تقع جمهورية إفريقيا الوسطى في وسط القارة الإفريقية. يعتبر المسلمون فيها أقلية مسلمة، إذ يشكلون 15% فقط من سكان البلاد البالغ عددهم خمسة ملايين نسمة تقريبا. إلا أن البلاد تتمتع بثروة طبيعية هائلة، كالذهب، الماس، اليورانيوم، الحديد والنفط الذي لم ينقب بعد. بالإضافة إلى المطاط، الخشب، القهوة والمحاصيل الزراعية الأخرى. فضلا عن الثروة الحيوانية، الغابات الكثيفة ومخزون المياه.
جدول المحتويات
لماذا جمهورية إفريقيا الوسطى بالذات؟
انتقال السطلة في جمهورية إفريقيا الوسطى يمثل نقطة انعطاف كبير في سياسة البلاد؛ بل كان يتسبب في تخلف البلاد بشكل كبير. فمنذ استقلالها عن فرنسا في أغسطس عام 1960م، تغيرت فيها السلطة خمسة مرات كلها عن طريق الانقلابات العسكرية، أي بمعدل انقلاب واحد لكل عقد من الزمن (10 سنوات)، آخرها كان انقلاب الرئيس الْمُقال “ميشيل دوتوجيا” -القيادي الأول في حركة السيليكا ذات الأغلبية المسلمة- على الرئيس المخلوع “فروانسا بوزيزي” نصراني الديانة في مارس 2013م. والجدير بالذكر هنا، أن كل تلك الانقلابات كانت تتم بمباركة فرنسا وبالتعاون مع عملائها من رؤساء البلاد المجاورة كجمهورية كونجو برازافيل، جمهورية تشاد والسودان مؤخرا.
ونتج عن الانقلاب الأخير أزمات سياسية وكوارث إنسانية لم يتوقعها الساسة والإداريون المواطنون ولا القوى الدولية المراقبة للأوضاع. ومن ثم دخلت الدولة في دوامة من الصراعات والفوضى، وانزلقت الجماعات المتناحرة في الحروب الطائفية الْمُسَيّسة، وانعدم الأمن والاستقرار في جميع ربوع البلاد. وعلى إثر ذلك، أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرارا بحظر السلاح أو التسلح على جمهورية إفريقيا الوسطى، وذلك عندما ارتكب الجيش الوطني (FACA) جريمة قتل وتمثيل بجثة أحد المسلمين الذي ادُّعِيَ بأنه من عناصر السيليكا.
وفي عام 2014 أنشأت الأمم المتحدة بعثة عسكرية مكونة من جنسيات مختلفة لحفظ السلام. في العام 2016 انتُخِبَ “فوستين أركانج تواديرا” رئيسا للبلاد خلال انتخابات اتسمت بالصّوّرية أكثر منها انتخابات حقيقية؛ إذ كانت البلاد آنذاك غارقة في دوامة الفوضى، وأيضا معظم الأقطار (80% تقريبا) خارج عن سيطرة الحكومة المركزية التي كانت تتمركز في العاصمة وقليل من المدن الرئيسة فقط. أما الجزء الكبير من البلاد فكان -ولا يزال- تحت سيطرة التشكيلات المسلحة المختلفة، كمقاتلي السيليكا -ذوُو الأغلبية المسلمة-، وميلشيا الأنتي بالاكا ذات الاغلبية المسيحية (النصرانية)، بالإضافة إلى العناصر المجرمة الأخرى التي توافدت من دول الجوار وغيرها لتحقيق مآرب مختلفة مستغلة الوضع الفوضوي للبلاد.
الحضور الروسي في القارة الإفريقية
بعد سقوط الاتحاد السوفيّاتي في تسعينيات القرن الماضي خسرت روسيا حضورها الأفريقيّ في مجالات متعددة ولاسيما المجال العسكري. على الرّغم من عملها الدؤوب على اكتساب أصدقاء جدد في القارة الأفريقية خلال العقدين الماضيين، إلا أنّ جهودها كانت تصطدم غالباً بالمصالح الغربيّة الْمُنافسة تارة، وبالمصالح الأوروبية والفرنسية المستعمرة لكثير من الدول الأفريقية تارة أخرى. ولعلّ أبرز أمثلة الصدام؛ هو تدخّل حِلْف “الناتو” في ليبيا عام 2011، وإسهامه الحاسم في إسقاط نظام العقيد معمّر القذافي، مما حَرِم موسكو من عقود شملت قطاعات الطاقة والتسليح والبنى التحتيّة.
