جدول المحتويات
تمهيد
تمرّ العلاقات المالية الفرنسية بمرحلة عصيبة وتصعيد لم تشهده منذ يناير1961م؛ حينما طرد الرئيس الأول موديبو كيتا القوات الفرنسية من جمهورية مالي. هذا التوتر، جاء نتيجة لاجتماع عوامل مختلفة، أبرزها العوامل الأمنية والعسكرية. إذْ أنّ القوات الفرنسية موجودة في مالي منذ 2013م ضمن عمليات عسكرية مختلفة في إطار مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي بدءا من عملية سرفال (SERVALE) التي استمرت من عام 2013م والى 2015م، وصولا بعملية برخان (BARKHANE)، ثم عملية تاكوبا.
ورغم الترحيب الشعبي الذي حظي به الحضور الفرنسي في بداية الأزمة في مالي، إلا أنه مع مرور الزمن تغير رأي الشارع المالي حوله، وبدأ ينظر إليه كأنه احتلال جديد، متهما فرنسا بعدم حسن نيتها في محاربة الإرهاب في البلاد، على الرغم من امتلاكها إمكانيات عسكرية كبيرة.
فضلاٍ عن منع القوات الفرنسية للجيش المالي من الدخول في إقليم كيدال الذي كانت تسيطر عليه حركات مطالبة بالانفصال عن الدولة المركزية. تعتبر هذه نقطة تحول كبيرة في العلاقات المالية الفرنسية؛ حيث أُثِيرتْ الشكوك حول السبب الرئيس للوجود الفرنسي في مالي، هل هو لمكافحة الإرهاب، أم خدمة لمصالحها الإمبريالية؟
كما مثلت تغريدة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، التي هنّأ بها الرئيس المالي السابق إبراهيم أبوبكر كيتا في انتخابات 2018م قبل إعلان النتائج من قبل المحكمة الدستورية، تحولا آخر في وجهات نظر النخب السياسية المالية تجاه فرنسا. ومنذ ثلاث سنوات مضت، ظهرت أصوات مرتفعة من قبل حركات شبابية بانافريكانية مالية يقودها تحالف يربولو (YEREWOLO)، الذي يحظى بدعم اقليمي ودولي من قبل التيارات البانافريكانية والمناهضة للإمبريالية، تطالب بطرد القوات الفرنسية من مالي.
وبناء عليه، يسعى هذا المقال إلى إلقاء الضوء على التوتر الدائر في العلاقات المالية الفرنسية، والتعرف على التطورات التي مرت بها هذه العلاقات بعد المرحلة الانتقالية وموقف فرنسا من الانقلاب الأول في أغسطس 2020م، والانقلاب الثاني في مايو2021م. ثم سيتطرق إلى ملابسات قرار طرد السفير الفرنسي، وتوقيته، وتداعياته، والأوراق المتوفرة لدى الجانبين.
كما سيتناول المقال تداعيات قرار الانسحاب الفرنسي من مالي، وتأثيره على الأمن في منطقة الساحل، والخيارات الموجودة لدى الحكومة المالية، مع استشراف مستقبل العلاقات الفرنسية المالية. وأبرز سؤال يلوح في الآفاق السياسية والعلاقات الدولية في هذا الشأن، هو: هل وصلت العلاقات المالية الفرنسية إلى مرحلة القطيعة أو الانفصال التام؟
للإجابة على هذا السؤال، وتحقيق أهداف الدراسة، ستناقش الورقة خمسة نقاط رئيسة بعد المدخل التاريخي، وهي:1) تطور العلاقات المالية الفرنسية بعد المرحلة الانقلاب العسكري، 2) ومعرفة أوراق اللعبة التي تمتلكها مالي وفرنسا، 3) وتداعيات الانسحاب الفرنسي على مالي ومنطقة الساحل الإفريقي، 4) مالي وأفغانسان، يلتقيان في نقاط ويختلفان في أُخَر، 5) والعلاقات المالية الفرنسية الى أين تتجه، وأخيرا الخاتمة.
أولا: تطور العلاقات المالية الفرنسية بعد الانقلاب العسكري
بدأت العلاقات المالية الفرنسية بعد الانقلاب الأول بالحذر والتريث بين الجانبين، ثم تطورت ووصلت إلى مستوى حرج، وبعد الانقلاب الثاني بدأت تتدهور تدريجيا، خاصة بعد هجوم فرنسي وردّ مالي إلى أن ظهر التوتر علنا بعد إلغاء زيارة الرئيس ماكرون ثم الانفصال المتمثل في طرد السفير الفرنسي في مالي.
