اهتزت مواقع التواصل الاجتماعي المالية يوم الأحد 30 أكتوبر 2022م إثر انتشار مقطع فيديو لشاب اسمه مامادو دمبيلي ينتسب إلى الديانة الكيميتية وحركة الوحدة الإفريقية وهو يقوم بشتم وإهانة المعتقدات الإسلامية في بلد أكثر من 95% من سكانه يعتنقون الدين الإسلامي.
وسرعان ما تصاعدت حملة الإدانات الواسعة حول الواقعة؛ حيث بدأت بالقيادات العامة، على رأسهم وزيرالشؤون الدينية والثقافية، الدكتور محمد كوني، الذي أدان التصريحات بأشد العبارات، كما طالب النائب العام في بيان صحفي بفتح تحقيق حول ملابسات الواقعة، ودعا المجلس الأعلى الإسلامي جميع الماليين للخروج بكثافة إلى ساحة الاستقلال يوم الجمعة 4 نوفمبر الجاري تنديدا لهذا الفعل اللاعقلاني. وحسب النشطاء، فالشاب ينتمي لحركة “كيميت” الوثنية التي تدّعي أن الإسلام جاء لاحتلال الأفارقة، وتدعوإلى العودة للوثنية المصرية القديمة.
وبناء على ما سبق، تسعى هذه المقالة للتعرف على الديانة الكبميتة من خلال الإجابة على التساؤل الآتي: ما هي الكيميتية، وما علاقتها بحركة الوحدة الإفريقية (Pan-Africanism)؟
نبذة مختصرة عن الكيميتية والوحدة الإفريقية (البانافريكانيزم)
ولتحقيق هذا الهدف، سيتم تقديم نبذة مختصرة عن أيديولوجية الحركتين (الكيميتية والبانافريكانيزم) لفهم العلاقة الجوهرية والفروقات بينهما.
أولا: حركة الوحدة الإفريقية (Pan-Africanism)
عرف أبكر آدم في دفاتر البانافريكانية، قائلا: “هي حركة فكرية وسياسية وثقافية تشمل في داخلها مدارس متنوعة وانتماءات سياسية مختلفة بقدر تنوع واختلافات المنتمين إليها في إفريقيا والشتات.[1]
و ترجع فكرة الكيميتية بأصولها الفكرية إلى التراث الفكري لحركة الوحدة الإفريقية (Pan-Africanisme)، وظهر المصطلح لأول مرة مع انعقاد أول مؤتمر بهذا الاسم عام1900م في لندن بدعوة من محامي من أصول إفريقية من جزيرة ترينداد- إحدى جزر الكاريبي، وعقد بعدها خمسة مؤتمرات لحركة الوحدة الإفريقية بزعامة الدكتور ويليام ديبوس (ديبوا) في السنوات: (1919م، 1921م، 1923م، 1027م، 1945م). حيث تنظر البانافريكانيزم ببعدها الفكري والحركي إلى الأفارقة داخل القارة وخارجها، بهدف بعث وتوحيد إفريقيا وتعزيز الشعور بالوحدة بين الأفارقة بالإضافة إلى إحياء وتمجيد التاريخ والثقافة الأفريقية.[2]
لاحقا، انتقلت زعامة الحركة من الأفارقة في الشتات بقيادة، وليام ديبوس وجورج بادمور وغيرهما، بعد مؤتمر حركة الوحدة الإفريقية هام 1945م إلى الأفارقة في الداخل. ومن أبرز قادتها في الداخل الدكتور كوامي نكروما، وهو من أشهر المنتمين إلى الاتجاه الراديكالي الداعيين إلى إنشاء ولايات متحدة إفريقية.[3]
وتجابه الحركة أربع قضايا أساسية بمختلف مشاربهاالفكرية والسياسية، وهي: الاستعباد، والاستعمار، والهيمنة الثقافية، والعنصرية. وربط نكروما أفكاره حول الوحدة السياسية الإفريقية بمكافحة الاستعمار الجدي، معتبرا التفرقة والتقسيم من الأدوات الر ئيسية للاستعمار الجديد.
