد أن يزيل هذا المصطلح أو اللغة الطبقية خلال خطبته المشهورة في مؤتمر صوصو الثاني عام 1223م؛ مما أثار غضب الشعب فردّ عليه نارين ماغا كيتا قائلا: “إنك حررت جميع عبيدنا على الرغم منا (دون إذن منا) مع أننا لم نتفق على ذلك، ولم نتكلم أصلا على العبيد فضلا عن القول بتحريرهم، إنما حررت عبيدنا لتجعلنا أنفسنا عبيدا” (كجيرى غير منشور، 97-98)، وهذا كان من حجج نارين ماغا في إقناع أعيان ماندي في الإثارة ضد سوماورو كانتي، فدافع الأعيان عن رأي نارين ماغا ضد سوماورو حتى أسقطوا مملكة الصوصو.
وبعد سقوط مملكة الصوصو والمتحالفين معهم وفوز سنجاتا كيتا في ضمّ مساحات كبيرة لبلاد ماندي ألقى خطبة شهيرة عرفت بخطبة مؤتمر كروكان فوكا[9]، خلال هذه الخطبة كان ذكيا وفطنا إلى حساسية الشعب الماندي الذين ساعدوه في الحرب بغية إقامة مملكة ماندي؛ فقال كلمته الشهيرة: “إنّ الأصبع الواحد لا يلتقط الحصى” (كجيرى غير منشور، 207) فبايعه الناس، ولم يُلغِ نظام الطبقية أو العبودية؛ بل نظّمه بطريقة حكيمة وذكية جدا قلّ له مثيلٌ في تاريخ البشرية؛ فقد اخترع مصطلحا آخر وهو التعاهد بالمسالمة والممازحة بين القبائل والأعراق، عُرفت في تاريخ إفريقيا الغربية بـ (Sinankunya) يقصد بها المسالمة والممازحة بين الأعراق والأفراد.
وجاء في المادة الرابعة عشر من معاهدة كروكان فوكا: أنّ وسائل تسلية الشعوب أربعة، وهي: الممازحة (سنانكويا- (Sinankunya، والمحافدة (المزاح بين الأجداد والأحفاد)، والحَمُوَّة (اخوة صغار الأزواج)، واللدادة (الأقران) (كجيرى غير منشور، 212).
أعتقد كانت هذه الفكرة مبادرة طيبة عمّت كثيرا من مناطق غرب إفريقيا، ثم بعد ذلك تطورت الفكرة ودخلت في عناصر كثيرة لم يُنَصّ عليها في مؤتمر كروكان فوكا؛ بل الفكرة وجدت قبولا لدى كثير من شعوب غرب إفريقيا بصفة عامة، وأصبح ميزة من مميزات الشعوب، فاستعملتها كثير من القبائل في المصالحة والمسالمة والمعايشة السلمية، وهي موجودة في كثير من بلاد ماندي، ومالي وبوكينا فاسو وساحل العاج وغينيا كوناكري وغينيا بيساو وسيراليون وليبريا والسنغال وموريتانيا، ناهيك عن غامبيا.
لقد كانت الألقاب موجودة منذ عهد واغادوغو والصوصو؛ ولكن مملكة ماندي أعطتها نكهة جديدة زادت جمالها ورونقها، ولما كانت الممازحة في هذا البعد الجغرافي الواسع، فقد صعب حصرها كلها في هذه المقالة، ولكن يمكن الإشارة إلى أبرز أنواعها، وهي:
- الممازحة الخارجية، وهي على قسمين هما:
- أ. الممازحة بين الاثنيتين المختلفتين، مثل ما بين أهل أبناء ماندي (الملوك الجدد) وأبناء السوننكي (ملوك مملكة غانا الأسبق)(KEITA 2011, 42) أو ما بين أهالي الدوغون وأهالي الصنغاي وأغلب أهالي الشمال، بما فيهم التماشيك والعرب، وما بين أهالي الدوغون والبوزو (KEITA 2011)، ومثلما بين أهالي بومو والفلاتة، وما بين الفولاتة والحدّاديّين) …إلخ.
