تبرز هذه الدراسة دور القوافل التجارية في نشر الإسلام بمالي، وتبين المسالك التجارية وتأثيرها في نشر الإسلام من القرن السابع إلى العاشر، وتسلط الضوء على دور مدينة تُنبُكْتُو في نشر الثقافة الإسلامية في المنطقة.
ملخص الدراسة
تكمن أهمية هذه الدراسة كونها تتعلق بالقوافل التجارية ودورها في نشر الإسلام في جمهورية مالي. وذلك بالإجابة على الأسئلة التالية؛ ماهي المسالك التجارية التي ربطت بين جنوب الصحراء بشمالها وخاصة مالي؟ ما دور تلك المسالك في نشر الإسلام في مالي وقتئذ؟ خلصت الدراسة إلى أنّ الإسلام بدأ زحفه من العمق الإفريقي وانتهى بقيام الدول الإسلامية في ممكلة مالي (من القرن السابع حتى العاشر). وامتدّ أثر الإسلام إلى معظم دول غرب ووسط إفريقيا لما يعرف الآن بنيجيريا، النيجر، الكاميرون، إفريقيا الوسطى، تشاد وما حولها، إلى جانب المناطق القديمة في غانا، مالي، السنغال وما حولها. وقد ازدهرت مدينة تُنبُكْتُو في مجال التعليم ونشر الثقافة الإسلامية، وكانت دار علم انتشر ذكرها حتى سواحل البحر الأبيض المتوسط. وصارت هذه المدينة التي اختطت منذ عام1077م، مركزا للدعوة الإسلامية تَشِعّ منها إلى كل الجهات، ومنذ القرن الثاني عشر كان الإسلام قد انتشر في بلاد النيجر والسنغال الأعلى ووصل إلى بحيرة تشاد في القرن الثالث عشر.
جدول المحتويات
المقدمة
لعبت الطرق والقوافل التجارية العابرة للصحراء الكبري أدوارا كبيرة وهامة في تاريخ المنطقتين الواقعتين على طرفيها الشمالي والجنوبي، فقد تم عبرها التبادل التجاري منذ أقدم العصور، ومع نشاط الحركة التجارية اتصلت إفريقيا جنوبي الصحراء بحضارات العالم القديم المطلة على حوض البحر المتوسط.
تعتبر المسالك البرية أهم وسيلة لارتباط الجزائر بعلاقات تجارية بإفريقيا جنوب الصحراء، فهناك عدة مسالك تربط بين المنطقتين، وقد اختلف المؤرخون والباحثون في بدايات هذه المسالك ونهاياتها، كما ركز بعضهم على أهمية بعضها دون غيرها، والتي كانت وسيلة الاتصال الاقتصادي والثقافي والسياسي في أواخرها، ذلك أن التجارة تعد ّ أهم الروابط التي تصل بين الأقاليم الجغرافية، وبين الشعوب والحضارات. لهذا اهتمّ المسلمون بهذه المسالك، لإعادة إحياء الحركة التجارية بين السكان ([1]).
ومن هنا تندرج أهمية موضوع بحثنا، إذ يتعلق بالقوافل التجارية في مالي ودورها في نشر الإسلام، ولذا يتوجب علينا طرح عدّة تساؤلات وهي كالتالي:
ماهي المسالك التجارية التي ربطت بين جنوب الصحراء بشمالها وخاصة مالي؟ ما دور تلك المسالك في نشر الإسلام في مالي وقتئذ؟
أهداف الدراسة
- إبراز دور الصحراء كحلقة وصل بين شمال وجنوب الصحراء
- تجارة القوافل وسيلة تواصل اقتصادي.
- بيان دور القوافل في نشر الإسلام في مالي
- الإنسان، أو مما تقوم عليه حياته من مصالح وأهداف وأسباب ووسائل، سواء كفرد أو كمجتمع.
ولتحقيق هذه الأهداف، سوف تسلط الدراسة الضوء على ثلاث نقاط رئيسة، وهي: القوافل التجارية إلى مالي، وطرق القوافل التجارية التي ربطت مالي بشمال الصحراء، ودور القوافل التجارية في نشر الإسلام في مالي.