- موقف فرنسا من الانقلاب العسكري في مالي
بعد الانقلاب العسكري في مالي، لم تلعب فرنسا أي دور ضد الانقلاب؛ بل اكتفت بإدانته من حيث المبدأ فقط، ما نظر إليه الخبراء كخيانة لحليفها السابق (الرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا)، وأخذت وقتا لمعرفة سلطات المرحلة الانتقالية في مالي قبل اتخاذ موقف محدد. وبعد تعيين الرئيس باه نداو، ورئيس وزرائه مختار وان، استمرت العلاقة الممتازة بين الحكومة المالية والفرنسية، حتى أنّ الرئيس الفرنسي قد مدح نظيره المالي في تصريح ذكر فيه بأنه قد استطاع أن يحقق في ٣ أشهر ما لم يحققه سلفه في ٧ سنوات[1].
وكانت الاهتمامات الفرنسية منصبة بشكل أساسي على إسراع تنفيذ اتفاقية السلام المشهورة (باتفاقية الجزائر)، كما لجأت السلطات المالية آنذاك بقمع مظاهرات مطالبة برحيل القوات الفرنسية، واستمرت العلاقات على هذا النحو إلى حين حدوث الانقلاب العسكري الثاني.
- بداية التوتر بين فرنسا ومالي
بعد الانقلاب الثاني، كانت من أهم التهم التي وجهها الانقلابيون ضد الرئيس المالي ورئيس الحكومة السابق، هي العمالة لفرنسا، واستندوا في ذلك إلى الزيارة الأخيرة التي قام به الرئيس باه نداو قُبَيْل انقلاب مايو بأسبوعين، معتقدين بأن الهدف منها هو إبعاد العسكر القريبين من روسيا، ويقصد تحديدا وزير الدفاع العقيد ساجو كمارا ووزير الأمن الداخلي آنذاك العقيد موديبو كوني (رئيس جهاز الاستخبارات الحالي).
- الهجوم الفرنسي والردّ الماليّ
بدأت العلاقات المالية الفرنسية تسوء بشكل ملحوظ بعد الانقلاب الثاني، وظهرت بشكل علني في إدانة الرئيس الفرنسي للانقلاب الثاني ورفضه رفضا قاطعا، ومهاجمته للعسكر في مالي مع دعوة المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس) إلى فرض عقوبات على مالي. ثم إعلانه في شهر يونيو الماضي عن الانسحاب عن بعض المناطق في مالي ضمن استراتيجية جديدة[2].
كما هاجم الرئيس الفرنسي السلطات المالية في قمة أفريك فرنس التي انعقدت في أغسطس ٢٠٢١م؛ حيث شارك فيها بعض الشباب المعارضين لسياسات الحكومة الانتقالية في مالي، علاوة على قيام وسائل الإعلام وبعض الشخصيات الفرنسية بهجوم شرش على سلطات المرحلة الانتقالية في مالي ووصفها بغير الشرعية.
وفي السياق نفسه، جاءت ردود فعل السلطات المالية تجاه الهجوم الفرنسي بشكل حازم وصريح؛ حيث دعمت التجمعات الشبابية التي تعارض الوجود الفرنسي، وسيّرت الأخيرة احتجاجات ومسيرات شعبية واسعة النطاق في ميدان الاستقلال، مطالبة بمغادرة القوات الفرنسية.
وفي أوكتوبر الماضي، استدعت الحكومة المالية السفير الفرنسي، وقدمت له مذكرة احتجاج جراء تصريحات السلطات الفرنسية تجاه مالي[3]. كما طردت الحكومة المالية قوات الدانمارك من البلاد في يناير2022م، والذي اعْتُبِر ضربة قوية ضد فرنسا [4].ولم تكاف السلطات المالية بذلك فحسب؛ بل طردت صحفي فرنسي تابع لمجلة (Jeune Afrique)، وذلك بعد مجيئه في أقل من ٢٤ ساعة بسبب دخوله البلاد بطريقة غير شرعية. [5]
- نحو الطلاق الوشيك
في ديسمبر 2021م، أخذت العلاقات المالية الفرنسية منعطفا آخر، خاصة بعد إلغاء زيارة الرئيس الفرنسي المقررة نهاية شهر ديسمبر. ورجًح الخبراء سبب إلغاء الزيارة إلى عدم توصل الجانبين إلى توافق في بعض التفاصيل حول مكان الاستقبال ومحاور الزيارة.
