يحافظ اللاعبون من أصول أفريقية على هوياتهم الثقافية الخاصة من خلال الاندماج في مجتمعات مختلفة، مما يُبرز وجودهم في النسيج الاجتماعي في الدول الأوروبية، خاصة في إسبانيا، وهو ما يعكس دورهم البارز في تجسيد الهوية الأفريقية داخل الأندية الكبرى مثل ريال مدريد.
يُعَدّ فريق ريال مدريد مثالاً بارزاً على تأثير اللاعبين الأفارقة؛ حيث ساهموا بأدائهم وشخصياتهم الفريدة في تحقيق إنجازات كبيرة، بالإضافة إلى تقديم صورة مميزة للهوية الأفريقية. هؤلاء النجوم الأفارقة لم يقتصر تأثيرهم على الملعب فحسب؛ بل أضافوا الإثارة إلى الدوري الإسباني، وجذبوا إعجاب الجماهير بحماسهم وروحهم القتالية.
ويتزايد عدد لاعبي كرة القدم من أصول أفريقية في أوروبا بشكل ملحوظ، مما يعكس تداخل الهوية الأفريقية مع الأبعاد العالمية لكرة القدم. ومن هنا، يصبح البحث في دور الهوية الأفريقية وتأثيرها على منظومة كرة القدم العالمية ضرورة لفهم هذا التداخل وتحليل أبعاده الثقافية والاجتماعية.
وتهدف هذه المقالة إلى تسليط الضوء على اللاعبين الأفارقة الحاليين في فريق ريال مدريد لعامي 2024-2025، ودورهم في إبراز الهوية الأفريقية، وانعكاسات هذه الهوية من خلال أدائهم الرياضي. كما تركز المقالة على كيفية تمثيل الهوية الأفريقية عبر لعبهم في فريق عالمي بحجم ريال مدريد، الفريق الذي حصد كأس العالم للأندية لعام 2024 وتصدر قائمة أفضل الفرق في العالم.
جدول المحتويات
كرة القدم .. أكثر من مجرد رياضة
تعد كرة القدم وسيلة لتعزيز الحس الجماعي وتذكّر بالقيم المشتركة بين اللاعبين والمشاهدين الأفارقة، حيث يجتمع الناس، بمختلف أديانهم وثقافاتهم، لمتابعة المباريات بشغف. إن تشجيع ودعم اللاعبين من أصول أفريقية في الأندية الكبرى لا يقتصر على كونه نشاطًا رياضياً، بل يلبي احتياجات روحية، ومعنوية، واجتماعية، مما يعكس تجسيد الهوية الأفريقية عبر مشاركتهم وتأثيرهم في كرة القدم الأوروبية. فمن خلال كرة القدم، يجد الأفراد شعوراً بالانتماء والهوية، ويعبرون عن الالتزام والمعنى والقوة. وتتجلى الهوية الجماعية في الأجواء الحماسية للمباريات، حيث يجتمع أشخاص من خلفيات مختلفة لدعم الفريق ومشاركة الفرح.
“أريد من العالم ووسائل الإعلام أن تتوقف عن التلاعب بفكرة أن اللعب لأفريقيا ليس خيارًا جيدًا. يجب أن يتذكر اللاعبون الشباب أوطانهم ويختاروها.”
– جوزيه مورينيو
تمثل كرة القدم مساحة للتعبير عن الهوية الثقافية الأفريقية، خاصة عندما يتعلق الأمر بفريق رائد مثل ريال مدريد. هذه الرياضة الجماعية تُظهر بشكل جلي الهوية القارية، حيث يبرز اللاعبون الأفارقة مهاراتهم وثقافاتهم، ليصبحوا رموزًا للهوية الأفريقية في العالم.
وبحسب ما ذكر في موقع تازة بريس عام 2022، قال المدرب الدولي جوزيه مورينيو: “أطالب الفيفا بمنع اللاعبين الأفارقة من تمثيل دول أخرى غير دولهم الأصلية.”[1] وأضاف في تصريحاته التي وردت في “القاهرة الإخبارية” عام 2024: “أنا أحب اللاعب الإفريقي وأشعر أنه مخلص جدًا ونقي جدًا…”[2] وبهذا، شدد في تصريحاته على قدرة اللاعبين ذوي الأصول الإفريقية وإخلاصهم، مؤكداً أن اللاعبين الأفارقة سيكون لهم مستقبل مشرق بهذه الكفاءة العالية.