أولا: القوافل التجارية إلى مالي
إنّ المتأمّل في حركة التجارة الدائبة، يجد أن المسالك المتّبعة نوعان: أحدهما أفقي من الشرق إلى الغرب والعكس، والآخر رأسي يأتي من أعماق إفريقيا جنوب الصحراء إلى الشمال، ومن الأسواق الشمالية إلى غات وتنبكتو وأغاديس وكانو وغيرها ([2])
نظرا لكون القوافل كانت وسيلة الربط بين شمال الصحراء الكبرى الإفريقية وبين جنوبها؛ فإن القوافل التجارية بالذات عملت على تلبية حاجيات الدول والسكان المتواجدين على طرفي الصحراء. حيث كان التجار ينقلون التمور والملح والمنسوجات والتبغ والكتب من المغرب الأقصى في اتجاه دول إفريقيا جنوب الصحراء، ويجلبون في المقابل الذهب والعبيد والعاج والتوابل وجلود الحيوانات. هذه القوافل التجارية كانت تصل إلى مالي (إمبراطورية مالي) بالتحديد عن المغرب من جهة الغرب والجزائر من جهة الشرق، ومنها إلى باقي دول جنوب الصحراء عبر تنبكتو جوهرة الرمال.
اعتمدت القوافل التجارية القادمة من المغرب -التي كانت تربط المغرب بدول إفريقيا جنوب الصحراء- على مجموعة من المسالك، التي كانت تتغير أهميتها تبعا للدولة الحاكمة. حيث حظيت المسالك التي تربط بين مدينة سجلماسة المغربية وتنبكتو في إمبراطورية مالي (تقع في جمهورية مالي حاليا) وبين مراكش وتنبكتو باهتمام كبير في عهد الدولة المرابطية خلال القرن 11 م / 5 هـ. بينما حولت الدولة الموحدية ( القرن 12 م / 6 هـ ) ومن بعدها الدولة المرينية ( القرن 13 م / 7هـ ) الأنظار نحو المراكز التي توجد غربا كمركزي نول وأغمات على الطريق الأطلسية بمحاذاة الساحل ، الأمر الذي ساهم في تراجع مكانة مركز سجلماسة الذي كان يقع في الجنوب الشرقي .
القوافل التجارية القادمة من الجزائر التي ربطتها بجنوب الصحراء، فهي:
- مع شرق الجزائر:
- القافلة الرابطة بين سكيكدة وتنبكتو: عبر قسنطينة ثم أمقيد والهقار، ويمر عن باتنة، وبسكرة، وتقرت، ورقلة، والبيوض، و أمقيد، والهقار، وتيميساو، وأيفروان، إلى مبروك، وتنبكتو، أو إلى شط بوروم (برنوح)([3]).
- القافلة الرابطة بين طرابلس إلى تنبكتو: وتمرّ على سناون، وغدامس، وتيمياسين، والبيوض إلى أن تتصل بطريق قسنطينة إلى تنبكتو، ولهذا المسلك فرع إلى غات، وبئر عيسو، وأغاديس، ثم إلى سوكوتو، وكاتسينا غربا، وإلى أقاديم، وماو شرقا([4]).
- في الوسط
القافلة الرابطة بين مدينة الجزائر و تنبكتو (يتجاوز طوله 3500 كلم): وتمر على البليدة، وبوغار، والأغواط، وغرداية، والمنيعة، وعين صالح، وأقبلي، وبئر تيريشومين حيث تلتقي بطريق توات إلى تنبكتو، وقد سلكه الضابط بالا ([5]).
وعلى غرار ما سبق، يمكن القول بأنّ الجزائر قد توفّرت، خلال الفترة الحديثة، على شبكة من المسالك كادت تكون مكتملة من حيث الانتشار، فهي بمواصفات ذلك العصر كانت تصل جُلّ المراكز العمرانية وتربط أغلب الجهات وتضمن الانتقال للأشخاص والقوافل التجارية، وتُسْهِم في تصريف المنتوجات الفلاحية وإيصال الحاجات المعاشية للسكان.