يُسْتَنتَج مما سبق، أن البانافركانيزم -بتلك الأهداف والنظرة- قائمة على فكرة الوحدة بعيدا عن الدين أو اللون، وهدفها الأساسي هو محاربة الاستعمار بشقيه القديم والجديد. ويؤكد ذلك مؤتمر الدار البيضاء في يناير 1960م، والذي شاركت فيه خمس دول إفريقية استجابة لدعوة الملك محمد الخامس لمواجهة دول المجموعة الفرنسية بقيادة هونويه بوانيه، وهذه الدول هي: الجمهورية العربية المتحدة (مصر)، جمهورية غانا، وجمهورية غينيا كوناكري، وجمهورية مالي، والمملكة الليبية.
ونلاحظ في هذا المؤتمر، اختلافا وتباينا بين الثقافات واللغات بين هذه الدول؛ حيث كانت هناك دولٌ عربية من شمال القارة، مثل: ليبيا ومصر والمملكة المغربية والحكومة الجزائرية المؤقتة. ودول من غرب إفريقيا ناطقة بالفرنسية، مثل غينيا ومالي. وغانا ناطقة بالانجليزية. إضافة إلى اختلاف أديان قادة هذه الدول حينها، بين المسيحي والمسلم.[4]
وبغض النظر عن هذه الاختلافات، اتحد المؤتمرون لأجل مستقبل القارة، وبذلك يعتبر هذا المؤتمر النواة الأساسية لتحقيق الوحدة الإفريقية الشاملة، وإن سبقها المؤتمرات المنعقدة في غاناسنة 1958م، وأثيوبيا عام 1960م، وفي أغسطس 1960م في الكونغو.[5]
ثانيا: الديانة الكيميتية
بالإنجليزية الكيميتية تعني Kemetism أو Kemeticism، فأصل الكيميتية مأخوذ من “كيميت“، وهو أشهر الاسماء القديمة لمصر”كيميت”. ويعني “الأرض السوداء“[6]. والأرثوذكسية الكميتية “هي ممارسة حديثة للتقاليد الدينية لمصر القديمة، والمعروفة بين شعبها باسم كيميت، وأسس هذه الممارسات الخاصة القسّ تمارا ل.
في واقع الأمر، الكيميتية هي إحياء معاصر للديانة المصرية القديمة وما يتعلق بها من ممارسات دينية في التاريخ الكلاسيكي والمتأخر. ظهر هذا التوجه في أواخر سبعينيات القرن العشرين، واشتُق اسمه من كلمة “كيميت“، وهو اسم مصر في اللغة المصرية القديمة.[7] ويعبد الكيميتيون على عمومهم بضعة آلهة، منها: ماعت، وباستيت، وأنوبيس، وتحوت، وغيرهم، غير أنهم يعترفون بوجود جميع الآلهة. ويكون التعبُّد في الأغلب في صورة صلوات وإقامة مذابح، وقد تحتوي على شموع أو قرابين أو تماثيل، غير أنه ليس للكيميتية صفة موحدة للعبادة.[8]
وفي الدين الكميت الأرثوذكسي، تعدد الآلهة معتقد سائد، أي أنه يعترف بالعديد من الآلهة بالإضافة إلى ذلك، فهو نوع خاص من تعدد الآلهة يسمى Monolatry وهو مفهوم مختلف عن التوحيد في الدين الإسلامي، حيث يعتقدون أن الله يظهر (يتجلى) في شكل، ويظهر بشكل واحد فقط (عقيدة الحلول). فمن خلال أساس الفكر القديم والبنية الروحية، يستطيع المصلين الكيميتين الأرثوذكس اتباع مسار أسلافهم لأول مرة منذ أكثر من 4000 عام.