- ب. الممازحة بين المناطق المختلفة مثلما بين أهالي نيامينا وأهالي سيزاني في إقليم سيقو، في هذه الممازحة لا تراعَى الأعراقُ أو الانتماء اللغوي بقدر ما تراعَى المنطقة، وما بين أهالي مالي وأهالي غامبيا.
- الممازحة الداخلية : وهي تنقسم بدورها إلى قسمين:
- أ. الممازحة الداخلية في الاثنية الواحدة؛ كالممازحة بين أهالي كيتا وأهالي كمارا، وبين أهالي كيتا وأهالي كوليبالي(KEITA 2011, 62)، أو ما بين أهالي تراوري وأهالي جارا، داخل الاثنية الناطقة باللغة المانديكية أو البامنية، والممازحة بين أهالي ميغا (أصحاب السيادة الأولى في مناطق الصنغاي) وأهالي توري (أصحاب السيادة الجديدة في مناطق الصنغاي)، أو ما بين أهالي جالو وأهالي جاكتي أو باه للاثنية الناطقة بالفولاتة …إلخ.
- ب. الممازحة الداخلية بين الأسر: هذه الممازحة تكون بين الجد والحفيد، أو بين أبناء الأخوال وأبناء الأعمام، أو بين الزوج وإخوة أو أخوات الزوجة الصغار، أو الحم أو العكس.
وقد تتجاوز هذه الممازحة عند بعض القبائل حتى يمنع التزاوج بين الاثنيتين المختلفتين، إذْ الزواج فيه أوقات الفرح، وفيه أوقات الحزن، ومحظور أن يُغضِب بعضهم بعضا، ناهيك عن المخاصمة أو المقاتلة، وقد كانت الممازحة الشعبية سببا في تهدئة كثير من النزاعات بين القبائل؛ بل بين الأفراد، وأحيانا تصبح عقيدة يؤمن بعض الناس أن مخالفاتها لها أضرار في حياة المخالفين.
الخاتمة، أهم النتائج، والتوصيات
يُعدُّ الصراع بين اللغات من الموضوعات التي اهتم بها علماء اللغة، وخاصة في ظل الاهتمام بالسياسة اللغوية والتخطيط اللغوي؛ بل قضية الصراع اللغوي تمتد إلى كل النواحي الاجتماعية والاقتصادية. فجمهورية مالي، عاشت هذه التجربة اللغوية، فكان لتاريخها تجربة فريدة في معالجة الأزمة العرقية واللغوية بين الشعوب القاطنة في بقعة جغرافية واحدة، ولهذه الأهمية، حاولت هذه الدراسة تسليط الضوء على تجربة مالي في السياسة اللغوية لتعزيز التماسك الاجتماعي. وقد توصلت الدراسة إلى جملة من النتائج، منها:
- إن التعدد اللغوي والعرقي، ووجود بعض الطبقات الاجتماعية بات أمرا حتميا، لا مفر منه.
- إن الصراع اللغوي والعرقي أو الطبقي بين المجتمعات بات أمرا واقعا، لا مفر منه، ويحتاج إلى تقنين.
- إن الصراعات العرقية والطبقية التي تحتد في الساحة الاجتماعية عبر التاريخ مصدرها الصراع اللغوي.
- إن سوء إدارة السياسة اللغوية أو التخطيط اللغوي قد يولد الصراعات العرقية والقومية.
- تجربة مؤتمر كوركان فوكا تعتبر نموذجا ناجحا في إخماد الصراع اللغوي والعرقي في مالي. وأيضا غطت على كثير من المصطلحات اللغوية التي تزرع روح النعرات السالفة، وبدلتها بالممازحة الشعبية بين القبائل والأعراق الموجودة في مالي بل في غرب افريقيا عامة.
التوصيات
يمكن تزيل هذا البحث بجملة من التوصيات قد يفيد الباحثين والأكاديميين منها ما يلي:
- إفريقيا بلد الحضارات والثقافات يمكن دراسة تراثها بشكل أعمق بغية الوصول إلى تجارب علمية مفيدة للبشرية جمعاء.