تُتداول مقولة للمدرب جوزيه مورينيو عن اللاعبين الأفارقة في كثير من المنصات، ونُشرت في صفحة “أهلاوي وكبار الكرة الإفريقية على منصة فيسبوك”، حيث يقول: “أريد من العالم ووسائل الإعلام أن تتوقف عن التلاعب بفكرة أن اللعب لأفريقيا ليس خيارًا جيدًا. يجب أن يتذكر اللاعبون الشباب أوطانهم ويختاروها.” من خلال هذه التصريحات، يشيد مورينيو بدور اللاعبين الأفارقة، كما يسلط الضوء على تأثير الإعلام في توجيه الرأي العام.
الهوية الأفريقية داخل الملعب وخارجه
لا يقتصر دور اللاعبين الأفارقة على جلب المهارات الرياضية، بل يمتد إلى نشر الثقافة الأفريقية في المجتمعات التي يلعبون فيها. يظهر ذلك جليًا عندما يسجل لاعب من أصول أفريقية هدفًا، ويحتفل برقصة تعكس هويته وثقافته. هذه اللحظات، بالإضافة إلى ما يُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، تُبرز الهوية الأفريقية بكل وضوح، سواء من خلال اللقطات داخل غرف الملابس أو خلال المباريات.
وفي السياق ذاته، لم تكن كرة القدم وحدها وسيلة لإبراز الهوية الأفريقية، بل لعبت الموسيقى أيضًا دورًا محوريًا في هذا المشهد، كما جسدته أغنية شاكيرا الشهيرة “واكا واكا[3] (حان الوقت لإفريقيا)”، التي لا تزال راسخة في الأذهان. فقد تجاوزت مشاهداتها 4 مليارات مرة على اليوتيوب، بالإضافة إلى ملايين المشاهدات على منصات أخرى. هذه الأغنية، التي كانت نشيداً رسميًا لكأس العالم 2010، لم تكن مجرد أغنية رياضية؛ بل تحولت إلى ظاهرة عالمية ترمز إلى الوحدة والتضامن، مرافقة للأجواء الحماسية التي اجتاحت العالم خلال بطولة كأس العالم في جنوب أفريقيا.
لقد أدّت المغنية الكولومبية شاكيرا هذه الأغنية التي أصبحت نشيداً للأمل والتفاؤل، وجسدت من خلالها جسراً ثقافياً بين الشعوب الأفريقية وباقي العالم. وكانت الأغنية مستوحاة من أغنية “زانجاليوا” التي أصدرتها الفرقة الكاميرونية جولدن ساوندز عام 1986م، وهي أغنية ذات جذور عميقة في ثقافة القارة الأفريقية وتاريخها.
كانت الأغنية الأصلية تُستخدم كنشيد حماسي وأغنية حرب، مما يجعلها ذات دلالات رمزية قوية تعبر عن الصمود والعزيمة الأفريقية. ومن خلال إعادة تقديمها للعالم في سياق كأس العالم، نجحت “واكا واكا، حان الوقت لإفريقيا، في إعادة تسليط الضوء على التراث الثقافي الأفريقي، مما أضاف للأغنية بُعدًا عالميًا تجاوز حدود كرة القدم.
الهوية الأفريقية في ريال مدريد: بين النجاح والتحديات
نأمل الانتباه إلى النقاط المهمة التي تخص اللاعبين من أصول إفريقية؛ حيث يمثلون نموذجاً جيداً للإنسان الإفريقي. ومع ذلك، يكمن التحدي في كيفية عكس هذا الإنجاز داخل القارة وتطبيقه بفعالية. لذا، فإنّ تحقيق هذا الوعي الإفريقي وبناء الهوية الإفريقية لدى اللاعبين يعد أمراً بالغ الأهمية.
بالتأكيد، يلاحِظ المتابعون والمهتمون بكرة القدم الإسبانية بوضوح وجود مظاهر العنصرية تجاه اللاعبين من أصول أفريقية. ويؤكدون على أنّ اللاعبين من أصول إفريقية في الدوري الإسباني يواجهون تحديات واضحة تتعلق بمظاهر العنصرية؛ حيث شهدت مباريات عديدة انتقادات عنصرية للاعبين الأفارقة، ما أدى إلى محاكمات لفرق وحكام متهمين بالسلوك العنصري. إنّ العنصرية تُعد واحدة من أكبر التحديات التي تواجه الرياضيين الأفارقة في إسبانيا، سواء من الجماهير في المدرجات أو في المجتمع الأوسع.