الأرثوذكسية الكيمية هي ديانة إفريقية تقليدية، وتحمل تشابهًا مع ديانات الشتات الإفريقية التقليدية، والديانات الأخرى، مثل: ديانات غرب إفريقيا لشعوب اليوروبا، وأكان، والكونغو، وداهوميان؛ والممارسات الإفريقية الكاريبية لفودو، وكاندومبل، ولوكومي. وكذلك الممارسات الروحية في شمال شرق إفريقيا والشرق الأدنى القديم. وتتطلب ممارسة الأرثوذكسية الكيمتية التزامًا بفهم التراث الثقافي الذي تم تأسيسه في الماضي، والذي تواصل الأرثوذكسية الكيمتية احترامه وتمثيله، حتى في الأماكن والأزمنة البعيدة تمامًا عن ممارستها الأصلية.[9]
ويزعم أصحاب الكيميتية أنهم استمدوا فكرتهم من نظرية شيخ أنتا جوب، وإن كان جوب بريئ منهم كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب – عليهما السلام- لأنهم لم يقدموا دليلا واحدا على زعمهم هذا. وحسب السيرة الذاتية لجوب لم يكن وثنيا؛ بل كان مسلما بدأ دراسته بتعليم القرآن في قريته ديوربيل وهو في سن الرابعة أو الخامسة حسب المؤرخين قبل أن يلتحق بالثانوية في داكار وسان لويس، ثم السوربون بباريس؛ حيث بلور نظريته ليثبت أسبقية الحضارة الإفريقية، ولم يُسمع منه أنه طعن في الدين كما يقوم به الكيميتيون الآن.
ويرى الكيميتيون أن الإسلام دين العرب، جاء لاحتلال الأفارقة، وهذا تلفيق وجهل محضٍ. لأن الإسلام دين البشؤية كلها وليس للعرب فقط (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). وأول من حارب الإسلام في مكة هم كفار قريش، وهم من العرب أيضا. و بعد أن ضاقت الأرض بالمسلمين هاجروا إلى الحبشة، في إفريقيا، بأمر من النبي صل الله عليه وآله وسلم؛ حيث استضافهم النجاشي ملك الحبشة آنذاك. السؤال الذي يُطرَح هنا، للكيمتين وغيرهم، ألم يكن النجاشي إفريقيا؟ وبالتالي لماذا استقبل المسلمين والإسلام جاء لاحتلال الأفارقة كما يزعمون؟
وتجدر الإشارة هنا، أن حركة الوحدة الإفريقية (البانافريكانزم) نفسها ليست حركة أو منظمة واحدة؛ بل هي في الأساس فكرة ثورية نضالية تطالب بوحدة إفريقيا عند نشأتها، ثم لاحقا تبنتها حركات، وجمعيات، ومؤسسات؛ بل وأشخاص يحملون أجندات مختلفة لكنهم يتفقون في مبدأ من مبادئها أو لمآرب أخرى يضمرونها. ومن أبرز المؤسسات الشبابية في الشتات، منصة السيادة الإفريقية وحركة New Power Orient بالقاهرة. تجمع الأخيرة أعضاء من خمسة عشر دولة إفريقية متحدثة بالفرنسية، ومديرها السيد إبراهيم إيف بوكا.
شاركت المنظمة في احتياجات مع الجالية المالية بسفارة مالي بالقاهرة، تنديدا على عقوبات التي فرضها إيكواس على مالي في يناير 2022،كما شاركوا في فعاليات أسبوع المصالحة الوطنية في سبتمبر الماضي في سفارة مالي بالقاهرة لتقديم الدعم للحكومة الانتقالية في قضية شكوى الذي قدمتها لمجلس الأمن الدولي ضد انتهاكات فرنسا على أراضيها ، وأكدالسيد بوكا في خطاب ألقاه أمام الحضور: تضامن الجالية الأفريقية مع جمهور ية مالي مشيرا أن مالي لو نجحت في هذا الصراع ، فالرابح الأول هي قارتنا الحبيبة، وفي حالة الفشل يعني أن العدو يقترع خطة أخرىفي إحدى بلدان القارة،وأضاف أننا واثقون أن مالي تنتصر في هذه المعركة.
ولمزيد من المعلومات حول القضية، تم التواصل، هاتفيا، مع السيد إبراهيم إيف بوكا في القاهرة، للحصول على بعض المعلومات حول طبيعة العلاقة بينهم كشباب بانافريقي والديانة الكيمتية، وفي ذلك طرحت له عدت أسئلة على النحو التالي:
ما العلاقة بينكم كشباب يحمل فكرة الوحدة الإفريقية المعروفة بالبانافريكانيزم والديانة الكيميتية؟
- إن فكرة بان أفريكانيزم قائمة على أيدلوجية معينة، وهي محاربة الاستعمار في ربع القارة الإفريقية، وهذا يستدعي الوحدة وليست الفرقة. ونفى وجود أي علاقة بينهم وبينالكيميتية، مؤكدا عدم علاقة الدين بما يسعون إليه، وكل شخص حر في اختيار دينه ومعتقده.
