يُعَدٌّ الصراع بين الهوتو والتوتسي في رواندا وبوروندي نموذجا معقدا لنزاعات الهوية التي تشكلت عبر التاريخ بفعل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
على الرغم من بداية العلاقة بين المجموعتين كنظام اقتصادي اجتماعي تكاملي، إلا أنّ التدخل الاستعماري الأوروبي، خاصة من قبل ألمانيا وبلجيكا، عمّق الفجوة بينهما عبر سياسات تمييزية منحت التوتسي امتيازات على حساب الهوتو، ما أدى إلى تصاعد التوترات وتحولها إلى صراع دامٍ ترك بصماته العميقة على المنطقة.
في ظل استمرار التغيرات السياسية والجيوسياسية في إفريقيا، وفي شرقها على وجه الخصوص، تزداد أهمية دراسة هذا النزاع التاريخي؛ لفهم أبعاده وتأثيراته الراهنة على الاستقرار الإقليمي. ويهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على الجذور التاريخية للصراع بين الهوتو والتوتسي، وتأثيرات الاستعمار في تعميقه، إضافة إلى تحليل تداعياته الاجتماعية والسياسية، وانعكاساته على الأوضاع الإقليمية.
جدول المحتويات
الصراع بين الهوتو والتوتسي .. الجذور التاريخية
التوتسي والهوتو هما المجموعة العرقية الرئيسة في كل من رواندا وبوروندي، ولهما تاريخ معقد وحافل بالصراعات والتداخلات الاجتماعية والثقافية. وجودهما الأساسي يتركز في رواندا وبوروندي، لكن لهما امتدادات في دول مجاورة مثل أوغندا، وتنزانيا، والكونغو الديمقراطية نتيجة للهجرات التاريخية والصراعات التي شهدتها المنطقة.
البنية الاجتماعية والاقتصادية للهوتو والتوتسي
يمثل الهوتو الأغلبية السكانية بنسبة تصل إلى 84% في كل من رواندا وبوروندي. وأما التوتسي يمثلون الأقلية بنسبة تبلغ 15%،[1] وكانوا تاريخيا يرتبطون بالرعي والثروة الحيوانية، ما أعطاهم نفوذا اقتصاديا واجتماعيا.
فالعلاقة بين الهوتو والتوتسي لم تكن في الأصل صراعًا عرقيًا، بل علاقة اقتصادية تتسم بالاعتماد المتبادل؛ حيث كان الهوتو يزرعون الأرض، بينما يوفر التوتسي الحماية والماشية. هذه العلاقة أشبه بنظام الإقطاع الأوروبي، حيث كان الإقطاعيون (التوتسي) يملكون الموارد (الماشية) بينما يعمل المزارعون (الهوتو) لديهم مقابل الخدمات أو الحماية.
ومع مرور الزمن، ومع استحواذ التوتسي على الثروة والقوة السياسية، بدأت العلاقة تميل إلى الاستغلال، حيث أصبح التوتسي يُنظر إليهم كنخبة مسيطرة، بينما ظل الهوتو في الطبقة الأدنى من المجتمع.
الاستعمار الأوروبي (خاصة البلجيكي) زاد من هذا الانقسام بتعزيز مكانة التوتسي ومنحهم امتيازات أكبر، مما جعل النظام الاجتماعي يبدو كصراع “عرقي”، على الرغم من أنه كان في الأصل اقتصاديًا طبقيًا.
وعلى الرغم من هذه الفوارق، تشير الدراسات الجينية والأنثروبولوجية إلى أن التوتسي والهوتو يشتركون في أصل واحد إلى حد كبير. كلاهما يتحدث نفس اللغة (لغة كِينْيَارُوَاندَا في ورواندا أو كِيرُوندِّي في بوروندي) ويشتركان في الدين والثقافة، ما يشير إلى أنهما ليسا عرقين مختلفين تمامًا بل مجموعات اجتماعية تطورت على مر الزمن داخل نفس البيئة.