ثانيا: طرق القوافل التجارية التي ربطت مالي بشمال الصحراء
إثر قيام إمبراطورية مالي وتوسّعها على أنقاض غانة، خصوصا في القرن الرابع عشر(في عهد منسا موسى) العهد الزاهر لأمبراطورية مالي، أخذت تُنبكتو مكانتها الثقافية أيضا حين استولى عليها السلطان موسى وبنى بها قصرا له ومسجدا جامعا (وهو جنغربير) إبّان عودته من الحج؛ فهاجر علماء ولاته إلى تنبكتو واستوطنوها وأصبح ذلك المسجد جامعة يقصدها طلاب العلم، وأحضر إليها منسا موسى أشهر الفقهاء والعلماء وأنفق عليهم وعلى الطلبة الوافدين إليها، كما عوضت ولاته في التجارة فازدادت نموا وازدهارا.
كان القرن السادس عشر الميلادي الفترة الزاهرة لتنبكتو، إذ استكمل فيها نضجها الثقافي والتجاري، وبلغت أوج تطورها وازدهارها في عهد أسكيا الحاج محمد وابنه داود فاعتنيا بالعلم والعلماء، واشتريا كميّات ضخمة من المخطوطات بأثمان باهظة، ورصّفوها في مكتبات تنبكتو تحت خدمة العلماء والطلبة. كما عُرِف أسكيا داود بنسخ الكتب إضافة الى حركة النّسخ الفرديّة الّتي وجدت بتنبكتو لتوفير الكتب بين النّاس، وزاد إقبال الطلبة عليها من كل صوب وحدب في غربي إفريقيا والسودان وحتى مراكش. وكان يدرس في معاهدها أبناء تجار الشمال، بل وأصبحت مقصد مزيد من العلماء من المغرب والأندلس في القرن السادس عشر الميلادي.
ففي هذا العهد كانت تقارن بالمدن الإسلامية الكبرى في مكانتها الثقافية، مثل القيروان وفاس وقرطبة والقاهرة، إذ ازدحمت مساجدها بالطلبة التي كانت تمثل جامعات إسلامية، كما كانت هي الحال في المدن الإسلامية الكبرى، واحتل جامع سنكورى المرتبة الأولى في هذا الصدد، ثمّ جامع (جنغربير) الذي بناه منساموسى، ثمّ مسجد (سيدي يحي التادلسي) وجامع (خالد)، وكانت محطة القوافل التجارية الأولى فيما وراء الصحراء أجمع بلا منافسة؛ حيث كانت ملتقى القوافل من شتى الاتجاهات، فكانت بمثابة ميلانو ونورمبرج في القرون الوسطى، ويذكر عبد القادر زبادية أنّها كانت توصف في ذلك العصر بأمّ مدائن السّودانيّين في العلم والحضارة وفي العمران والتّجارة.[6]
ومن أبرز طرق قوافل التجارة التي كانت تَقْصُد تنبكتو هي:
- الطريق الذي كان ينطلق من مصر ويمر بكانم الى تنبكتو.
- الطريق الذي كان ينطلق من تونس ويمر بهجار إلى تنبكتو.
- الطريق المنطلق من المغرب الأقصى ويمر بسجلماسة وتوات إلى تنبكتو.
- الطريق من تغازا ويمر بولاته إلى تنبكتو.
- الطريق من السودان ويمر بداخل مملكة مالى إلى تنبكتو.([7])
ثالثا: دور القوافل التجارية في نشر الإسلام في مالي
للتوضيح أكثر، سيتناول هذا القسم محورين رئيسيين، هما:
المحور الأول: إمبراطورية مالي (انتشار الإسلام): 1240-1464م
نشأت هذه الإمبراطورية مسلمة منذ عهودها الأولى، ومرت بثلاثة أطوار: التأسيس، والتطور، والازدهار ثم الضعف والانحلال.