وعندما فرضت منظمة غرب إفريقيا (الإيكواس) عقوباتها على مالي في 8 يناير2022م، أيّدت فرنسا هذه العقوبات وحاولت تدعيم القرارات بالحصول على دعم دولي من خلال مجلس الأمن؛ ولكنها أخفقت في ذلك بسبب حق الفيتو الصيني الروسي[6] الذي استخدم وقتها، واستمرت الحملة الإعلامية الفرنسية ضد السلطات المالية مما نتج عنه طرد السفير الفرنسي من مالي.
في31 يناير 2021م، أعلنت الحكومة المالية طرد السفير الفرنسي من مالي، وإعطاءه مهلة 72 ساعة فقط لمغادرة البلاد [7] احتجاجا على تصريحات السلطات الفرنسية تجاه السلطات الانتقالية في مالي.
وقد اتخذت السلطات المالية توقيتاً حسّاساً جدا؛ إذْ أن مالي ليس لديها سفير في فرنسا منذ سنتين مما ضمن لهم عدم امكانية استخدام فرنسا لمبدأ المعاملة بالمثل، وهذا ما أحرج الحكومة الفرنسية أمام المعارضة داخليا وخيب ظن مناصروها في مالي وبعض الدول الإفريقية. من المعلوم أن الانتخابات الفرنسية ستعقد بعد شهرين، ويواجه الرئيس الفرنسي رفض داخلي وهناك شكاوى من كثرة الإنفاق العسكري الخارجي؛ حيث أنّ فرنسا تنفق سنويا ملياروأربعمئة مليون يورو، و880 مليون منها يصرف في عملية برخان [8]. فقرار الطرد يخدم خصوم الرئيس الفرنسي وخاصة مرشحي اليمين المتطرف.
ثانيا: أوراق اللعبة التي يمتلكها الطرفان
كل من جمهورية مالي وفرنسا يمتلك أوراق ضغط وأدوات دفاع مختلفة، قد تكون على شكل مشادات كلامية، أو تصريحات دبلوماسية وسياسية، وقد ترتقي لتصل إلى درجة اتخاذ قرارات مصيرية وأفعال حقيقية. السؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما أوراق اللعبة في جعبة كل من مالي وفرنسا؟
- الأوراق التي تمتلكها مالي
الحكومة المالية استخدمت عداء فرنسا كورقة مهمة لرفع شعبيتها في الداخل، ومواجهة المعارضة السياسية وأزمة الغلاء وارتفاع الأسعار، ومكّن الحكومة المالية من عقد شراكات اقتصادية جديدة مع بعض المنافسين لفرنسا في بعض المجالات التي تحتكرها الشركات الفرنسية في البلاد، وسحب المناقصات الحكومية من هذه الشركات مما كبدها خسائر اقتصادية ضخمة. إذْ قُدّرت الصادرات الفرنسية إلى مالي بنحو 360 مليون يورو[9]. كما تمكنت الحكومة المالية من تعزيز تعاونها العسكري مع دول أخرى، وفي حال أرادت الحكومة المالية التصعيد إلى أقصى درجة فإنها ستقوم بغلق المراكز الثقافية الفرنسية ومكاتب القنوات الإعلامية الفرنسية.
- الأوراقالتي تمتلكها فرنسا
رغم قرار طرد السفير الفرنسي من مالي وقع كالصاعقة على النخبة السياسية الفرنسية، وخاصة اليمين المتطرف، وعلى إثره استنكر القرار، وطالب برد يليق بفرنسا؛ إلا أن السلطات الفرنسية تملك أوراقا كثيرة للضغط على مالي تتمثل في: قدرتها على افتعال أزمة شرعية للسلطات المالية، وعدم الاعتراف به بعد انتهاء مدة الـ ١٨ أشهر على مستوى الاتحاد الأوروبي، وخاصة أنها ترأس الاتحاد في الدورة الحالية. وقد يترتب على ذلك تجميد الأصول المالية في أوروبا، وعدم التعامل معها بتاتا كما حدث مع فينزويلا قبل سنتين.