ويشترك شعبا التوتسي والهوتو في رواندا إلى حد كبير في الديانة المسيحية، إذ تُعتبر المسيحية الديانة السائدة في البلاد. على النحو التالي: التوتسي والهوتو هما في الغالب من أتباع الديانة المسيحية؛ حيث تنقسم خلفياتهم الدينية بين الكاثوليكية والبروتستانتية. وتظهر الإحصائيات الوطنية توزيع الديانات في رواندا بحيث يُعتنق حوالي 56% من السكان الكاثوليكية، و39.4% بروتستانت، و4.5% من المسلمين، وهو التوزيع الذي يشمل كلتا المجموعتين.[2]
بذلك، لا توجد فروق دينية جذرية بينهما، إذ يشترك كلاهما في الانتماء إلى التيار المسيحي مع تباين بسيط في نسب الانتماء للمسلمين.
وكانت الكنيسة مؤسسة قوية في البلدين وساهمت في تشكيل الهياكل الاجتماعية والسياسية، بما في ذلك تعزيز بعض التفرقات العرقية خلال الفترة الاستعمارية. إلى جانب الكاثوليكية، يوجد حضور كبير للكنائس البروتستانتية، التي انتشرت بسبب النشاط التبشيري البروتستانتي في القرن العشرين.
الأقلية المسلمة بين الهوتو والتوتسي، تتركز بشكل رئيسي في المناطق الحضرية. الإسلام انتشر في المنطقة عبر التجارة مع الساحل الشرقي لإفريقيا (زنجبار) في القرن التاسع عشر.
قبل انتشار المسيحية والإسلام، كان كلٌ من الهوتو والتوتسي يمارسان ديانات تقليدية إفريقية تتمحور حول عبادة الأجداد والقوى الطبيعية؛ فقد اعتُبرت هذه الممارسات جزءاً من الهوية الثقافية والاجتماعية التي رافقتهم عبر القرون. ورغم التحول الواسع نحو المسيحية في العقود اللاحقة، لا تزال بعض هذه التقاليد والمعتقدات الأصلية تُحافظ عليها في الاحتفالات والطقوس الثقافية، خاصةً في المناطق الريفية حيث يبقى التراث المحلي حاضراً في الحياة اليومية.
في كل من رواندا وبوروندي، هيمن التوتسي على الأنظمة الملكية التقليدية، حيث كان الملوك (أو الموامي) عادةً من التوتسي. اعتمد النظام الاجتماعي على العلاقات الاقتصادية بين التوتسي والهوتو، حيث عمل الهوتو كمزارعين لصالح التوتسي. العلاقة بين المجموعتين كانت أشبه بنظام طبقي أكثر من كونها صراعا عِرْقيا في البداية.
دور الاستعمار الأوروبي في تعميق الفجوة
خلال فترة الاستعمار الألماني والبلجيكي (خاصة في رواندا وبوروندي)، استغل المستعمرون هذه الفروقات الاجتماعية وعمقوا الفجوة بين التوتسي والهوتو. اعتُبر التوتسي “أقرب إلى الأوروبيين” بسبب بنيتهم الجسمانية ولون بشرتهم الفاتحة، وتم منحهم امتيازات على حساب الهوتو. أدى هذا إلى ترسيخ نظام عدم المساواة، وأصبح التوتسي يمثلون النخبة الحاكمة والبرجوازية، بينما تم تهميش الهوتو، مما خلق احتقانًا طويل الأمد.
ركز الألمان (1897-1916) على الحكم غير المباشر واستخدموا النخب المحلية (غالبًا من التوتسي) لإدارة المنطقة، مما زاد من نفوذهم وسلطتهم على حساب الهوتو.