طَوْر التّأسيس: بعد ضعف ملك إمبراطورية غانة إثر احتلال المرابطين لها، فقد تحركت بعض الأجزاء التي كانت خاضعة لسيطرتها وأعلنت استقلالها؛ بل السيطرة عليها مما أدّى إلى صراع بين هذه الأجزاء، فقد رجحت كفة مملكة كانغاباKangaba- في هذا الصراع، وانتصرت على مملكة صوصو بل وعلى غانة بقيادة ملكها سونجاتا كيتا، وحوّل مملكته من مملكة صغيرة إلى إمبراطورية عظيمة أصبحت وريثة غانة، سميت بإمبرطورية مالي([8]) وذلك سنة 1240م، وبهذا الانتصار كان القائد سونجاتا هو المؤسّس الحقيقي لإمبراطورية مالي.([9])
مع العلم أنّ هذه المملكة مرت على أيدي ملوك من ثلاث أُسَر مختلفة في نشأتها، وهي أسرة (تراوري) واشتهر من ملوكها (منسانوفين تراوري)، ثم أسرة (كوناتي) واشتهر من ملوكها (جورماندانا كوناتي) وعرف في المصادر الإسلامية بـ(برمندان)، ويَذْكُر ابن خلدون أنّه أول من أسلم منهم وأدّى فريضة الحج،([10]) ثم أُسرة (كيتا) والتي منها هذا القائد سونجاتا أو ماري جاطة بمعنى (الأمير الأسد).
وقد اختار سونجاتا عاصمة جديدة في نفس السنة تتوسط هذه الإمبراطورية الكبيرة، فشيّد عاصمة جديدة على مقربة من نهر النيجر سماها Nianey، بدلا من العاصمة القديمة جريبة أو جارب، أو (دياليبا- Dialiba) وهو النطق السليم الذي هو النطق الجاري على ألسنة أهل مالي الحالية.
- التسمية: وأمّا عن تسمية الإمبراطورية بمالي فيذكر أحمد شلبي لعلها حملت إسم أقدم مدينة بالمنطقة، وهي (Malel- مَلل) ([11]) التي تحَدّث عنها البكري في كتابه (المسالك والممالك)، كما تعني هذه الكلمة أيضا في لغة البمانان([12]) (فَرَس النهر)، فيمكن أن تكون تّسمية الإمبراطورية جاءت باسم ذلك الحيوان القوي دلالة على قوتها.
- اتساع الإمبراطورية في عهد سونجاتا: كان سونجاتا مؤسس الإمبراطورية قائد جيشه في بادئ الأمر حتى انتصر على غانة، وأسس إمبراطوريته وشيد لها عاصمة جديدة، ثم ترك زمام أمر الحرب لقواّده الذين كانوا يطمحون في مزيد من الانتصارات، فباتوا يحاربون باسمه وينتصرون في كل الجهات، حتى استطاعوا أن يُخْضِعوا أماكن كثيرة تحت أيديهم والتي لم تخضع لإمبراطورية غانة. فتملكوا بلادا وراء السنغال ووصلوا حتى نهر غامبيا، كما توغّلوا بعيدا صَوْب جنوب السنغال حتى حدود (تكرور)، وبدأت مالي بذلك الانتصار تمارس نشاطها في السودان الغربي كله.
- وأصبحت مساحتها تمسح الأراضي الممتدة من جبال الأطلس غربا إلى بلاد الهوسا شرقا، ومن المحيط الأطلس جنوبا حتى الصحراء الكبرى شمالا. وحج الملك سونجاتا ([13]) لله حمدا له على هذا الفوز الباهر الذي حققته جيوشه، كما ساعد على نشر العلم والإسلام، وحكم خمسة وعشرين عاما، وبعد وفاته تولى الحكم بعده ابنه “منسا علي” وكان من أعاظم ملوك إمبراطورية مالي، وحج هو أيضا أيّام الظاهر بيبرس، وقد سار على منوال أبيه وحقق بعض الانتصارات، إلاّ أنّه قد أصاب الدولة بعض الخلل في عصره.([14])