اليوم، بدأت تعود روسيا رويداً رويداً إلى إفريقيا من منافذ جغرافيّة مختلفة، وتبنت أساليب ومناهج تعاون يتداخل فيها النشاط الاقتصاديّ بالعسكريّ، والتعاون الحكوميّ العام بالخاصّ، مستفيدة ممّا يبدو تراجعاً للقوى الغربيّة والأوربية من ناحية، ومن ازدياد الصراعات الطائفية والإثنية والسياسية في كثير من دول القارة الأفريقية من ناحية أخرى.
وتمثّل إفريقيا الوسطى الآن جبهة العمل الروسية المزدوج. وفي هذا الإطار، يُلاحَظ تقارُباً متزايداً بين روسيا وإفريقيا في المجال الدفاعي العسكري في الآونة الأخيرة. فقد أبرمت روسيا بالفعل عدة اتفاقيات حول التعاون العسكري التقني- مع إمكانية التسلُّح- مع العديد من الدول الإفريقية. ففي العام الماضي، وقّع وزير الدفاع الروسي “شويغو”[1] على وثائق حول التعاون العسكري مع كلّ من النيجر، نيجيريا، وتشاد. وقبل ذلك، تم توقيع اتفاقيات مع الكاميرون، بنين، تونس، رواندا، موزمبيق، زمبابوي وغيرها.
وفي مستهل العام الجاري 2018، وُقّعت اتفاقيات للتعاون العسكري التقني مع غينيا، إثيوبيا، وتنزانيا. أما مع شركاء روسيا التقليديين في إفريقيا -كأنغولا مثلا- فلا تزال المعاهدات الموقعة في التسعينيات من القرن الماضي مفعّلة ومستمرة.
الحضور الروسي في جمهورية إفريقيا الوسطى والاتفاقيات المبرمة
تمتد جذور العلاقات الروسية الأفرو-وسطية إلى عقود من الزمن، حيث كانت مختصرة على العلاقات الدبلوماسية والمنح الرمزية في مجال الزراعة والصحة والتعليم، بالإضافة إلى بعثات التعليم العالي الذي كان ضمن الاتفاقيات السائدة بين روسيا وكثير من دول القارة من خلال برامج مختلفة ليس المقام مناسبا لذكرها.
وفيما يخص بعثات التعليم العالي تجدر الإشارة إلى أنه استفاد منه كثير من أبناء جمهورية إفريقيا الوسطى، أبرزهم الرئيس الأسبق الْمُقال “ميشيل دوتوجيا” وغيره كثر. إلا أن تلك العلاقة لم تكن مستقرة على وتيرة واحدة، إذْ تَفْتُر وتتلاشى حينا من الزمن، وتتقارب وتقوى حينا آخر بناء على متغيرات سياسية أو أحداث طارئة، إلا أنها بدأت تتصاعد بشكل ملفت للنظر منذ منتصف العام المنصرم، وتقاربت أكثر مع بداية العام الجاري.
ففي شهر يناير من العام نفسه، أبرمت اتفاقية ذات الطابع سابق الذكر نفسه بين روسيا وجمهورية إفريقيا الوسطى، ولكن هذه المرة تُوِّجت الاتفاقية ببنود خاصة تتماشى والأهداف المبطنة التي يراها الكثيرون من المراقبين الدوليين أنها مسار جديد للحرب الباردة بين روسيا وفرنسا في سياق بسط النفوذ الاستراتيجي والسيطرة على الموارد الطبيعية للبلاد والتحكم في مراكز الحكم والسلطة، وبين روسيا وبعض الدول الغربية الأخرى ككندا وأميركا -على سبيل المثال- من أجل السيطرة على موارد الطاقة من يورانيوم وماس وغيره. وكانت جمهورية إفريقيا الوسطى ميدان اللعبة الجديد، ومسرح التمثيليات المزدوجة.
عوامل تعزيز الحضور الروسي في جمهورية إفريقيا الوسطى
والغريب في الأمر، أن هذه الاتفاقيات العريضة والمثيرة للدهشة، برّرّها رئيس قسم الأنثروبولوجيا الثقافية بمعهد إفريقيا التابع لأكاديمية العلوم الروسية “دميتري بوندارينكو” بقوله: أن هناك عاملين مهمين لجعل روسيا تتجه إلى إفريقيا الوسطى. العامل الأول، اقتصادي، فـ” هذه الجمهورية غنية جدا بالموارد وخاصة اليورانيوم والمعادن الثمينة”، وذكر أن السياسات الاقتصادية في كثير من بلدان إفريقيا مبنية على علاقات شخصية، وهذا بدوره ينعكس سلبا على حالة الأفارقة المعيشية، ولكنه يتيح فرصا ثمينة وإمكانيات السيطرة للقوى الخارجية”. أما العامل الثاني الذي يجذب روسيا إلى جمهورية إفريقيا الوسطى خاصة، هو موقعها الجغرافي وتبوُّؤها قلب القارة السمراء.