البلجيكيون (1916-1962) أعادوا هيكلة النظام الاجتماعي-السياسي، مؤكدين على الهوية العرقية كعامل حاسم في السياسة. أيدوا فكرة أن التوتسي “عرق متفوق” بسبب طول قامتهم وبنيتهم الجسمانية، وادعوا أنهم ينحدرون من أصول “حامية” (Hamite) مرتبطة بالشرق الأوسط أو شمال إفريقيا (حسب النظريات العنصرية التي تدعي التفوق العرقي على أساس اللون والعرق) البلجيكيون عززوا سلطتهم من خلال التوتسي، وأقصوا الهوتو من المناصب الإدارية والحكم كما فعل الألمان ولكن دورهم في تعميف الفجوة بين المجموعتين أكبر، ما أدى إلى تفاقم التوترات العرقية. ومما زاد الطين بلة، أن البلجيكيين فرضوا بطاقات هوية تصنف الأفراد حسب عرقهم (هوتو، توتسي)، مما أسس هويات عرقية صارمة ومُقسِّمة.
فترة ما بعد الاستعمار
في بوروندي، حافظ التوتسي على سيطرتهم على الجيش والدولة بعد الاستقلال، مما أدى إلى تصعيد الصراع العرقي. بوروندي شهدت مذابح متبادلة بين الهوتو والتوتسي، أبرزها عامي 1972 و1993.
مع اقتراب الاستقلال في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، بدأت النخب الهوتو تطالب بالمساواة السياسية والاجتماعية. ومن خضم هذه المنارات بين المجموعتين، شهدت رواندا ثورة اجتماعية خانقة عام 1959 حين انتفضت الأغلبية التي تمثلها الهوتو ضد الأقلية المتمثلة في توتسي، التي أطاحت بالنظام الملكي الذي كان يسيطر عليه التوتسي.
لم تكن الثورة مجرد تمرد عسكري، بل كان تغييرا اجتماعيا جذريا. وفي نفس السنة، أعلن الهوتو استقلالهم الكامل، وأسسوا نظاما سياسيا جديدا تحت حكمهم. كما تم إلغاء الملكية واستبدالها بنظام جمهوري.
والجدير بالذكر أن مجموعة توتسي حكم رواندا أكثر من 4 قرون (400 سنة) من 1559 إلى سقوط النظام الملكي 1959.
وهذا مما جعلهم يشعرون بتلك العظمة في تاريخ رواندا. سقوط النظام الملكي في هذا العام يمثل أولى نكبات مجموعة توتسي، وأدى إلى أولى موجات الهجرة لهم، وفر عشرات الآلاف منهم إلى الدول المجاورة (أوغندا، بوروندي، كونغو الديمقراطية) خوفا من الاضهاد والانتقام من قبل المجموعة المنافسة المسيطرة على الحكم: هوتو. وبعد 3 سنوات من الثورة، حصلت رواندا على استقلالها في عام 1962.
كما سبق أن ذكرنا، إن ثورة 1959 الاجتماعية كانت نقطة تحول رئيسية في التاريخ الرواندي، إذ أدت إلى سقوط النظام الملكي التوتسي وصعود الهوتو إلى السلطة. العنف الذي وقع خلال هذه الثورة كان أول مجزرة بين المجموعتين، حيث قُتل العديد من التوتسي ونزح آخرون. قدّر عدد القتلى في تلك الفترة بآلاف من التوتسي. بعد الثورة، استمر العنف بين الهوتو والتوتسي على مدار العقود التالية، حيث تم إقصاء التوتسي من المناصب السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
في السبعينات والثمانينات، بدأ الهوتو في التمردات العسكرية، وظهرت بعض المجموعات المسلحة التوتسية التي بدأت في تنظيم عمليات انتقامية ضد الهوتو.
وأما في بوروندي، حافظ التوتسي على سيطرتهم على الجيش والدولة بعد الاستقلال، مما أدى إلى تصعيد الصراع العرقي. بوروندي شهدت مذابح متبادلة بين الهوتو والتوتسي، أبرزها عامي 1972 و1993.