- مؤتمر كوركان فوكا له جوانب علمية مفيدة في كثير من مجالات الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية، أوصي بدراسته من خلال جوانب أخرى، بغية عرضه بشكل جذاب ومفيد.
- أوصي بالدراسة والتنقيح للتراث الإفريقي بغية تأويلها بطريقة أحسن والأجود، إلا فقد يتناول الطابور الخامس بطريقة مشبوهة.
- أوصي بدراسة دور اللغات الإفريقية في ترسيخ القيم الاجتماعية والأخلاقية في غرب أفريقيا.
- أوصي بمقارنة القيم الأخلاقية اللغوية بين التراث اللغوي الإفريقي والتراث اللغوي من خلال اللغات المشهورة عالمية.
الحمد لله الذي منّ عليّ لإخراج هذه الدراسة إلى النور، ساعياً عرض بعض النماذج الإفريقية الناجحة في ترسيخ قيم التعايش السلمي في إفريقيا، وما التوفيق إلا من الله سبحانه، متمنيا يوما تطوير هذا الموضوع بشكل أعم وأجود من هذا العرض المختصر.
الهوامش والإحالات
[1] ـ سورة الفرقان الآية 72
[2] ـ روبرت مورييس سابولسكي (Robert Morris Sapolsky) (مواليد 6 أبريل 1957) عالم أمريكي، مؤلف كتاب “سياسة اللغة”.
[3] ـ ملاحظة الباحث خلال إقامته في ليبيا أثناء دراسته هناك (2008م ـ 2013م).
[4] ـ على الرغم من السياسة اللغوية للجزائر تعد غير مستقرة بعد، إذ كانت العربية هي الأولى ثم الفرنسية ولكن سياستها تتجه نحو الإنجليزية.
[5] ـ على الرغم من اختلاف تسمياتها من دولة إلى أخرى لغة بامنا تعرف في بوركينا وكوت ديفوار بلغة جولا وغينيا كوناكري تعرف بلغة ماديغو، والصنغاي في النيجر تعرف بلغة جَرما.
[6] -AMALAN – ACADEMIE MALIENNE DES LANGUES
[7] ـ أرماند جان دو بلاسيس دو ريشيليو (Armand Jean du Plessis de Richelieu) أو الكاردينال ريشيليو (9 سبتمبر 1585 – 4 ديسمبر 1642م) هو رجل دولة ورجل دين ونبيل فرنسي. كان وزير الملك الفرنسي لويس الثالث عشر. أصبح كاردينالا سنة 1622م ومن ثم أصبح سيد الوزراء لدى لويس الثالث عشر سنة 1622م حتى وفاته سنة 1642م وهو مؤسس أكاديمية اللغة الفرنسية أو المجمع اللغوي الفرنسي.
[8] ـ معاهدة راستات وقِعت في 7 آذار/مارس، هي بالأساس تتمةً معاهدة أوترخت. كانت نتيجة لمفاوضات دارت بين عامي 1713 و 1714 بين مارشال فرنسا كلود لويس هيكتور من فيلار والأمير النمساوي يوجين من سافوي.
[9] ـ Kouroukan Fouga) أو Kurukan Fuga ):هي دستور إمبراطورية مالي التي تم إنشاؤها بعد معركة كرينا (1235) من قبل جمعية من أعيان أهالي ماندي لإنشاء حكومة للإمبراطورية الجديدة (امبراطورية مالي)، وفقًا لروايات أهالي ماندي لسوندياتا. وفقًا للتقاليد الشفوية للشعراء القصاصين في مالي وغينيا، فإن Kouroukan Fouga أسست اتحاد قبائل الماندينكا تحت حكومة واحدة، وصفت بأنها “أول دستور في العالم”.( https://ich.unesco.org/ )
قائمة المصادر
أولا: المصادر والمرجع العربية:
- برتران تروادِك. علم النفي الثقافي. ترجمة حكمت خوري، جوزف بو رزق. بيروت: دار الفارابي، 2007.
- بكاري تراوري مفاتيح علم اللغة الحديث. باماكو: مطبعة عبد العزيز داملي، 2023.