فعلى سبيل المثال، تعرض مهاجم ريال مدريد، فينيسيوس جونيور، للإساءة العنصرية عشر مرات على الأقل منذ بداية الموسم الحالي. رغم شكاوى اللاعبين من أصول إفريقية المتكررة من هذه الإساءات، فشلت الأندية والمديرون ووسائل الإعلام والاتحادات الرياضية في اتخاذ إجراءات حاسمة؛ بل اعتبر البعض أن الاحتفال بأهدافه هو سبب تلك الهجمات العنصرية، وهو تفسير يعكس تجاهلًا للمشكلة الحقيقية.
رغم ذلك، يواجه التمثيل الإعلامي للهوية الإفريقية في إسبانيا انتقادات متكررة؛ حيث يُعتبر في بعض الأحيان نمطياً ومحدوداً. فعلى سبيل المثال، كتاب الباحث “كريس لي“ حول السياسة وكرة القدم لعام 2024 “المتمردون: تاريخ كرة القدم ضد الفاشية” انتقد تصوير النادي ومعظم المشجعين الإسبان كفاشيين أو كاريكاتيريين.[4] بدلاً من ذلك، يُظهر الكتاب ريال مدريد كــ “نادي يتكيف مع المناخ السياسي”. وكان الكتاب يركز بشكل أكبر على تاريخ كرة القدم وعلاقتها بالفاشية في السياق الاجتماعي والسياسي، لكنه يناقش أيضاً كيف تُستخدم كرة القدم كحركة اجتماعية وتعبير عن الهوية.
من ناحية أخرى، يبرز فريق ريال مدريد كنموذج للنادي الذي يضم عدداً كبيرًا من اللاعبين الأفارقة أو ذوي الأصول الإفريقية الذين ساهموا بشكل كبير في تحقيق نجاحات النادي. هؤلاء اللاعبون يمثلون قصص نجاح ملهمة.
عند النظر إلى أصول اللاعبين من أصول إفريقية في فريق ريال مدريد، تجد أنّ بعضهم ينحدرون من دول تعرضت للاستعمار. على سبيل المثال، جود بيلينغهام، الذي يُعتقد أنّ والده ينحدر من أصول كينية، ووالدته ذات أصول بولندية، قد ارتبطت عائلته بكينيا؛ حيث قدمت مساعدات إنسانية هناك.
والجدير بالذكر أنّ كينيا كانت مستعمرة بريطانية سابقًا، مما يفسر ارتباط أسرة بيلينغهام بهذه الدولة. واليوم، يُعدّ جود بيلينغهام لاعباً بارزًا ويمثل المنتخب الوطني الإنجليزي.

في السنوات الأخيرة، زادت الأهمية المعطاة للهوية الوطنية، والفخر بين اللاعبين المنحدرين من أصل أفريقي. ويختار الآن العديد من اللاعبين الذين نشأوا في الخارج تمثيل بلدان أسلافهم بدلاً من بلدان ولادتهم أو بلدان إقامتهم الحالية. وقد تكون هناك دوافع شخصية أو عائلية وراء ذلك، مثل رغبة اللاعب في التواصل مع تراثه الثقافي أو احترام تراث أحد أفراد العائلة.
وبشكل عام، يعكس ميل لاعبي كرة القدم المنحدرين من أصل أفريقي للعودة إلى القارة أو اللعب بهوية أفريقية شعوراً متزايداً بالفخر والوحدة والموهبة في كرة القدم الأوروبية.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، اللاعب الدولي كيليان امبابي، الذي ينتمي والده إلى الكاميرون، ووالدته إلى الجزائر. اليوم، يُعَدُّ امبابي لاعباً فرنسيّاً في منتخب فرنسا، وقد شهدنا نجاحه الكبير في نهائي كأس العالم 2022م في قطر، وأدائه المتميز مع فريق ريال مدريد. وقد وصف مدرب الفريق كارلو أنشيلوتي مبابي قائلًا: “كيليان مبابي هو المهاجم الأفضل في العالم، والانطلاقات التي يقوم بها فريدة جداً”[5].
في عام 2023م، قام كيليان مبابي بزيارة إلى الكاميرون؛ حيث حظي باستقبال حافل يعكس عمق ارتباطه بجذوره الإفريقية. ويُعدّ مبابي، الذي يلعب حالياً لنادي ريال مدريد الإسباني، من أبرز اللاعبين ذوي الأصول الإفريقية الذين حققوا شهرة عالمية في عالم كرة القدم. وما يميز مسيرته أنه لا يزال في مرحلة الشباب، مما يمنحه فرصًا واسعة لتعزيز إرثه الرياضي وترسيخ هويته الأفريقية على الساحة الدولية.