الهجرة إلى المنفى: كيف استعاد التوتسي السلطة ؟
بعد الثورة الاجتماعية عام 1959، كما ذكرنا سابقا، التي أطاحت بالنظام الملكي التوتسي وجلبت حكم الهوتو، بدأ التوتسي في مواجهة الاضطهاد السياسي والاجتماعي. أدى ذلك إلى موجات نزوح جماعي للتوتسي إلى عدة دول مجاورة، حيث أصبحوا لاجئين سياسيين وشكلوا فيما بعد حركة مقاومة مسلحة لاستعادة حقوقهم، والتي تطورت لاحقًا إلى الجبهة الوطنية الرواندية (Rwandan Patriotic Front – RPF).
وبعد سقوط حكمهم في رواندا، تعرض التوتسي إلى تمييز وقمع من قبل الحكومات الهوتية، مما دفعهم إلى الفرار إلى دول الجوار، خاصة: أوغندا، بوروندي، تنزانيا جمهورية الكونغو الديمقراطية (زائير سابقًا) ويمكن تلخيص أبرز محطات الفرار للتوتسي إلى دول الجوار كما يلي: موجات الهجرة واللجوء الأولى (1959 – 1990)
بعد الثورة وسقوط النظام الملكي (1959-1962)
في عام 1973، قاد الرئيس الهوتي جوفينال هابياريمانا انقلابًا عزز من سيطرة الهوتو على رواندا، مما أدى إلى تصعيد القمع ضد التوتسي، الذين تعرضوا لمزيد من التهميش السياسي والاجتماعي. ومع حلول الثمانينات، استمر التمييز المنهجي ضد التوتسي، مما جعل عودتهم إلى رواندا شبه مستحيلة، خاصة مع استمرار سياسات الإقصاء التي تبنتها الحكومة الرواندية آنذاك. دفع هذا الواقع آلاف التوتسي إلى حياة اللجوء، حيث عاشوا في المنفى لأكثر من ثلاثة عقود دون اعتراف رسمي بحقهم في العودة إلى وطنهم.
في ظل هذا الوضع، برزت مقاومة منظمة من قبل التوتسي اللاجئين، حيث تم تأسيس الجبهة الوطنية الرواندية (RPF) عام 1987 في أوغندا، كحركة سياسية وعسكرية تهدف إلى إنهاء التمييز واستعادة حقوق التوتسي في رواندا. قاد الجبهة في البداية فريد روايغيما، لكنه توفي قبل تحقيق أهدافها، ليخلفه في القيادة بول كاغامي، الذي لعب دورًا محوريًا في إعادة التوتسي إلى المشهد السياسي والعسكري في رواندا.
ويمكن تلخيص أهداف الجبهة الوطنية الرواندية في النقاط التالية:
- حق عودة اللاجئين التوتسي إلى رواندا.
- إنهاء التمييز العرقي ضد التوتسي.
- الإطاحة بالنظام الهوتي بقيادة جوفينال هابياريمانا.
- إقامة نظام ديمقراطي متعدد الأعراق
هذه التغيرات، ساعدتْ في إنشاء الجبهة ونجاجها، وجود عدد كبير من التوتسي اللاجئين في أوغندا، خاصة الذين شاركوا في الجيش الأوغاندي. والدور القوي الذي لعبه “يوري موسيفيني” الرئيس الأوغاندي الحالي، كان حليفًا لهم، حيث انضم العديد من التوتسي إلى جيشه في حركة المقاومة الوطنية خلال الحرب الأهلية الأوغندية (1981-1986).
بول كاغامي، الذي كان ضابطا في المخابرات الأوغندية، أصبح قائدًا بارزًا في RPF لاحقا. كاغامي انضم إلى الجيش الأوغندي تحت قيادة يوري موسيفيني أثناء حرب التحرير الأوغندية ضد نظام “عيدي أمين”. لاحقا، حصل على تدريب عسكري في الولايات المتحدة أثناء خدمته في الجيش الأوغندي.
الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني دعم بشكل مباشر وغير مباشر الجبهة الوطنية الرواندية (RPF). أوغندا وفرت للجبهة الوطنية ملاذا آمنا خلال سنوات الصراع، وسمحت باستخدام أراضيها كقاعدة انطلاق لعملياتهم ضد حكومة الهوتو في رواندا.