لأجل هذا، ذهب كثير من المحليين السياسيين والخبراء الدوليين إلى أنه يستحيل على روسيا جّنْي أرباح من عمليات بيع الأسلحة خصيصا لجمهورية إفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، ولكنها يمكن أن تستفيد من الوصول إلى الموارد الطبيعية.
تزايُد التقارب الروسي الأفرو-وسطي
في الربع الأخير من العام المنصرم، وتحديدا في ديسمبر 2017، حصلت روسيا على إعفاء من حظر الأسلحة الذي فرضه مجلس الأمن الدولي على جمهورية إفريقيا الوسطى بعد شهر من تقديم الطلب، مما سمح لموسكو بتسليم حكومة بانجي مجموعة من الأسلحة بالإضافة إلى تدريب الجنود الأفرو-وسطيين على استخدام تلك الأسلحة، وذلك استجابة لطلب حكومة بانجي الذي وُجّه لروسيا كتفعيلٍ للعلاقات بين البلدين القديمة.
وهذه الخطوة وصفها فريق من خبراء الأمم المتحدة كجزء من جهد متعدد الجنسيات – بما في ذلك بعثة التدريب العسكري للاتحاد الأوروبي – لتعزيز قدرات القوات العسكرية والأمنية في جمهورية إفريقيا الوسطى. وفي تلك اللحظة اكتفت الإدارة الفرنسية من خلال وكالة الصحافة الفرنسية بالنقل عن مسؤول أمريكي لم تذكر اسمه قوله: “طلبنا الوحيد هو أن يقدم الوفد الروسي معلومات إضافية عن الأرقام التسلسلية للأسلحة … حتى نتمكن من تعقب الأسلحة المتجهة إلى جمهورية إفريقيا الوسطى”.
أما الإدارة الروسية فقد أخطرت لجنة مجلس الأمن التي تشرف على حظر الأسلحة المفروض على جمهورية إفريقيا الوسطى بتكليف 175 مدربا روسياً في مهمة تدريبية، إذْ تم تحديد 170 من المدربين المدنيين، في حين أن الخمسة الباقين كانوا ضباطا من الجيش الروسي وفقاً لتقرير صادر عن لجنة خبراء بالأمم المتحدة. وأفاد التقرير أن المدربون الروس شاركوا في مجموعة من المهام، بما في ذلك: مرافقة قوافل مواد البناء وتوفير الأمن للمستشفيات التي تبرعت بها روسيا؛ وتدريب ضباط الشرطة كشرط لتزويدهم بالأسلحة الروسية.
كما أنه تم تعيين مواطن روسي مستشارًا للأمن القومي للرئيس “تواديرا” وأن الروس يتعاملون مع الجماعات المسلحة لمناقشة قضايا تشمل نزع السلاح، التسريح، إعادة الدمج والمصالحة الوطنية، وتقاسم الإيرادات المستمدة من استغلال الموارد الطبيعية. وهناك أمر مريب ورد في التقرير يؤكد إصابة جنديان أفور-وسطيان وروسي واحد بجروح، حيث حُدّدت مهنة الروسي لاحقا بأنه مُعلِّم وذلك إثر هجوم شنه مجرمون مجهولو الهوية أثناء سفرهم الذي لم تحدد مهامه بدقة إلى جنوب البلاد.
وأفادت وكالات أنباء فرنسية وأخرى روسية إلى وجود مرتزقة تابعة لمجموعة فاغنر (Vagner) الروسية وهي تعمل بشكل يستدعي الشكوك والريب في هذا البلد الذي أنهكته الحروب الطائفية. وبناء على هذه الأنباء، تحركت بعثة صحفية مكونة من ثلاثة صحفيين روس، بغرض التأكد من هذه الأنباء من داخل البلد.