وفي تصريح له بعد لقائه مع رئيس وزراء الكاميرون جوزيف ديون أنجوتي، قال مبابي: “إنه لشرف لي أن أكون هنا في بلدي الأصلي مع عائلتي وأرى الناس هناك. لقد أظهروا لي بعض الحب”، وفقًا لوكالة رويترز للأنباء.

أوريلين تشواميني ترجع أصوله إلى الكاميرون، وهو لاعب فرنسي شارك مع منتخب فرنسا في أكثر من ثلاث مناسبات، حيث قدم أداءً مميزًا، خاصة في كأس العالم 2022 في قطر. وأيضًا، إبراهيم دياز من أصول مغربية ويلعب في فريق ريال مدريد الإسباني.
فيرلاند ميندي من أصل سنغالي، وهو الآن يلعب في فريق ريال مدريد الإسباني وأيضًا هو لاعب في منتخب فرنسا. قال عنه المدرب أنشيلوتي: “ميندي هو أفضل ظهير أيسر في العالم”.
إدواردو كامافينجا، لاعب كرة قدم فرنسي من أصل أفريقي، يلعب في مركز الوسط مع نادي ريال مدريد في الدوري الإسباني. وُلد في أنغولا لأبوين كونغوليين، ويمثل المنتخب الفرنسي دوليًا. وفي حديث سابق لنيكولاس مارتينيز، مدربه السابق، لموقع “جول”، قال: “كنت أعرف قدراته، لكنني لم أكن أعتقد أن الأمور ستسير بهذه السرعة وأنه سيحقق هذا المسار الاستثنائي”.
ومن بين اللاعبين البارزين الذين قدموا أداءً قويًا في بطولة اليورو، يأتي في مقدمتهم أنطونيو روديجر. شارك روديجر كأساسي في جميع المباريات الثلاث التي خاضها منتخب ألمانيا على أرضه. وُلد روديجر في برلين لأب ألماني من أصل أفريقي وأم سيراليونية.
يعد لاعب ريال مدريد البارز، ديفيد ألابا، أحد أفضل الظهير الأيسر في العالم. ولو أنه اختار تمثيل نيجيريا، موطن والده من قبيلة يوروبا في أوجيري، لربما كانت قصته مختلفة تماماً.
أما عن أصول ألابا، فقد وُلد في ألمانيا وعاش في النمسا. هو ابن لوالد نيجيري وأم فيليبينية، وزوجته دنماركية، بينما ينحدر جده من الكونغو ويعيش حاليًا في إسبانيا، في حين تعيش عائلته في إنجلترا . ألابا مسيحي، بينما والده مسلم وأمه بوذية.
ويحمل جونيور فينيسيوس الجنسية البرازيلية ويلعب في المنتخب البرازيلي، ولكن في عام 2024 أطلق الاتحاد البرازيلي لكرة القدم حملة DNA للتحقيق مع اللاعبين، وكانت الحملة الأولى على فينيسيوس. والمثير للدهشة أن النتائج كشفت أن أسلاف فينيسيوس جاءوا من الكاميرون.
وربما يتم الآن دراسة أصول اللاعب البرازيلي رودريغو غوس، الذي يلعب في فريق ريال مدريد. ويضم الفريق لاعبين دوليين مثل إيدير ميليتاو، فينيسيوس جونيور، ورودريغو، وتبدو أصولهم وهويتهم الأفريقية واضحة تماماً.
يشارك في فريق ريال مدريد عدد كبير من اللاعبين الذين ينحدرون من أصول إفريقية؛ لكنهم اختاروا تمثيل المنتخبات الأوروبية، مما زاد من شهرتهم وقيمتهم السوقية بشكل كبير. ويُشار إلى اللاعبين المنحدرين من أصل أفريقي في أوروبا بشكل جماعي باسم “الأفارقة”. ومع ذلك، لا يمكن اختصار هوية كل لاعب في مجرد كونهم من أصول أفريقية،
إذ تتميز هوية بعض اللاعبين، مثل الفرنسيين والألمان والإسبان، بوضوح أكبر؛ حيث يُستدعى كل منهم على حدة كـ “فرنسي” أو “ألماني” أو “إسباني”. هؤلاء اللاعبين يُعرفون بشكل فردي أكثر، رغم أنهم يمثلون منتخباتهم الوطنية في سياقات جماعية.
ومن ناحية أخرى، عندما يُشار إلى اللاعبين الأفارقة، يكون الحديث عنهم بشكل أكثر شمولية، مما يعكس تفاعلهم الشخصي مع هويتهم الجماعية. ومع ذلك، فإن وصف اللاعبين الأفارقة كـ “كتلة واحدة” بدلًا من الاعتراف بفرديتهم وهويتهم المتنوعة يعكس استمرار الأنماط الاستعمارية في الخطاب الرياضي.