اغتيال”هابريمانا”.. الشرارة التي أشعلت النار
كان اغتيال الرئيس جوفينال هابياريمانا (من الهوتو) الحدث الذي أشعل فتيل الإبادة الجماعية وأدى إلى انهيار النظام الهوتي، مما مهد الطريق أمام الجبهة الوطنية الرواندية (RPF) للاستيلاء على الحكم.
في 6 أبريل 1994، كان الرئيس الرواندي “جوفينال هابياريمانا” عائدا إلى كيغالي بعد حضور قمة إقليمية في تنزانيا لمناقشة تنفيذ اتفاقية أروشا للسلام، التي كان من المفترض أن تنهي الحرب بين حكومته والجبهة الوطنية الرواندية.
اتفاقية أروشا” كانت معاهدة سلام تم توقيعها في أروشا (مدينة في تنزانيا) في أغسطس 1993 بين حكومة رواندا بقيادة الهوتو، الجبهة الوطنية الرواندية (RPF) بقيادة التوتسي، وحركات سياسية أخرى. كانت الاتفاقية تهدف إلى إنهاء الحرب الأهلية الرواندية التي بدأت في 1990 بين الحكومة الرواندية والجبهة الوطنية الرواندية، والتي كانت تمثل مصالح التوتسي في المنفى.
أبرز أهداف اتفاقية أروشا
- إنهاء الحرب الأهلية بين الحكومة الرواندية والجبهة الوطنية الرواندية.
- تأسيس حكومة وحدة وطنية بين الهوتو والتوتسي.
- إعادة إدماج التوتسي في الحياة السياسية والاقتصادية.
- إصلاحات دستورية من شأنها أن تضمن تمثيلا عادلا لكلا العرقين في البرلمان والحكومة.
- توزيع السلطة بين الجانبين بشكل يعكس التعددية العرقية والسياسية في رواندا.
- إعادة اللاجئين التوتسي الذين فروا من البلاد بعد عام 1959.
على الرغم من نجاح التوقيع على الاتفاقية لإنهاء التوترات العرقية بين الجانبين، إلا أن المعارضة من المتطرفين الهوتو كانوا يعارضون بشدة أي تنازل للسلطة لصالح التوتسي. هذه المعارضة كانت أبرز في القوات العسكرية المتطرفة ومجموعات “الإنتراهاموي” الشهيرة والسيئة السمعة (التي لعبت دورا رئيسيا في الإبادة الجماعية في 1994).
أثناء عودة الرئيس الرواندي، وعند اقتراب طائرته من العاصمة، أُسقطت بصاروخ قرب مطار كيغالي، مما أدى إلى مقتله مع رئيس بوروندي، “سيبريان نتارياميرا” الذي كان معه على متن الطائرة. ولا تزال الجهة المسؤولة عن إسقاط الطائرة غير معروفة بشكل قاطع. إلا أن أصابع الاتهام وُجّهتْ لثلاث أطراف ضالعة في الصراع، وهي:
- الهوتو المتشددون: يعتقد بعض المحللين أن متطرفي الهوتو، الذين كانوا يعارضون “اتفاقية أروشا” هم من أسقطوا الطائرة لإجهاض عملية السلام وبدء الإبادة الجماعية ضد التوتسي التي كانوا قد استعدوا لها مسبقا.
- الجبهة الوطنية الرواندية (RPF): هناك ادعاءات بأن الجبهة بقيادة “بول كاغامي” كانت وراء إسقاط الطائرة لتسريع انهيار النظام والسيطرة على السلطة.
- فرنسا: مما يؤكد الاتهامات التي تشير لضلوع فرنسا في اغتيال “هابريمانا” أنه، خلال الحرب الأهلية الرواندية، فرنسا كانت الحليف الرئيسي لحكومة الهوتو في رواندا، حيث قدمت الدعم العسكري والمالي لها، بما في ذلك التدريب العسكري. هذا الدعم كان يهدف إلى دعم حكومة هابياريمانا. إلا أنّ فرنسا بقيت تدعم حكومة هابياريمانا حتى في وقت كان يشهد فيه تصاعد العنف ضد التوتسي، في ظل عمليات القمع والتمييز التي كانت الحكومة الرواندية تتبناها.