- فترة اضطراب مرّت بها الإمبراطورية: وقد تواصل هذا الخلل بعد عهد منسا علي، ففي هذه الفترة تولى فيها ملوك ضعفاء لم تكن لهم هيبة ولا قيمة تذكر، ومنهم والي أخ منسا علي الذي تولى بعده، ثم أخوهم خليفة. ويذكر أنّه كان أحمقا راميا، يرمي الناس بالسهم ويقتلهم من غير ذنب، فانتقموا منه بقتله. وتولّى بعده أحد أحفاد سونجاتا من بنته وكان اسمه أبوبكر، ثم تولى الحكم أحد مواليهم عُرِف هذا بالقوة، واستطاع أن يتغلب على ملكهم وهو (ساكورة أو سبكرة أو ساكبورة). وحج أيام الملك الناصر محمّد بن قلاوون، كما عرف بذلك ملوك هذه الإمبراطورية لشدّة حماستهم على أداء فريضة الحج، وقتل عند عودته بتاجورا. وقام بانتصارات استطاع بها أن يوسع رقعة الإمبراطورية إذ استولى على بعض المناطق المجاورة لهم، وأصبحت الإمبراطورية تمتد من البحر المحيط وغانة بالمغرب إلى بلاد التكرور في المشرق. وبعده عاد الملك إلى الأسرة الحاكمة لكن إلى يد ملك ضعيف مرة أخرى، وهو قو بن السّلطان سونجاتا ثمّ بعده محمد بن قو. ولكن لم يكن لذلك تأثيرا يذكر على نمو الدولة، لأنها كانت في فترة الشّباب والقوة نحو التطور فاستطاعت تخطّي ذلك الخلل.([15])
المحور الثاني: دور القوافل التجارية في نشر الإسلام في مالي
إن الصحراء الكبرى الإفريقية رغم صعوبة التنقل فيها، لم تكن في عصر من العصور حاجزا بين قطبيها الشمالي والجنوبي؛ بل كانت همزة وصل بينهما منذ ظهور أقدم دولة في المنطقة الجنوبية (إمبراطورية غانة) في القرون الميلادية الأولى؛ فقد انتعشت التجارة بين البربر والزنوج وتنقلت القوافل التجارية بينهم على ظهور الجمال. بل يمكننا أن نذهب إلى أبعد من ذلك؛ إذْ يَذْكر عبد الرحمن ميقا أنّه كانت هناك صِلاتٌ تجارية بين فراعنة مصر وأهل كوكيا.([16])
وتواصلت تلك العلاقات التجارية بين شطري الصحراء إلى ظهور الإسلام وانتشاره في مصر وشمال إفريقية، بل وتوطدت تلك الصلة التجارية بعد ما أصبح أولئك التجار مسلمين، ونظموا تجارتهم بوضع المكاييل والموازين على أسس سليمة، فازدادت الثقة بهم فلقيت التّجارة رواجا.
كما أصبحت أحسن وسيلة لإبلاغ الدين الإسلامي الحنيف إلى الأهليين، بحكم علاقات التعامل التجاري الحسنة بينهم. وتم تبادل السلع بين الفريقين على أحسن وجه، الذي كان كِلَا الجانبين بحاجة ماسّة إليه. وتمّ في نفس الوقت تبادل الأفكار، ولعب تجار البربر دورا لامعا في هذا المجال؛ إذْ كانوا روّاد النّشاط التّجاري عبر الصّحراء والبحر الأبيض المتوسّط. فكان هؤلاء التجار حاملي لواء انبعاث الإسلام في تلك الأصقاع، إلى أن أصبحت لديهم مدينة خاصة بهم في عاصمة إمبراطورية غانة. واستوطن بعضهم بها وعاشوا في وئام تام مع أهلها فاعتنقوا الإسلام على أيديهم، فكانت العاصمة (كومبي) تمثّل مركزا تجاريا كبيرا في ذلك العصر، إذ كانت ملتقى القوافل الآتية من مصر والقيروان وسجلماسة وقوافل الجنوب.
كما أن اعتناق أول ملوك مملكة مالي الإسلام كان على يد تاجر مسلم، وذلك عند ما حلّ بمملكتهم الجفاف وأوشكت المزروعات على الإتلاف، وكانت تجري العادة عندهم في مثل تلك الواقعة، أن يقوموا بطقوس دينية وثنية، فقام الملك وهو(براماندانا) المتقدم ذكره بتقديم العديد من القرابين دون جدوى.
فبعد أن انتاب اليأس الملك وحاشيته من نزول الغيث، اقترح عليه ذاك التاجر صلاة الاستسقاء شرط أن يسلم، فقبل الملك اقتراحه وتعلم منه بعض مبادئ الإسلام، وصليّا صلاة الاستسقاء ليلة جمعة في ربوة خارج المدينة، وإثر انتهائهم من الصلاة نزل الغيث وسُقِيت المزارع وعمّ الخير بلادهم، فدعا براماندانا شعبه إلى اعتناق هذا الدين الحنيف، ومن ذلك اليوم حمل شعب مملكة مالي الإسلام على كاهلهم،([17]) وكان لهم دور ساطع في نشر الإسلام كما سيأتي.