وتستطيع فرنسا أيضا الضغط على منظمة الإيكواس لإتخاذ نهج أكثر صرامة مما يجعل المفاوضات صعبة على الحكومة المالية، وكذلك ستراهن فرنسا على حلفائها في الداخل وتوحيد صفوفهم لدعم مرشح قوي في الانتخابات القادمة. ولا يمكن استبعاد خيار الانقلاب العسكري؛ حيث أنها أكثر الخيارات نفعا للجانب الفرنسي، ولأنه سيمكنها من استعادة نفوذها في وقت سريع جدا. وتستطيع فرنسا استخدام الاقتصاد كورقة ضغط عن طريق مساعداتها الاقتصادية، وخاصة بأنها ثاني أكبر مانح ثنائي لمالي بعد الولايات المتحدة الأميركية، وأنّ مالي تعتبر من ضمن أهم 19 دولة في سياسات التنمية الفرنسية [10].
وفي خطوة مفاجئة أعلن الرئيس الفرنسي في ١٧ فبراير ٢٠٢٢م عن سحب قواته من مالي بسبب عدم التزام السلطات المالية بمدة المرحلة الانتقالية، وتعاونها مع الروس [11]. وفي هذا الإطار قد يتساءل البعض، هل سيتكرر سيناريو أفغانستان في مالي؟
ثالثا: مالي وأفغانستان، يلتقيان في نقاط ويختلفان في أُخَر
قد ذهب بعض المراقبين إلى احتمالية تكرار سيناريو أفغانستان، الانسحاب الأمريكي، بعد الانسحاب الفرنسي من مالي، وذلك لوجود تشابه كبير بين جمهورية مالي وأفغانستان التي تتقاطع في نقاط مشتركة عديدة، مثل: هشاشة الدولة، قلة الإنتاج المحلي، انتشار ملامح الفقر، وانتشار الأسلحة في ربوع البلاد، فضلا عن كونهما تقعان في منطقة جيوسياسية مهمة بالنسبة للقوى الدولية.
علاوة على ذلك، وجود الفكر الإسلامي الراديكالي أوساط الجماعات الإسلامية المسلحة في مالي وأفغانستان. قد يجمعهم الغرب في سلة واحدة من حيث الإيدلوجية التي تتبناها الجماعات الإرهابية في شمال مالي وطالبان في أفغانستان المتمثلة في إعادة إحياء الخلافة الإسلامية، وإسقاط الدولة العلمانية والسيطرة على مفاصل الدولة لإقامة شرع الله بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية.
لكن المجموعتان مختلفتان من حيث الهدف النهائي، إذْ تسعى حركة طالبان إلى تطهير أفغانستان فقط من دنس الاحتلال الأجنبي، وتدور في فلك حدودها المرسومة، فكل صراعاتها كانت ضد جهات أجنبية (الاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة الأميركية). أما الجماعات الإسلامية المسلحة في شمال مالي والساحل الإفريقي، فإنها تطمح إلى نقل أفكارها المتشددة، وأيديولوجيتها المستقاة من منابع مختلفة (محلية ودولية) لأبعد من حدود دولها إلى منطقة الساحل برمتها؛ بل ربما إلى العالم بأسره، ويظهر ذلك من خلال تصريحات قادتها ومبايعاتهم لتنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق.
من حيث أساليب التمويل، قد تتقاطع الأدوات التمويلية وسبلها بين الجماعتين، مثل تدفقات التمويل الخارجي لأنشطتهم من قبل أفراد أو مؤسسات؛ بل وقد تكون دولا، إلا أنها غير واضحة ومعروفة للجميع، فضلا عن الانخراط في عمليات التهريب والاتجار بالبشر (اختطاف الرهائن) وفي المخدرات حسب تقارير مؤسسات ومراكز رصد دولية.وتختلف حركة طالبان عن الجماعات المسلحة في شمال مالي من حيث التركيز على الهدف والثبات على المبادئ والقيم.
على الرغم من وجود أوجه تشابه بين المجموعتين في بعض الجوانب؛ إلا أن هناك اختلاف كبير بين الجماعات الجهادية في شمال مالي وحركة طالبان في أفغانستان. فمن حيث طبيعة القيادة، تمتع قادة طالبان بخبرة عالية في العمل المؤسسي بفعل خبرتهم السابقة في إدارة الدولة، بخلاف قادة جماعة النصرة وتنظيم الدولة الذين لم يسبق لهم شغل مناصب قيادية عليا في الدولة، كما أن وجود حركة طالبان يزيد عن ٣٠ سنة بخلاف الجماعات الموجودة في شمال مالي والساحل الإفريقي التي لم يتجاوز وجودها عقدا من الزمن.