هذا يشبه الفكر ما بعد الاستعماري؛ حيث يتم التركيز على إعادة تعريف الهويات والأفكار في العالم السياسي والثقافي. على غرار ما يفعله اللاعبون الأفارقة الذين يدخلون أرض الملعب بحيوية ويعيدون تعريف اللعبة الجماعية، يُحدث الفكر ما بعد الاستعماري تغييرات في الأكاديميات وفي طرق التفكير المتمركزة حول أوروبا، ليجعلها أكثر شمولًا.
الهوية الإفريقية في كرة القدم بين العالمية والاستنزاف
انتشار اللاعبين الأفارقة في الأندية الأوروبية يثير جدلًا بين كونه فرصة لتمثيل إفريقيا عالميا أو استنزافا لمواهبها. فمن جهة، يمنح الاحتراف في الأندية الكبرى اللاعبين منصة عالمية؛ حيث يصبحون رموزًا للهوية الإفريقية، كما هو الحال مع ساديو ماني، ومحمد صلاح، وكيليان مبابي، الذين يعكسون ثقافة القارة في أكبر الدوريات. هذا التمثيل يعزز مكانة إفريقيا في كرة القدم، ويفتح الباب أمام استثمارات رياضية جديدة، كما يُلهم الأجيال الصاعدة في القارة بأن النجاح العالمي ممكن رغم التحديات.
لكن على الجانب الآخر، يشكل تجنيس اللاعبين الأفارقة في المنتخبات الأوروبية خسارة رياضية وسيادية للمنتخبات الإفريقية. عندما يختار لاعب مثل إدواردو كامافينجا (المولود في أنغولا) تمثيل فرنسا بدلًا من بلده الأصلي، فإن ذلك يحرم أنغولا من نجم عالمي قادر على تغيير موازين المنافسة في القارة. هذه الظاهرة تكررت مع دييجو كوستا (البرازيل إلى إسبانيا) ومنير الحدادي (المغرب إلى إسبانيا)، مما يعكس كيف تستفيد أوروبا من استقطاب المواهب الإفريقية بينما تظل منتخبات القارة في موقف أضعف.
رغم هذه المخاوف، يمكن النظر إلى الظاهرة من زاوية إيجابية واستراتيجية. فنجاح اللاعبين الأفارقة في أوروبا لا يعني بالضرورة خسارة إفريقيا لهم، بل يمكن أن يكون عاملا للتطوير الرياضي في القارة. كثير من هؤلاء النجوم يعودون لدعم بلدانهم الأصلية، سواء عبر المساهمة في البنية التحتية الرياضية، أو تمثيل منتخباتهم في البطولات القارية،
كما فعل ساديو ماني ببناء مستشفيات ومدارس في السنغال، أو جورج ويا الذي تحول إلى رئيس ليبيريا. الحل ليس في منع اللاعبين من الاحتراف عالمياً، بل في خلق بيئة رياضية جاذبة داخل إفريقيا، وتعزيز سياسات تحفيزية للاعبين للحفاظ على ولائهم الرياضي لمنتخباتهم الأصلية، مما يحقق التوازن بين العالمية والانتماء.
الهوية الإفريقية في كرة القدم بين التأثير الرياضي والمجتمعي
وفقًا لدراسة أُجريت حول كأس العالم لكرة القدم للرجال 2014، الذي نظمه الفيفا، فإن حوالي 65٪ من بين 736 لاعباً مشاركًا في البطولة كانوا يعيشون ويعملون خارج البلدان التي يمثلونها. بالإضافة إلى ذلك، مثّل 12٪ منهم دولًا لم يولدوا فيها، وهو ما كان يُعد حينها النسبة الأعلى في تاريخ البطولة.