ما تقييمك للجدل الذي أثاره الكيميتيون في مالي وكيف تصنفه؟
- أعتبر هذا الجدل والنقاش نقاشا زائفا (C’est un faux débat) وليس مبنيا على علم. ولنضرب مثلا بقيادات البانافريكانيين، مثل: سيكو توري، الذي كان مسلما، ونكروما مسيحيا، إشارة إلى أن هدف هؤلاء القادة هو استقلال القارة من الاستعباد والاستعمار.
هل ما أحدثه دعاة الكيميتية في مالي مؤخرا هو مؤامرة غربية على مالي؟
- بكل تأكيد هي مؤامرة. لأن العقيد غويتا معروف بتوجهاته البانافريكانية، وهذه خطة لإسقاط شعبيته ومحاولة بث الفتنة بينه وبين البانافريكانيين الذين يدعمونه ليلَ نهار. وعلى الشعب المالي أن يكون واعياً لمواجهة هذه الفتنة. وأعتبر الدول الإسلامية التي يعتبرها العالم اليوم قوة إقليمية صاعدة، مثل إيران، وتركيا ليستاعربيتان؛ بل هم ترك وفرس، وأرى أن هذه الجماعة، أي الكيمتية ماهي إلا أدوات غربية لزعزة أمن القارة واستقرترها. (
- انتهى الحوار).
واستمر البحث والتقصي عن حقيقة هذه الديانة، فتوصل الباحث إلى أن أحد منظري هذه الحركة هو السيد نيوسيري كالالا أومتوندي (Nioussere Kalala Omotunde)، ومؤلف من غوادلوب، ” Guadeloupe”، فرنسي الجنسية من أصول إفريقية. يدعو أومتوندي إلى تمجيد تاريخ إفريقية السوداء، الذي يعتبره ضحية التنمر. وعقد مؤتمرا بباريس بعنوان “التقدم العلمي لإفريقيا السوداء” في 18 أغسطس 2022م، قبل أن يُعْلَن عن وفاته في 14 نوفمبر2022م،[10] تاركا وراءه هذا الجدل الكبير الذي سببته الحركة التي ينتمي إليها .[11]
أين تنتشر أنشطة الكيمتيية الجديدة؟
يبدو أنّ أنشطة الكيمتيين الجدد منبعها خارج مالي، و تتمركز تحديدا في فرنسا التي تستضيف مؤتمراتهم، ولديهم جمعية باسم “Malika Famille” في فرنسا، تجمع نساء وفتيات، منهم من سمت نفسها ببنافرتيتي، تيمنا بالملكة المصرية القديمة.
شعار ديانة الكيميت؟
تتبنى الكيميتية شعارات مختلفة من حيث الشكل قليلا؛ لكنها تتحد في تفاصيل كثيرة. أبرز شهارها تظهر فيه صورة لآلهة السلام عند المصريين القدماء، و ماعت الإلهة “كانت أعظم مظاهر التجسيد الإلهي للمفاهيم المجردة، هي الآلهة ماعت “Ma’et” التي شخصت معنى الحق والصدق، والتي عبرت عنها اللغة المصرية القديمة بكلمة واحدة، وهي (ماعت). وهي الرب الذي يحمل هذا الاسم المقدس، والذي ظهر منذ الأسرة الثانية.[12]
صورة الآلهة في هيئة بشر أنثوية، حاملة على رأسها ريشة نعام على ما يبدو والتي أصبحت لسبب لانعرفه رمزا لها. والآلهة ماعت هي ابنة إله الشمس الذي يحكم طبقا للمبادئ الراسخة من الحق والعدالة قررها كناموس عام، ولذلك نرى هذه الآلهة دوما وهي تقف في مقدمة مركب الشمس المقدس، بصحبة رع خلال رحلته عبر السماء. ووفقا لوثيقة المبادئ الأساسية في الدولة المصرية القديمة والتي نشرها موقع اليوم السابع المكونة من 24 مبدأ رئيسيا يذكر فيها ( أنا لم ألعن “أشتم”) إذاً، فاللعنة خطيئة في ديانتهم وتعاقب عليها الآلهة.[13]
نستنج مما سبق أن ما قام به الشاب دامبلي في مالي، لا يخرج عن أمرين: إما أنه جاهل بالدين الذي يزعم اعتقانه، أوعاصٍ لآلهته (3Rna Maya)، باللغة المحلية المانديكو، المتخذة من ماعت آلهة السلام عند المصريين القدامى، والتي كانت تحكم على أساس العدل والصدق ويحاسب الإنسان حسب معتقداتهم على الظلم والقتل والكذب…إلخ.