ولم يقف نشاط التجار في نشر الإسلام جنوب الصّحراء عند هذا الحد، بل بما أنّ الكثير منهم لم يكن لديهم زاد كبير من علم الفقه -كما كان يصعب عليهم التّفرّغ لتعليمه أيضا- فراحوا يستقدمون العلماء والفقهاء لتعليم هؤلاء الأهالي شرائع الدّين. فبنى بعضهم المدارس والمساجد، واتجه بعضهم إلى إرسال بعثات الطّلبة من أبناء المنطقة من تلك المدارس إلى المعاهد الإسلاميّة في مصر وشمال إفريقيا؛ لتحسين مستواهم العلمي ويرجعوا قادة متفقّهين إلى أهاليهم. ومن جهة أخرى اهتمّ بعض هؤلاء التّجّار بتشييد البيوت لأولئك الطّلبة الملتحقين بتلك المعاهد لإيوائهم طوال دراستهم، كما تكفّلوا بنفقاتهم، فكان من ذلك انتشار الإسلام في المراكز التّجاريّة ثمّ منها إلى الجهات الأخرى.
في هذا الصدد، يذكر شلبي عن السّلاوي انتشار الإسلام مع القوافل التّجاريّة قائلا: «إنّ تجّار المغرب كانوا يجتمعون في سجلماسة حاضرة بني مدرار ثمّ يسيرون في قوافلهم إلى غانة، وكانوا يقطعون المسافة في ثلاثة أشهر ذهايا وفي شهر ونصف إيّابا، وكانوا يبيعون ما معهم من الأمتعة والأثقال بالتبر، وكان انتشار الإسلام يسير مع قوافل التّجّار ويزدهر على طول الخطوط التّجارية» ([18])، ومن المؤكد أن المذهب المالكي قد تسرّب إلى هذه الأصقاع مع تدفّق سيل الإسلام إليها منذ ذاك الوقت، بعد انتشاره في مصر وشمال إفريقيا، فكذا بدت الصحراء جسرا للتواصل بين ضفتيها على مر العصور، ومعبرا للإسلام إلى الجنوب عامة والمذهب المالكي بصفة خاصة.
الختام
ما يمكن أن نستخلص إليه هو: أنّ الإسلام بدأ زحفه من العمق الإفريقي وانتهى بقيام الدول الإسلامية في ممكلة مالي (من القرن السابع حتى العاشر)، وامتدّ أثر الإسلام إلى معظم دول غرب ووسط إفريقيا لما يعرف الآن بنيجيريا، النيجر، الكاميرون، إفريقيا الوسطى، تشاد وما حولها، إلى جانب المناطق القديمة في غانا، مالي، السنغال وما حولها.
وقد ازدهرت مدينة تُنبُكْتُو في مجال التعليم ونشر الثقافة الإسلامية، إذْ انتشر المرابطون في القرى يعلمون القرآن الكريم والكتابة العربية، وكان أبناء المشايخ يأتون إلى تُنبُكْتُو لتحصيل العلم، فلم تكن تُنبُكْتُو سوقا للتجارة غرب إفريقيا فحسب، بل كانت دار علم انتشر ذكرها حتى سواحل البحر الأبيض المتوسط، وصارت هذه المدينة التي اختطت منذ عام1077م، مركزا للدعوة الإسلامية تَشِعّ منها إلى كل الجهات، ومنذ القرن الثاني عشر كان الإسلام قد انتشر في بلاد النيجر والسنغال الأعلى ووصل إلى بحيرة تشاد في القرن الثالث عشر.
د. عمر بمبا، الأمين العام لاتحاد علماء إفريقيا
تصفح تصنيف دراسات ثقافية للاطلاع على مثل هذه الدراسات والمشاركات
الهوامش والإحالات
[1] - نور الدين شعباني: علاقات ممالك السودان الغربي بدول المغرب الإسلامي وآثارها الحضارية بين القرنين الرابع والتاسع الهجريين /10 و 15م ، رسالة ماجستير في تاريخ العلاقات بين السودان
[2] - محمد العربي الزبيري: التجارة الخارجية للشرق الجزائري في الفترة ما بين 1792-1830م، نشر المؤسسة الوطنية للكتاب، ط2، الجزائر، 1984م، ص68. نقلا عن مجلة روافد للبحوث والدراسات ، جامعة غرداية، العدد الثاني (2017 ) ، تجارة القوافل بين الجزائر وإفريقيا جنوب الصحراء في العهد العثماني ودورها الحضاري للطالب أوزايد بالحاج (طالب دكتوراه)، ص 108.