واستمر هذا الاتجاه بشكل مشابه في كأس العالم 2018، مما يعكس التغيرات المستمرة في الهويات الوطنية والاندماج الثقافي من خلال كرة القدم.[6] وفي هذا السياق، تُعد نيجيريا الدولة الإفريقية الأكثر تصديرًا للاعبين إلى الدوريات العالمية، حيث يشارك 385 لاعبًا نيجيريًا في مختلف البطولات حول العالم، تليها غانا بــ 218 لاعبًا، ثم كوت ديفوار 227 لاعباً، مما يؤكد الدور البارز للاعبين الأفارقة في المشهد الكروي العالمي.[7]
وفي كتابه “مناظر كرة القدم الأفريقية: كيف غيرت القارة لعبة العالم”، ذكر المؤلف وأستاذ التاريخ الأفريقي بيتر أليجي أن الأفارقة قد أضفوا طابعاً ديمقراطياً على كرة القدم العالمية. قبل الستينيات، كانت كرة القدم في يد الأوروبيين وأمريكا الجنوبية بشكل كبير؛ ولكن بعد استقلال الدول الإفريقية، تغيرت طبيعة الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا). إنّ أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو العقوبات المفروضة على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا؛ حيث اسْتُبْعِدَتْ جنوب أفريقيا البيضاء من كرة القدم الدولية لمدة 30 عاما بفضل ضغوط الدول الأفريقية وحلفائها.[8]
“أنا سعيد بما يفعله ماني في مساعدة المجتمع السنغالي، وأتأثر حقًا بما يقدمه”
– فيكتور أوسيمين
وإلى جانب ذلك، يظل اللاعبون الأفارقة، مثل ساديو ماني، رمزاً للعطاء والمساعدة. فقد أسس ماني مؤسسات خيرية في السنغال، وقدم مساعدات كبيرة للشعب السنغالي تحديدا. وقد صرح اللاعب النيجيري فيكتور أوسيمين بأنه يتبع نفس النهج الذي اتبعه ماني في مساعدة المحتاجين، وأعلن عزمه على دعم المعاقين في أفريقيا. هذا يعكس ارتباط اللاعبين الأفارقة بوطنهم الأم، ويؤكد أن الهوية الأفريقية لا تزال حية في قلوبهم، حتى وهم خارج القارة.
كما أنّ فرحة كثير من الأفارقة في جميع أنحاء العالم كانت كبيرة بعد فوز المنتخب الفرنسي في كأس العالم 2018، خصوصًا في أفريقيا، بفضل وجود اللاعبين من أصول أفريقية في المنتخب الفرنسي. وكان هذا الفوز بمثابة فوز للقارة الأفريقية، مما أثار جدلًا في وسائل التواصل الاجتماعي حول التقدير الذي يجب أن يُمنح لفرنسا رغم أن معظم اللاعبين في المنتخب ذوي أصول أفريقية، في حين كان عدد اللاعبين ذوي الأصول الفرنسية فقط اثنين. لكن في النهاية، تظل الهوية الإفريقية هي هوية جامعة تشمل جميع اللاعبين ذوي البشرة السوداء في الفرق العالمية.
وإذا نظرنا إلى مساهمات اللاعبين من أصل أفريقي في الأعمال الخيرية في إفريقيا، نجد أنها تمتد إلى مجالات متعددة، حيث يساهمون في بناء المدارس والمستشفيات، ودعم برامج التنمية المستدامة، وتمكين الشباب من خلال مبادرات رياضية وتعليمية تهدف إلى تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية في مجتمعاتهم.
ويعد اللاعب السنغالي ساديو ماني نموذجًا رائعًا في هذا المجال، حيث قال: “لماذا أريد عشر سيارات فيراري أو 20 ساعة ماسية أو طائرتين؟ ماذا ستفعل هذه الأشياء لي وللعالم؟ كنت جائعًا وعليّ العمل، ونجوت من الأوقات الصعبة… ولعبت كرة القدم حافي القدمين، ولم أحصل على تعليم. لكن اليوم، بفضل كرة القدم، يمكنني مساعدة شعبي. لقد بنيت مدارس وملعبًا، ونوفر الملابس والأحذية والغذاء لمن يعانون من الفقر الشديد. أعطي 70 يورو شهريًا للأشخاص في المناطق الفقيرة في السنغال ليدعموا اقتصاد أسرهم. لا أحتاج للتفاخر بالسيارات الفاخرة والمنازل الفاخرة. أفضل أن يتلقى شعبي القليل مما أعطته لي الحياة”.
وفي تصريح آخر، قال اللاعب النيجيري فيكتور أوسيمين: “أنا سعيد بما يفعله ماني في مساعدة المجتمع السنغالي، وأتأثر حقًا بما يقدمه”. وأضاف: “أريد مساعدة الأشخاص من ذوي الإعاقة ليس فقط في نيجيريا، ولكن في جميع أنحاء أفريقيا”. واختتم قائلاً: “أنا جاهز لبدء مشروعي الخيري الخاص، وأرغب في فعل ذلك بكل ما في وسعي”.