- بكاري تراوري. اللغة العربية في المنظومة العلمية بمالي، الواقع والآفاق. باماكو، جامعة الآداب والعلوم الانسانية : رسالة الماستر، 2017.
- تمام حسان. اللغة العربية معناها ومبناها. الدار البيضاء: دار الثقافة، 1994م.
- روبرت .ل. كوبر الأسود. التخطيط اللغوي والتغير الاجتماعي. ترجمة د. خليفة أبوبكر الأسود. طرابلس: مجلس الثقافة العام، 2006م.
- عبد القادر بن تيجان بن لالم كجيرى. موسوعة تاريخ مالي. مدينة طوبى: غير منشور، غير منشور.
- لويس معلوف. المنجد في اللغة والأعلام. المجلد 39. بيروت: دار المشرق، 2002.
- مجموعة من المختصين. مذكرة الجغرفيا للصف التاسع. باماكو: EDITIONS TROPICS BAMAKO، 2009ـ2010.
- محمد أحمد الفرج. المعاجم اللغوية في ضوء دراسات علم اللغة الحديث. بيروت: دار النهضة، 1966م.
- محمود بن عبد الله. “السياسة اللغوية السعودية: تحليل ودراسة.” مجلة جامعة الملك عبد العزيز، الآداب والعلوم الانسانية م 28، ع 13 ص193ـ 230 ، 2020م، 13 07, 2020: 195.
ثانيا/ المراجع الأجنبية:
- INSTITUT NATIONAL DE LA STATISTIQUE DU MALI. «FEMMES ET HOMMES AU MALI.» PUBLICATION 2018, 31 12 2018: pg 16.
- KEITA, JEAN DJIGUI. LES MANDINGUES DE KOUMBI A PARIS. Bamako: Imprime sur les presses d’ Imprim Color, 2011.
- Ministe de l’administration territoriale et de la decetralisation du mali. Rapport general de la commission charge de la Reorganisation territoriale. bamako: Ministe de l’administration territoriale et de la decetralisation ، 2012.
- TRAORE, Mamery. REVUE SCIENTIFIQUE SEMESTRIELLE DE L’ULSHB, 31 12 2022: 1.
ثالثا/ المواقع الإلكترونية
- . https://maliactu.net. Moussa Sékou Diaby /. تحرير. 01 07, 2022. 02:51 (تاريخ الوصول 05 04, 2023).
- أخبار، المحرر. https://www.albawaba.com/. أخبار. الثلاثاء 2002, / أكتوبر 2017. 242424 (تاريخ الوصول 22 04, 2023).
- أمادو ميغا. https://profismailabarazi.blogspot.com. بوابة اللسانيان الافريقية. 21 09, 2020. 03:56 (تاريخ الوصول 19 04, 2023).
- سنان حتاحت، باحث زميل في منتدى الشرق، ومركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ورئيس تحرير مدونة نصح. https://studies.aljazeera.net. مركز الجزيرة للدراسات. 30 أوت, 2018. 20:15 (تاريخ الوصول 25 04, 2023).
- محمد العتر. https://www.sasapost.com. ساسة. 03 05, 2015. 04:45 (تاريخ الوصول 21 04, 2023)
- مقطع الفيديو يوتيوب. السياسة اللغوية: المفهوم والأنواع. 2023.
- مؤسسة ويكبيديا. https://fr.wikipedia.org. wikipedia. 07 03, 2023. Langues au Mali (تاريخ الوصول 15 04, 2023).
- نادجدا لبيديفا. “رحلة في المعرفة.” لماذ نحن مختلفون. 2003.
- وليد بدران. https://www.bbc.com. بي بي سي. 09 07, 2021. 21:55 (تاريخ الوصول 25 04, 2023).
- ويكيبيديا الموسوعة الحرة. https://ar.wikipedia.org. ويكيبيديا الموسوعة الحرة. غير مذكور غير مذكور, غير مذكور. 21:21 (تاريخ الوصول 25 04, 2023).
رابعا/ مقابلة شخصية
- حوار علمي بين الباحث والأستاذ/ الحسن دامبلي. المصطلحات الأكاديمية المعاصرة عند علماء انكو باماكو، (28 03, 2023).