[3] - يحيى بوعزيز: تاريخ إفريقيا الغربية الإسلامية من مطلع القرن السادس عشر إلى مطلع القرن العشرين ويليه الاستعمار الأوروبي في إفريقيا وآسيا وجزر المحيطات، طبعة خاصة، دار البصائر للنشر والتوزيع، الجزائر،2009م، ص ص42-46.
[4] - إبراهيم مياسي: مقاربات في تاريخ الجزائر، 1830-1962م، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر،2007م ، ص ص35-36. نقلا عن مجلة روافد للبحوث والدراسات ، جامعة غرداية، العدد الثاني (2017 ) ، تجارة القوافل بين الجزائر وإفريقيا جنوب الصحراء في العهد العثماني ودورها الحضاري للطالب أوزايد بالحاج (طالب دكتوراه)، ص 109.
[5] - بوعزيز: تاريخ إفريقيا الغربية، المرجع السابق، ص41 .
-[6] زبادية، عبد القادر : ملامح الحركة التّعليميّة في تمبكتو خلال القرن السّادس عشر، المجلّة التّاريخيّة المغربيّة، عدد7-8، خاص تكريما للأستاذ مرسال امري، تونس، جانفي1977م، ص29.
[7]- حسن، م. س، ص220؛ شلبي، م. س، ص197.
[8] - فكانت إمبراطوريّة مالي تضمّ أراضي هذه الجمهوريّات الحاليّة : جمهوريّة مالي في قلب الإمبراطوريّة، وجنوب جمهوريّة موريتانيا في الشّمال، والسنغال وغينيا في الغرب، وشمال ساحل العاج وبوركينا فاسو في الجنوب، وجمهوريّة النيجر في الشّرق، أنظر، قدّاح، م.س، ص44.
[9]- أنظر، شلبي، م.س، ص110، ص241.
- ابن خلدون، م.س، مج6، ص413.[10]
1- شلبي، م.س، ص241.
[12]- شاعت في المصادر تسمية هذا الشّعب باسم بمبارا Bambara- فهي تسمية المستعمر، بينما الأصل هو بمانان Bamanan-، وهم يقربون من شعب الماندين مؤسسو إمبراطوريّة مالي، فلغتهم متقاربة مع اختلافات بسيطة فقط. أنظر، سيلا، م.س، ص55؛ Institut pédagogique national, section Histoire et géographie : Histoire, imprim color, Bamako, , Mali, 2001 p59.
[13] ـ لم تذكر المصادر معلومات عن الجانب الدّيني لهذا السّلطان، بل ذكرت حياته البطوليّة وتأسيسه لإمبراطوريّة مالي فقط، كما أنّ حياته أشبه بأسطورة حسبما تذكرها الرّوايات الشّفويّة، لكن أحمد شلبي من ذكر حجّه. أنظر،سيلا، م.س، ص56ـ57؛ قدّاح، نعيم : إفريقيا الغربيّة في ظلّ الإسلام، مر، عمر الحكيم، وزارة الثّقافة والإرشاد القومي، مديريّة التّأليف والتّرجمة، دط، دت، ص48ـ49.
[14]- أنظر، ابن خلدون،م.س، مج6، ص413؛ شلبي، م.س، ص244-245.
[15]- أنظر، ابن خلدون، م.س، مج6، ص414؛ القلقشندي، أحمد بن علي : صبح الأعشى في صناعة الإنشا، شرحه وعلّق عليه، نبيل خالد الخطيب، دار الفكر للطّباعة والنّشر والتّوزيع، ودار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، ط1، 1407هـ-1987م، 5/282-283؛ شلبي، م.س، ص242-243، ص245.
[16] - ميقا، م. س، ص12.
[17]- البكري، م. س، ص875-876؛ سيلا، م. س، ص56.
[18]- شلبي، م. س، ص206.