من الهيمنة إلى الحرية .. كيف تحولت كرة القدم إلى أداة نضال؟
قدمت كرة القدم إلى الشرق الأوسط وإفريقيا في القرنين التاسع عشر والعشرين على يد المسؤولين الحكوميين خلال ذروة الاستعمار الفرنسي والبريطاني في المنطقة. كان الاستعمار البريطاني يستخدم الرياضة كأداة لفرض القيم والأخلاق البريطانية على الشعوب المستعمرة، بينما ساهم الإنجليز في تحويل كرة القدم إلى منظومة مؤسسية تمتد عبر المستعمرات.
ومع ذلك، لم تظل كرة القدم مجرد أداة استعمارية، بل تحولت إلى وسيلة فعالة في الحركات القومية الساعية للتحرر. ففي منتصف القرن العشرين، أسست الحركات القومية في مصر والجزائر والسودان دوريات كرة القدم ليس فقط لتعزيز التنافس الرياضي، بل أيضاً كوسيلة لتنظيم المجتمعات، وبث روح الوحدة والمقاومة ضد الاستعمار، مما جعل اللعبة جزءاً لا يتجزأ من قصص الاستقلال في القارة.
من بين أبرز الشخصيات التي أدركت الدور السياسي والرمزي لكرة القدم، كان الزعيم الغاني كوامي نكروما، الذي قاد بلاده إلى الاستقلال في عام 1957. وقد جسد نكروما هذه الروح التحررية بقوله: “أفريقيا قارة واحدة، شعب واحد، وأمة واحدة”، وهي مقولة تعكس كيف أصبحت كرة القدم في إفريقيا أكثر من مجرد رياضة، بل رمزاً للوحدة والهوية الوطنية.
العولمة والهوية ..كيف يحافظ اللاعبون الأفارقة على جذورهم؟
في سياق العولمة؛ حيث تسعى الثقافات والهويات إلى الحفاظ على وجودها وتأثيرها، تظل الهوية الإفريقية بارزة وواضحة من خلال اللاعبين من أصول إفريقية، الذين يعبرون عنها بجلاء في الأندية الأوروبية. من جهة أخرى، لا يزال الرياضيون الذين ينتمون إلى هويات الأفريقية يحتفظون بعلاقة قوية مع وطنهم. كما أظهرنا في حالة كيليان مبابي، وكذلك في حالة فينيسيوس جونيور، الذي أُعيد التحقيق في أصوله ليتبين أنه من أصل أفريقي. ولذلك، فإن التطورات في مجالي النقل والتكنولوجيا نتيجة للعولمة جعلت وجود هذه الهويات العابرة للحدود الوطنية واضحًا للغاية.
من المهم أن نقول إن وضع الرياضيين من أصل أفريقي، الذين هاجروا سابقًا كعمالة مؤهلة في صناعات مثل كرة القدم، قد تغير بشكل كبير اليوم. فهؤلاء الرياضيون، الذين أتيحت لهم الفرصة للعيش في البلد الذي هاجروا إليه في ظروف أفضل نسبيًا، أصبحوا اليوم جزءاً من مجتمع رياضي عالمي واسع.
وعلى وجه الخصوص، فإن اللاعبين الأفارقة الذين يلعبون في فريق ريال مدريد لم ينسوا هويتهم الإفريقية، وهذه الهوية تظل حاضرة في حياتهم مهما كان الأمر. العامل الأساسي في تشكيل هوية الإنسان الإفريقي هو لونه، ولذلك فإن الهوية الأوروبية لا تكفي بالنسبة لهم، لأنهم سيشعرون دائمًا بأنهم أفارقة من قبل الأوروبيين، مهما حاولوا الاندماج في المجتمع الأوروبي.
ديدييه دروجبا، الذي يُعد رمزاً للهوية الإفريقية في أوروبا، يتمتع بارتباط وثيق وروابط قوية مع جماهير تشيلسي. هو القائد الذي يتحمل المسؤولية في اللحظات الأكثر أهمية، وينقل ثقته بنفسه إلى زملائه في الفريق. كما أن الكتاب الذي ألفه “سيرة الممثل الحاسمة” يعكس هذه الشخصية الفريدة. حصل دروجبا على لقب أفضل لاعب كرة قدم أفريقي مرتين، وقد تعلم الجمهور الأوروبي الكثير عن الهوية والثقافة الأفريقية من خلال شخصيته.
علاوة على ذلك، هناك أكثر من 7 لاعبي كرة قدم من أصل أفريقي يلعبون في المنتخب الإسباني، ومن بينهم إيناكي ويليامز (من أصل غاني)، أنسو فاتي (من أصل غينيا بيساو)، أداما تراوري (من أصل مالي)، منير الحدادي (من أصل مغربي)، فيسينتي إنغونجا (من أصل غيني استوائي)، نيكو ويليامز (من أصل غاني)، ولامين يامال (من والد مغربي وأم غينية استوائية)[9]. هؤلاء اللاعبين يمثلون جزءًا من تزايد التنوع الثقافي في الرياضة الأوروبية ويعكسون الهوية الإفريقية في مختلف السياقات.