علاوة على ذلك، نجد البعد القبلي أو الشعبوي في حالة حركة طالبان الأفغانية مختلف عن حالة جمهورية مالي؛ حيث تحظى طالبان بقبول شعبي كبير في ربوع أفغانستان باختلاف المكونات القبلية؛ إذْ يراها كثير من الشعب الأفغاني -بمختلف مكوناته القبلية- أنها تقاتل من أجل سيادة أفغانستان وكرامة وطنهم وتطهيره من المحتل الأجنبي. أما الحركات الإسلامية المسلحة في جمهورية مالي لا تحظى بقبول شعبي على الاطلاق.
ومع ذلك، انتصار طالبان أو صعودها الأخير، أعطى الحركات الإسلامية المسلحة في شمال مالي خاصة دعما نفسيا كبيرا، وأحيا فيهم روح الأمل بالنصر وقد يعزز فيهم الروح القتالية بشكل أو بآخر، وبياناتهم وتصريحاتهم الأخيرة توحي بذلك؛ إذْ ركزوا على مقولة: إنّ النصر آتٍ وقريبٍ!
وبناء عليه، يمكننا أن نخلص إلى أنّ السيناريو الأفغاني لن تتكرر في جمهورية مالي؛ ولكن الحركات الإسلامية المسلحة (الإرهابية) ستسعى إلى ملء الفراغ الذي ترتكه القوات الفرنسية، مما يوجب على الحكومة المالية تكثيف جهودها في تلكم المناطق التي ينتشر فيها الخطر الإرهابي، وهذا يتطلب من الجيش المالي زيادة المعدات العسكرية من وطائرات حربية سريعة، وقد يضطر إلى التعاون مع الحركات المسلحة الأخرى لإزاحة خطر الإرهاب وجماعات العنف المتطرفة، ولكن هذا أيضا قد ينتج عنه في النهاية استفحال خطر هذه الجماعات المسلحة لاحقا.
رابعا: تداعيات الانسحاب الفرنسي على مالي وأمن الساحل الإفريقي
لجأت الحكومة الفرنسية إلى استخدام أحد أهم أوراقها في أزمتها ضد مالي، وهي: سحب قواتها من مالي بعد ٩ أعوام من الوجود. وقد وصف كثير من المراقبين القرار بالمفاجئ؛ حيث أنّ وزير الخارجية الفرنسي قد كان استبعد هذا الخيار في تصريح صحفي قبل أسبوعين من الإعلان عن القرار، ذاكرا بأنهم لن يتركوا حربهم ضد الإرهاب بسبب “لامسؤولية” السطات المالية. [12]
واختلف الخبراء حول الدوافع الحقيقية لهذا الانسحاب؛ حيث رجح البعض إلى عدم توصل الحكومة الفرنسية مع المالية لصيغة متفق عليها لمراجعة اتفاقية الدفاع الموقعة عام ٢٠١٤م. كما لا يستبعد أن تكون التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء المالي تأثير في القرار، حيث أنه ذكر بأن فرنسا تسعى إلى تقسيم مالي، وأن إطلاق اسم “تاكوبا” للعملية الأوروبية المشتركة في مالي ترمز إلى تقسيم مالي كون تاكوبا ترمز إلى السيف في اللغة الطوارق [13]، بينما يرجح معظم الخبراء بأنه عبارة عن احتجاج للوجود الروسي. إذاً، فما تداعيات الانسحاب الفرنسي المفاجئ أو المخطط له على مالي وأمن الساحل؟
حسب تصريحات الرئيس الفرنسي، فإن جنوده لن يخرجوا من منطقة الساحل الإفريقي، وسيتم إعادة تموضع القوات الفرنسية والأوروبية في دول المنطقة، وبشكل أساسي في النيجر[14] . وهذا يؤكد لنا أن القوات الفرنسية ستنشط بشكل أكثر في منطقة غرب إفريقيا في الحدود الغانية، والبوركينابية، والبنينية كدعم لدول مبادرة أكرا (Iniative d’Accra )، وهي مبادرة تضم كل من غانا وساحل العاج وبنين وتوغو وبوركينا فاسو.