ويشير بعض المحللين إلى أن فرنسا كانت تدعم المتطرفين في حكومة هابياريمانا، الذين كان لديهم رغبة في إلغاء اتفاقية أروشا للسلام، والتي كانت تقضي بإشراك الجبهة الوطنية الرواندية (RPF) في الحكومة. ووفقا لهذه النظرية، فإن بعض المتطرفين الهوتو الذين كانوا في الجيش أو الحكومة ربما يكونون قد أطلقوا الصاروخ ضد طائرة هابياريمانا من أجل عرقلة اتفاق السلام وبدء الإبادة الجماعية.
هناك مزاعم تقول إن فرنسا قد تكون متورطة مباشرة في إسقاط الطائرة، بهدف إبقاء حكومة هابياريمانا في السلطة ومنع سيطرة RPF. وفقا لهذه الافتراضية، كانت فرنسا تخشى أن يؤدي نجاح الجبهة الوطنية الرواندية إلى تغيير مصالحها في المنطقة، وخاصة في ظل التنسيق المتزايد بين الجبهة والولايات المتحدة ودول أخرى في العالم الغربي.
بعض التحقيقات الصحفية والافتراضات تشير إلى أن فرنسا قد تكون قد دبرت أو دعمت العملية عبر الميليشيات الهوتو المتشددة، الذين كانوا يديرون حملات العنف والإبادة ضد التوتسي.
في عام 2010، بدأت فرنسا تحقيقًا رسميًا في حادثة إسقاط طائرة الرئيس الرواندي جوفينال هابياريمانا عام 1994، والتي أشعلت فتيل الإبادة الجماعية في رواندا. استمر هذا التحقيق لعدة سنوات، وفي عام 2018، قرر القضاة الفرنسيون إنهاء التحقيق دون توجيه اتهامات، مما أثار جدلاً واسعًا. في عام 2020، رفضت محكمة استئناف فرنسية طلبًا بإعادة فتح التحقيق في هذه القضية.
في عام 2021، صدر تقرير رسمي فرنسي أشار إلى أن فرنسا تتحمل مسؤولية كبيرة عن الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994. وبحسب التقرير، فإن فرنسا لم تكن متورطة بشكل مباشر في إسقاط الطائرة، لكنها كانت متواطئة في جرائم قتل الروانديين من خلال دعمها غير المشروط لحكومة هابياريمانا قبل الإبادة الجماعية.
لكنّ السلطات الرواندية تتهم فرنسا بالتورط بشكل غير مباشر في الإبادة الجماعية، ورفضت الاستنتاجات الفرنسية المتعلقة بالحادثة، مؤكدة على دور فرنسا في دعم المذابح ضد التوتسي.
فور مقتل هابياريمانا، اندلعت الإبادة الجماعية ضد توتسي مع حملات نشر الكراهية في الإعلام وخاصة في “إذاعة ألف تلة” التي كانت تهيج الهوتو بقتل توتسي.
تشير معظم المصادر إلى أن عدد الضحايا في الإبادة الجماعية التي استهدفت قبيلة التوتسي في رواندا قد قُدر بحوالي 800 ألف شخص خلال فترة امتدت لما يقارب 100 يوم في عام 1994. فقد بدأت المذابح في 7 أبريل 1994، واستهدفت أعمال القتل الجماعي ليس فقط التوتسي، بل شملت أيضاً ضحايا من الهوتو المعتدلين الذين رفضوا المشاركة في هذا العنف. وعلى الرغم من وجود تقديرات تتراوح بين 500 ألف إلى 1 مليون ضحية، فإن الرقم الذي تتكرر الإشارة إليه في المصادر الرسمية والموسوعية هو 800 ألف ضحية. (7) استغلت الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة كاغمي الفوضى وبدأت هجومًا عسكريا شاملا لاستعادة السيطرة على رواندا.