وأكد نائب الأمين العام لحركة كيميت في مالي، سانغو ساندوغو، خلال مداخلته هاتفيا في المنصة الإعلامية Ouverture Media عند مناقشة موضوع اعتقال زعيم حركتهم دومبيا، على أنّ تصرفات الرجل من تلقاء نفسه وليس باسم الحركة، وأوضح انهم ليسوا مع الإساءة لمعتقدات الآخرين، ويحترمون ثوابت الديانات الأخرى وإن كانوا لا يؤمنون بها. يبدوا أن خروج المسلمين بالآلاف يوم الجمعة واعتقال زعيمهم جعل الحركة تتراجع خوفا من عاقبة هذا الفعل الشنيع.
والسؤال الآن هو، لماذا محاولة تأجيج الصراع الديني العقائدي في مالي، و في هذا التوقيت بالذات. أي بعد التوترات الدبلوماسية بين مالي وفرنسا ومغادرة قواتها من الأراضي المالية؟ أيضا بعد أن طلبت مالي اجتماعا طارئا من مجلس الأمن لتقديم شكوى ضد الانتهاكات الفرنسية داخل أراضيها؟
قد يعجبك أيضا:
- العلاقات المالية الفرنسية إلى أين؟
- أحداث مالي: محاولة انقلابية جديدة أم هي جزء من لعبة جيوسياسية كبرى؟
لعل ما ذكره مؤلف كتاب “نظرية الفستق” يجيب على هذا التساؤل بطريقة غير مباشرة، وهو: “ذر الرماد في العيون وتحويل أنظار الناس عن هدفك الفعلي.”[14] أجمع الماليون جميعا مسلم ومسيحي ووثني على طرد العدو المشترك والتخلص منه. وأثناء الحراك الشعبي في مالي مايو 2020 ضد نظام الراحل إبراهيم بوبكر كيتا، والوجود الفرنسي في مالي حيث لم يسهم في حل الأزمة بل تفاقم الوضع بوجوده مما أثار غضب الرأي العام المالي وطالب مغادرته.
والمتابع لهذه الأحداث، يعرف الدور الذي لعبه البانافريكانيون في هذه الثورة على منصاتهم في كل أنحاء العالم، وشاركوا في الاحتجاج ضد عقوبات الإيكواس في باريس ونيورك وحتى هنا بسفارة جمهورية مالي بالقاهرة مع الجالية المالية. ومنهم من زار بماكو تضامنا مع الشعب المالي كـ Kimi Seba)) منتصف أكتوبر الماضي. وفرنسا منعت البانافريكانية الكاميرونية Nathalie Yamb من دخول أراضيها بتهمة تحريض الرأي العام الإفريقي ضد السياسة الفرنسية، وانتقادها لمشروع فرنس-أفريك. وبعد مغادرة آخر جندي فرنسي من الأراضي المالية في أغسطس الماضي، فالعدو يحاول صرف نظرنا عن هدفنا الرئيسي وهو محاربة الاستعمار الجديد الذي تقوم به فرنسا ويرمينا في فخ الصراع العقائدي إحدى أدواته الخطيرة لتدمير المجتمع.
من المستفيد من زعزة الاستقرار في مالي؟
فرنسا تحاول حفظ ماء وجهها أمام العالم بعدما طُرِدَتْ من مالي لفشلها في المهمة التي أتت لأجلها، فهي الآن تريد أن تثبت للعالم أن الحكومة فشلت في إعادة الأمن بعد انسحاب قوات برخان، ورأينا الهجوم المسلح على معسكر كاتي قرب العاصمة بماكو لأول مرة منذ 2012 بعد انسحاب قوات برخان بأيام فقط؛ لكن الجيش تمكن من التصدى له.