وقد تأسست المبادرة في عام 2017م بهدف منع انتشار الإرهاب في منطقة الساحل، والتصدي للجريمة المنظمة العابرة للحدود، والتطرف العنيف في المناطق الحدودية للدول الأعضاء. وكانت تنفذ دول المبادرة عملية كودالغو العسكرية منذ 2018م في المناطق الحدودية بين الدول الأطراف. [15]
وهنا يمكننا القول، بأن الانسحاب الفرنسي سيؤثر على التنسيق الأمني بين دول الساحل الخمس؛ حيث أن جميعهم يعاني مع حليف واحد، وهي فرنسا. بينما الحالة ستتغير بسبب وجود الروس، فقد يصعب التنسيق الأمني بين الجهتين: النيجر بدعم فرنسي من جهة، ومالي بدعم روسي من جهة أخرى. كما سيؤثر هذ الانسحاب على القوات المالية والأممية التي تعتمد على قوة برخان في الدعم اللوجستي في كثير من الأقاليم.
على الرغم من أن العملية ستؤثر على العلاقات المالية النيجرية بسبب وجهة نظر مالي التي ترى النيجر قد تحولت إلى الجار الخائن؛ إلا أن الانسحاب لن يؤثر على تماسك دول الساحل، وهذا ما أكده الرئيس التشادي في مقابلة صحفية حينما سئل عن إمكانية انسحاب القوات التشادية من مالي، فاستبعد ذلك مؤكدا بأنهم سيرسلون قوات إضافية إلى مالي. [16] وكانت السلطات المالية قد أقرت في ديسمبر الماضي بإضافة 1000 جندي تشادي إلى القوات التشادية الموجودة في مالي منذ سنوات.[17]
خامسا: العلاقات المالية الفرنسية الى أين؟
مستوى العلاقة المالية الفرنسية عميق جدا على المستويين الرسمي والشعبي، وحجم التبادل التجاري بين البلدين يعادل 370 مليون يورو.[18] وتعتبر فرنسا من خلال شركاتها الخاصة أول وأهم لاعب في القطاع الخاص، وأكبر مساهم أجنبي في إيرادات الدولة بنسبة 20%. وتنشط حوالي 16 شركات فرنسية كبرى في مالي، تهيمن على قطاعات مختلفة، أبرزها: شركة أورانج للاتصالات، وشركة توتال للوقود، والخطوط الجوية الفرنسية، وشركة بولوري للوجستيات، وباريباس للخدمات البنكية. [19]
كما أن الوكالة الفرنسية للتنمية تنشط في مالي في أربعين مشروع بقيمة 600 مليون يورو، [20] وتعتبر الجالية المالية أكبر جالية أجنبية في فرنسا بعد الجالية الجزائرية. لذا يحرص الطرفان إلى عدم الوصول إلى نقطة اللاعودة في علاقاتهما، وهذا ما أكده رئيس الوزراء المالي في مقابلته مع دبلوماسيين، وقال بأن الهدف ليس قطع العلاقة مع فرنسا تماما.
العلاقات المالية الفرنسية مازالت مستمرة في مختلف الجوانب حتى العسكرية منها؛ حيث أن مهمة تدريب الجيش المالي كانت بأيدي فرنسا، وأن الأخيرة لم تنهي مشاركتها في البرامج التدريبية المشتركة للجيش بعد (برنامج EUTM وبرنامج EUCAP). وتكمن نقطة الخلاف الأساسية في أن السلطات المالية تسعى إلى إعادة بناء العلاقات مع فرنسا؛ لكن بأسس جديدة قائمة على عدم التدخل في شأنها الداخلي، واحترام سيادتها، بينما الجانب الفرنسي يرى بضرورة الرجوع إلى المسار الديموقراطي، وعدم السماح للروس بالبقاء في الأراضي المالية، وأن تعود مالي إلى أحضان فرنسا كما كانت.
في ظل التباين الموجود في الآراء والتزام الجميع بعدم عبور نقطة اللاعودة مع التمسك بموقفيهما، يرجح الباحث استمرار التوتر بين الجانبين بصورة أخف مع بدء الانفراج الذي يتمثل في رفع عقوبات منظمة غرب افريقيا عن مالي، وتشكيل حكومة جديدة في فرنسا بعد الانتخابات. لأن خسارة مالي خطأ استراتيجي لن يقبل صانع القرار الفرنسي بها، بينما مالي لن تفرط في شريك اقتصادي كبير كفرنسا، وخاصة أنّ شركاتها الخاصة تسيطر على بعض المجالات الحيوية في البلاد. وبناء عليه، يُتوقع عودة العلاقات المالية الفرنسية تدريجيا من خلال اجتماعات رسمية، ومحادثات جدية بعد تهدئة الصراع الإعلامي، ثم عودة السفراء.