وفي يوليو 1994، انتصرت RPF بقيادة بول كاغامي، ودخلت كيغالي، مما أنهى الإبادة الجماعية وحكم الهوتو، وأدى إلى نزوح ملايين الهوتو إلى دول الجوار، إلا أن العديد من قوات الحكومة الرواندية وبعض الميليشيات الهوتو وخاصة مجموعات “الإنتراهاموي” التي كانت تقود الإبادة ضد التوتسي بدعم من الجيش، توجهوا إلى شرق كونغو.
وهنا تبدأ قصة الصراع الآخر الأكثر دموية في شرق كونغو الديمقراطية، بين توتسي وهوتو، صراع سيصبح لاحقا السيطرة على الموارد، ورهانات بول كاغمي الجيوسياسية في المنطقة.
الخاتمة
في ختام هذا العرض يتضح أن صراع الهوتو والتوتسي ليس مجرد نزاع عرقي بحت، بل هو نتاج مسيرة تاريخية طويلة بدأت بعلاقات اقتصادية اجتماعية متبادلة وتحولت مع الزمن إلى صراع هوية معقد تغذيه عوامل داخلية وخارجية. فقد ساهمت السياسات الاستعمارية الألمانية والبلجيكية في تعميق الفوارق بين المجموعتين، حيث أدخلت تقسيمات عرقية صارمة ومؤسسات إدارية مجحفة، مما زاد من حدة التوترات وأسهم في إرساء قواعد عدم المساواة التي لاحقاً تحولت إلى صراعات سياسية وعسكرية دامية.
ومن ثم، تبلورت التحولات في فترة ما بعد الاستعمار، إذ أدى سقوط النظام الملكي التوتسي إلى موجات من العنف والاضطهاد، ما دفع التوتسي إلى اللجوء إلى النفي وتنظيم حركة مقاومة حملت اسم الجبهة الوطنية الرواندية (RPF) لاستعادة حقوقهم وإعادة التوازن في الساحة السياسية. وكانت أزمة اغتيال الرئيس هابياريمانا الشرارة التي أدت إلى اندلاع الإبادة الجماعية المروعة في عام 1994، وهو حدث يعكس مدى تداخل العوامل التاريخية والسياسية والاجتماعية والدولية في تأجيج الصراع.
إن الأحداث التي تلت الإبادة الجماعية لم تقتصر على رواندا فحسب، بل امتدت إلى بوروندي وشرق الكونغو الديمقراطية، حيث تحول الصراع إلى نزاع على الموارد ومناطق النفوذ الجيوسياسية، مما يعكس الطبيعة متعددة الأبعاد لهذه الأزمة. ويبرز هذا التاريخ المؤلم ضرورة فهم الجذور التاريخية للصراعات، مع الأخذ بعين الاعتبار تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وكذلك الدور الذي تلعبه القوى الخارجية في تفجير الانقسامات القائمة.
بهذا نستخلص أن صراع الهوتو والتوتسي يمثل حالة معقدة تتشابك فيها العوامل التاريخية مع المتغيرات الإقليمية والدولية، ما يتطلب جهودا مشتركة لفهم ماضيها والاعتراف بدروسها بهدف بناء مستقبل أكثر عدالة وسلاما للمناطق المتأثرة بهذه التجربة الدامية، في مقدمتها شرق الكونغو، الذي سنرجع إليه لاحقا.
___________________
الهوامش والإحالات
[1] “توتسي”، ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، متاح على: https://ar.wikipedia.org/wiki/توتسي.
[2] بريطانيا رصدت 120 مليون إسترليني لترحيل اللاجئين إليها.. ماذا تعرف عن رواندا؟، موسوعة الجزيرة، آخر تحديث في 14 يونيو 2022، م الوصول إليه في 7 فبراير 2025، متاح على: https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2014/10/27/رواندا