والفيديو الذي بثه الكيميتيون وأثار الجدل كان مخطط له ومعد بعناية. والدليل على ذلك، نشر مثير الفتنية السيد دمبلي مقطعين من نفس المكان (الدكان)، مع تغيير الملابس فقط. يبدو أنه سجل في نفس اليوم المقطعين، ثم نشرهما في توقيتين مختلفين. شاهد المقطع من هنا
الفيديو الأول نشره يوم الأحد وأغلق المحل واختفى، ومن حينها مازال الدكان مغلقا، والمكان محاطا برجال الأمن منذ يوم الحادث. ثم في يوم الأحد التالي، نشر الفيديو الثاني بعد خروج المسلمين بكثافة، وعلق على المقطع أنه مازال موجودا ولم يصبه أي مكروه. لكن الغريب، أنه لم يقل شيئا عن المظاهرات التي خرجت ضده؛ لأنه صوره قبل الحادث.
من هنا نفهم، أنّ المقطعين صُوّرَا في اليوم نفسه مع تغيير اللبس، مثلما يحدث في المسلسلات حيث يتم تسجيل مجموعة من الحلقات، وتبث حلقة حلقة. وقام بنشر الفيديو الثاني لإثارة غضب المسلمين ضد الحكومة؛ لأنها تركت الرجل حرا طليقا، لكن السيناريو لم ينجح؛ لأن الأمر انكشف ببساطة.
لماذا يثار الصراع العقائدي لإسقاط حكومة تستمد شرعيتها من الشعب؟
يقوم الغرب، وخاصة فرنسا، باستخدام ثلاث أدوات لتدمير المجتمعات الإفريقية، وهي: إثارة الفتن القبلية، والعقائدية، والمذهبية/الطائفية. هذا الثلاثي، يمكن أن يطلق عليه سرطات الانقسمات الثلاثة؛ لأنه يقضي على المجتمع، ويدمره كما يفعل السرطات بجسم الإنسان أو الكائن الحي.
فالرئيس السابق إبيكا رغم تمتعه بالدعم الدولي والإقليمي، إلا أن الشعب استطاع إسقاطه. ورغم الضغوطات التي مورست على الحكومة الانتقالية من المجتمع الدولي والإقليمي، خاصة العقوبات التي فرضتها إيكواس، إلا أنها ما زالت تتمتع بتأييد شعبي كبير. وهذا ما يحاولون كسره الآن من خلال التعرض لعقيدة أغلبية شعب مالي والإساءة إلى دينهم ونبيهم من أجل تحريضهم ضد الحكومة الانتقالية إذا لم تستطع امتصاص الغضب واتخاذ قرارات صارمة وسريعة.
ولكن المخطط لم يتم، فيبدو أن الرئيس العقيد أسيمي غويتا، فهم هذه اللعبة جيدا. لذا صرح خلال اجتماع مجلس الوزراء الماضي بعد إدانته الشديدة لما حدث، حيث أكد “أنه ليس من الصدفة أن يقع هذا الحادث في وقت لا تدخر فيه السلطات الانتقالية أي جهد للمصالحة بين الماليين. كما طلب من مواطنيه اليقظة في مواجهة الأعمال التخريبية لزعزعة الأمن القومي مطالبا التنبه وعدم الوقوع في الفخ”.
فالعدو مرتقب ومراقب للأوضاع عن كثب، ويرصد تحركات الرأي العام الإفريقي التي يندد بوجوده، وبالتالي لا بدّ أن يأتي بفتنة لتفرق الشعب، وتشغله عن قضاياه السامية. وصدق نكروما حينما قال: “إذا لم نضع خططا لوحدتنا، وإذا لم نتخذ خطوات فعالة لتشكيل اتحاد سياسي، فسرعان ما سيقاتل ويحارب بعضنا بعضا، بينما يقف المستعمرون والامبراليون من وراء ستارٍ يشدون خيوط الستائر (الصراع )؛ ليجعلونا نقطع رقاب بعضنا البعض، من أجل تحقيق أغراضهم الشيطانية في إفريقيا.”