الخيارات المتاحة للحكومة المالية
تكمن الإستراتيجية الجديدة للحكومة في تعزيز التعاون الثنائي مع حلفائها وخاصة الدول الأوروبية مما يساعدها على ضمان استمرارية دعم هذه الدول في عملية مكافحة الإرهاب، ويتجسد هذا الدعم في تقديم معدات عسكرية، وبرامج تدريبية للجيش المالي، ومساعدة اقتصادية ومشاريع تنموية.
وللحكومة المالية خيارات عديدة أخرى، تتمثل في تنويع شركائها الأمنيين، وعدم اختصارها على الروس فقط، مما يقوي موقفها على المستوى الدولي. ويمكن للحكومة المالية التعاون مع القوى الصاعدة التي تريد أن تلعب دورا أكبر في المسرح الدولي، كدولة باكستان التي تتمتع بخبرة كبيرة في الحرب ضد الإرهاب، وتمتلك ترسانة نووية، ويمكن تعزيز التعاون معها في مجال تدريب القوات الخاصة المالية، وتقديم أسلحة وطائرات حربية، والأهم هو تدريب جهاز المخابرات المدني والعسكري لضلوع دولة باكستان في ذلك. كما يمكن لمالي أن تتعاون مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ حيث أنها كانت مشاركا أساسيا في الحرب ضد داعش في الشرق الأوسط، إلا أن باكستان وإيران قد يصعب دخولهما حلبة الصراع في منطقة الساحل.
وتعتبر الجمهورية التركية إحدى البدائل الموجودة، وخاصة أنها تبدي اهتماما كبيرا لجمهورية مالي في الآونة الأخيرة، ويمكن تعزيز العلاقة معها، واستيراد طائراتها المسيرة، وأسلحتها التكنولوجية الحديثة. وفي هذا الصدد، قد تكون فدرالية البرازيل أحد الخيارات المتاحة لدى مالي، حيث أن طائراتها العسكرية وخاصة (super tacano) أثبتب جدارتها في حروب العصابات. وقد سبق وأن اشترت جمهورية مالي طائرات عسكرية برازيلية في عام 2015م أثناء حكم الرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا. [21]
وتعتبر دول الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة ودولة قطر الحلفاء الاقتصاديون الأقوياء الذين لديهم نقاط مشتركة كثيرة مع مالي إضافة إلى الصين. لأن أهم المشاكل التي تواجه الجيش المالي، هي قلة العتاد والدعم المالي والاستخباراتي واللوجستي، فإذا ما استطاعت الحكومة المالية إيجاد شركاء جدد لسد هذه الثغرات، فإن ميزان القوى في ميدان المعركة سيتحول لصالحها.
وأخيرا، الخاتمة
لقد تطرقت هذه المقالة إلى تطور العلاقات المالية الفرنسية، موضحة أهم الملفات الخلافية بين الطرفين، وأوراق اللعبة المهمة الموجودة بحوزة كل طرف لترجيح كفة الصراع إلى صالحه. كما شرحت المقالة الخطوط الحمراء التي يركز الطرفان على عدم تجاوزها.
ثم عرجت المقالة إلى ذكر شيء عن الوجود الاقتصادي الفرنسي في مالي، وأهمية فرنسا لجمهورية مالي في هذا الخصوص. وقد شُخِّصَت المشكلة الأساسية المتمثلة في نظرة فرنسا إلى مالي كدولة تابعة لها، بينما السلطات المالية تطلب من فرنسا التعامل معها كدولة مستقلة ذات سيادة.