من بين 47 لاعباً فازوا بجائزة الكرة الذهبية، كان جورج ويا، النجم الليبيري السابق ولاعب ميلان الإيطالي، الوحيد من أصول إفريقية الذي نال هذا الشرف، ليصبح رمزًا بارزاً لتجسيد الهوية الإفريقية في كرة القدم العالمية. وفي عام 1995، حقق ويا إنجازًا تاريخياً بحصوله على الكرة الذهبية، ليصبح أول لاعب من خارج قارة أوروبا يفوز بهذه الجائزة، كما أنه لا يزال حتى اليوم اللاعب الإفريقي الوحيد الذي توج بها. لقد تجاوز ويا حدود المستطيل الأخضر ليصبح رئيساً لبلاده، مجسداً بذلك التأثير العميق للاعبين الأفارقة خارج الملاعب، ليس فقط كرياضيين، بل كرموز للهوية والتمثيل الإفريقي على الساحة الدولية.[10]
الخاتمة
من خلال كرة القدم، لا تقتصر الهوية الإفريقية على كونها مجرد عنصر ثقافي، بل تمثل أيضاً أداة فاعلة للتعبير السياسي والاجتماعي. لذا، فإن كرة القدم ليست مجرد رياضة، بل أداة للتواصل وإظهار الهوية على الساحة العالمية. اللاعبون من أصول أفريقية الذين يلعبون في ريال مدريد يمثلون تجسيدًا للهوية الأفريقية في قلب أكبر الأندية الأوروبية، حيث يبرزون ليس فقط بموهبتهم الرياضية ولكن أيضًا بتأثيرهم الثقافي والاجتماعي.
هؤلاء اللاعبون، من خلال مساهماتهم داخل الملعب وخارجه، يساهمون في تعزيز صورة أفريقيا في كرة القدم العالمية ويؤكدون أن الهوية الأفريقية تظل حية وقوية رغم العولمة. من خلال أسلوب لعبهم المميز وأثرهم الاجتماعي والإنساني في مجتمعاتهم الأصلية، يعكس هؤلاء اللاعبون ارتباطًا عميقًا بوطنهم الأم، حتى في ظل العولمة الرياضية.
إن مساهماتهم في الأعمال الخيرية والمبادرات التنموية، مثل تلك التي قدمها ساديو ماني وفيكتور أوسيمين، تُظهر أن الهوية الأفريقية تظل حية في قلوبهم، مما يعزز من فهمنا لدور الرياضة في تعزيز التماسك الاجتماعي والتفاعل الثقافي بين القارات. فمن خلال تحليل تاريخي وثقافي للاعبين الأفارقة في كرة القدم، يتضح أن هؤلاء اللاعبون ليسوا مجرد ممثلين رياضيين، بل هم سفراء حقيقيون للهوية الأفريقية التي تواصل التأثير على الرياضة والمجتمع على مستوى عالمي.
___________________________________
الهوامش والإحالات
[1] تازة بريس (2022) اللاعبين ذوي الأصل الإفريقي وافريقيا وكأس العالم بعيون (مورينيو جوزيه)
[2] القاهرة الأخبارية (2024) مورينيو: لا أستطيع الذهاب إلى إفريقيا بسبب حب الجماهير
[3] واكا واكا (بالإنجليزية: Waka Waka This time for africa)
[4] Chris Lee (2022) The Defiant: A History of Football Against Fascism. Pitch Publishing Ltd
[5] 20 يناير 2025: Bein Sports
https://www.facebook.com/share/p/1E4u849R5e/
[6] دكتور. إلكنور هاجيسوفتا أوغلو (2021)رحلة لاعبي كرة القدم الأفارقة بلا حدود https://mag.bilgi.edu.tr/tr/haber/afrikali-futbolcularin-sinir-tanimayan-yolculugu/
[7] الغد الرياضي (2023) تعرف على أكثر البلدان تصديرا للاعبي كرة القدم المحترفين حول العالم
[8] Peter Alegi (2010) African soccerscapes: How a continent changed the world’s game. Ohio University Press
[9] العربي الجديد (2024) لاعبون من أصول أفريقية يخطفون الأضواء في اليورو.. نجوم منتخبات أوروبا وقادة تألقهم
[10] ياسمين حسين (2022) من هو اللاعب الإفريقي الوحيد الذي توج بالكرة الذهبية؟