وإلى الآن مازال موقظ الفتنة دامبيلي مطالَباً لدى العدالة في مالي، وجاري البحث عنه. واعتُقل حتى الآن أربعة أشخاص على خلفية الحادث، بينهم الزعيم الروحي للجماعة، الكاتب دومبي فاكولي.
وأخيرا ما زالت القضية مستمرة، وقد نجح الأعداء إلى حد ما في تحقيق هدفهم غير المعلن، وهوتضليل الرأي العام وتأجيج نار الفتنة العقائدية بين الشعب المالي. إذْ قام أحد القساوسة، بيير غندو، بنشر الفيديو وهو يعارض فيه كلام أحد الإمام ماحي وتارا حينما علق على الحادث أن المسيحيين يعتبرون أقلية بين الشعب المالي، ويرد عليه القس أن المسيحيين ليسوا بهذه القلة ويظهر في ملامحه الغضب لتصريح وتارا. وعلى إثر هذا، رفعت دعوة قضائية ضد الإمام من قبل جماعة من المسحيين، إلا أنهم تراجعوا عن الدعوة بعد وساطة وزارة الشؤون الدينية في مالي.
هذا من جانب، ومن جانب آخر هذه القضية أشغلت الماليين عن معركتهم الحقيقية، فلم يكاد ينشر عن الحراك إلا نادرا في هذا الوقت. و أرجو أن لا يكون سببا في الخلط بين حركة الكيميتية الوثنية، والبانافريكانية -المعتدلة- التي تقوم على النضال ضد الاستعمار والاستعباد أساسا. وعلينا أن نتذكر أن لدينا تاريخ ومصير مشترك، وعدونا ليس متعددا؛ بل هو واحد، وعلينا أن نكثف جهودنا لمحاربة هذا العدو المتربص بنا.
وعلى الحكومة التنبه واليقظة في هذه القضية الحساسة، فالعدو ينتظر مثل هذه الفرصة للتدخل باسم حقوق الإنسان، وحقوق الأقلية، وحرية الرأي وغيرها من المصطلاحات المطاطة. فماهي إلا وسائل لإعطاء نفسه صلاحية التدخل في شيء لا يعنيه، ويتغلغل داخل المجتمع المالي ويقوم بتنفيذ أغراضه التخريبية، فلا نعطيه فرصة لذلك .
الإحالات: [1]أبكر آدم إسماعيل، البان أفريكانيزم قضايا أساسية (مترجم) ص6,7 [2] قنصورة، صبحي علي، (قضايا ابفكر السياسي الأفريقي في مرحلة ما بعد الاستقلال، قضية الوحدة الإفريقية) محاضرة الفكر السياسي الإفريقي، ماجستير سياسة. [3] المرجع السابق. [4] محمد فايق: عبد الناصر والثورة الأفريقية. [5] المرجع السابق. [6] محمد فايق: عبد الناصر والثورة الأفريقية. [7] Daugherty, Michelle (02 أكتوبر 2014)، "Kemetism_Ancient Religions in our Modern World"، جامعة ولاية ميشيغان، USA، اطلع عليه بتاريخ 18 يناير 2017. "نسخة مؤرشفة"، مؤرشف من الأصل في 15 فبراير 2020، اطلع عليه بتاريخ 9 أبريل 2020. [8] "Kemetic Starter Guide"، The Twisted Rope (باللغة الإنجليزية)، 08 نوفمبر 2011، مؤرشف من الأصل في 4 سبتمبر 2019، اطلع عليه بتاريخ 12 ديسمبر 2018. [9]Ancient Egypt: History, dynasties, religion and writing: https://www.livescience.com/55578-egyptian-civilization.html [10] Monument Du Mouvement Panafricaniste: Le Professeur Nioussérê Kalala Omotunde S’en Est Allé: Monument du mouvement panafricaniste: Le professeur Nioussérê Kalala Omotunde s’en est allé – Matin Libre [11] 3RNA-MAAYA : Valorisation des traditions africaines : 3RNA-MAAYA : Valorisation des traditions africaines (maliactu.net) [12] مصرس : المرأة في التاريخ الفرعوني علي رأسها ريشة وفي يديها قفازات منقوشة (masress.com) [13] المصدر نفسه [14] 12. فهد عامر الأحمدي، نظرية الفستق، ج1، ص71.