وفي نهاية المطاف، توصلت الورقة إلى أنّ العلاقات المالية الفرنسية لم تصل إلى درجة القطيعة، لأسباب اقتصادية واجتماعية، وأن العلاقات ستتحسن تدريجيا بعد أن يتغلب الطرفان على التحدي الرئيس لعلاقاتهما، وهو: تمديد الفترة الانتقالية بالنسبة للحكومة الانتقالية المالية، والفوز في الانتخابات الرئاسية بالنسبة للحكومة الفرنسية الحالية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والإحالات
[1] Emanuel Macron , February 27,2021 , manden kunkan page , (video file ) retrieved from : https://fb.watch/biQXXbj20q/
[2] Emmanuel Macron ,June 10 ,2021 , Sahel : E. Macron annonce la fin de “Barkhane”, tv5 monde info , video file , retrieved from : https://www.youtube.com/watch?v=KnJxC19Dty0
[3] Le Mali convoque l’ambassadeur de France après des propos critiques d’Emmanuel Macron, october 06 ,2021 ,France 24 , retrieved from : https://www.france24.com/fr/afrique/20211005-le-mali-convoque-l-ambassadeur-de-france-apr%C3%A8s-des-propos-critiques-d-emmanuel-macron
[4] Le Mali redemande aux militaires danois de quitter son territoire,january 27 , 2022, voa,retrieved from : https://www.voaafrique.com/a/le-mali-redemande-aux-militaires-danois-de-quitter-son-territoire/6414764.html
[5] Le Mali expulse le journaliste français Benjamin Roger et suspend le processus d’accréditation des médias, February 16, 2022,committee to protect journalists, retrieved from : https://cpj.org/fr/2022/02/le-mali-expulse-le-journaliste-francais-benjamin-roger-et-suspend-le-processus-daccreditation-des-medias/#:~:text=Le%20Lundi%207%20f%C3%A9vrier%2C%20des,Roger%2C%20qui%20s’est%20entretenu
[6] Russia, China block UN support for ECOWAS sanctions on Mali, January 12, 2022,al jazzera , retrieved from : https://www.aljazeera.com/news/2022/1/12/russia-and-china-block-un-support-for-ecowas-sanctions-on-mali
[7] Mali : expulsion de l’ambassadeur de France à Bamako,january 31,2022 , tv5 monde video file , retrieved from : https://information.tv5monde.com/video/mali-expulsion-de-l-ambassadeur-de-france-bamako
[8] Cathy Dogon, 17 february ,2022 , Barkhane : le coût de l’opération militaire (et civile) au Mali en 4 chiffres,pour leco website, retrieved from : https://www.pourleco.com/politique-economique/barkhane-cout-de-loperation-militaire-et-civile-au-mali
[9] Mali,june 27, 2021, relations commerciales bilatérales, direction general du tresor de ministère de leconomie ,des finances et de la relation, RETRIEVED FROM : https://www.tresor.economie.gouv.fr/Pays/ML/mali-relations-commerciales-bilaterales
[10] Relation bilatérales, ministère de l’Europe et des affaires étrangères, retrieved from : https://www.diplomatie.gouv.fr/fr/dossiers-pays/mali/relations-bilaterales/
[11] Mali : Emmanuel Macron annonce la fin de l’opération Barkhane, february 17,2022 , le monde ,video file retrieved from : https://www.youtube.com/watch?v=s1HGZxNsR2I
[12] La France souhaite “poursuivre le combat contre le terrorisme” au Sahel, même sans le Mali,february 01 ,2022 , France 24 ,retrieved from :https://www.france24.com/fr/afrique/20220201-tensions-avec-le-mali-la-france-et-ses-partenaires-se-donnent-15-jours-pour-s-adapter
[13] Les verites de choguel a la France , February 8, 2022, Mali-Online TV video file , retrieved from : https://www.youtube.com/watch?v=rF6RVwkEtsw&t=153s
[14] REPLAY – Retrait des forces Barkhane et Takuba du Mali : conférence de presse à l’Elysée, february 17,2022, France 24 , video file , retrieved from : https://www.youtube.com/watch?v=7UqSl8MtzLQ
[15] ACCRA INITIATIVE ,mapping African regional cooperation, European council on foreign relation website , retrieved from : https://ecfr.eu/special/african-cooperation/accra-initiative/.
[16] Retrait français: le Tchad va renforcer au Mali son contingent dans la Minusma,february 22,2022 , tv5 monde , retrieved from :https://information.tv5monde.com/afrique/retrait-francais-le-tchad-va-renforcer-au-mali-son-contingent-dans-la-minusma-445819
[17]Kossivi Tiassou, Barkhane sur le départ,february 23, 2022, le Tchad renforce ses troupes au Mali, DW website , retrieved from : https://www.dw.com/fr/barkhane-sur-le-d%C3%A9part-le-tchad-renforce-ses-troupes-au-mali/a-60891013#:~:text=L’annonce%20du%20renforcement%20des,Minusma%2C%20le%2018%20d%C3%A9cembre%20dernier.
[18] Mali,june 27, 2021, ibid .
[19] Relations bilatérales, July 8,2021 ,ministere de l’Europe et des affaires étrangers, retrieved from : https://www.diplomatie.gouv.fr/fr/dossiers-pays/mali/relations-bilaterales/
[20] Relations bilatérales, ibid.