مجموعة فاغنر (Vagner) والحضور الروسي في جمهورية إفريقيا الوسطى
مجموعة “فاغنر” هي منظمة روسية شبه عسكرية؛ بل يراها البعض بأنها شركة أمنية عسكرية خاصة (أو وكالة تعاقد عسكرية خاصة). هناك جدل واسع في تاريخ نشأتها، لكنه في الغالب يُرَجّح إلى العام 2014. كما يُذْكر بأن مقاوليها شاركوا في صراعات مختلفة حول العالم، بما في ذلك عمليات في الحرب الأهلية السورية على جانب الحكومة السورية، وذلك في الفترة 2014-2015 سُجّل حضورهم في الحرب في “دونباس”- أوكرانيا لمساعدة القوات الانفصالية في جمهوريات شعب دونيتسك ولوهانسك المعلنة ذاتياً.
كما يرى فريق آخر أن فاغنر في الحقيقة هي وِحْدَة سِرّيّة تتْبع لوزارة الدفاع الروسية، تُسْتَخْدم في الصراعات الشائكة عندما تكون هناك حاجة لإنكار الحضور الروسي الرسمي. كما تُقَارن مجموعة فاغنر بشركة أكاديمي (Academi)، وهي شركة الأمن الامريكية التي كانت تُعرف سابقًا باسم بلاك ووتر (Blackwater).[2]
وخلال العام الماضي (2017)، وبعد ما أشارت تقارير إعلامية عديدة إلى أن مرتزقة “فاغنر” يعملون في جمهورية إفريقيا الوسطى، عزمت جهات مختلفة في روسيا وغيرها بإجراء تحقيقا حول الموضوع. في مارس 2018، زار مراسل لموقع “زنك” الإخباري الروسي منشأة يُقال إن شركة “فاغنر” تديرها خارج مدينة “كراسنودار” الروسية الجنوبية.
وأشار المراسل إلى أحد المحاربين القدامى العسكريين الذين يسكنون في البلدة التي يقع فيها المركز قائلاً إن مرتزقة “فاغنر” من المقرر إرسالهم “إلى إفريقيا” للقيام بمهمة “تدريب”. وبعد أسبوعين، ناقشت وزارة الخارجية الروسية علانية موضوع “فريق التدريب” البالغ عددهم 175 شخصا، قائلة إنهم أرسلوا إلى جمهورية إفريقيا الوسطى “في أواخر يناير – أوائل فبراير 2018، لكن دون الإشارة إلى ما إذا كان الموظفون المدنيون يعملون في شركة “فاغنر” أو مقاولين عسكرين آخرين.
وفي تموز/يوليو 2018 وصل إلى إفريقيا الوسطى ثلاثة صحفيين روس، وهم “اورخان جمال” مراسل حربي محترف، “ألكسندر راتسورغييف” وثائقي، و “كيريل رادتشنكو” مصور تلفيزيوني. وكانت مهمتهم تشمل تصوير نشاطات الشركة العسكرية الروسية الخاصة “فاغنر” التي تعمل بشكل غير رسمي ووجودها غير مشروع في هذه البلاد.
في الواقع، إنهم كانوا يتعاونون في عملهم؛ بل يتبعون لـ “مركز إدارة التحقيقات”، وهو مشروع أطلقه المعارض الروسي الثري والمقيم في المنفى ميخائيل خودوركوفسكي. إلا أنهم لم يتمكنوا من إنهاء مهمتهم، وتم اغتيالهم قرب مدينة سيبيت (Sibut) التي تقع في شمال شرقي العاصمة بانجي بنحو مئتي كيلو متر تقريبا، ونُسِبَتِ الحادثة إلى مُسلّحين مجهولين، بحسب ما أفادت به مصادر حكومية وأخرى روسية، وذلك في شهر أغسطس من العام نفسه.
وبالفعل، كانت هذه المنطقة تقع في حماية الجيش الوطني (FACA) وبإشراف الضباط الروس وفرقهم المختلفة، ولكنهم عجزوا عن تقديم أي تفاصيل حول ملابسات الاغتيال. أما الحكومة الروسية فاكتفت بقولها إن الصحفيين الثلاثة تم قتلهم من قبل لصوص أو قطاع طرق طمعا في ممتلكاتهم. لكن المتابعين للحدث عن كثب لم تقنعهم الرواية الروسية البتّهْ، وانتهى الأمر بصمت مريب.
في مساعي التعرف على نوايا تواجد الروس الحقيقية، ذكرت دورية Africa Intelligence في أواسط يوليو 2018، أنّ روسيا اتفقت مع حكومة “تواديرا” على تطوير منجم الذهب انْداسِيمَا “Ndassima” الذي يقع على بعد 60 كيلومترا شمالي مدينة بامباري (العاصمة الاقتصادية لجمهورية إفريقيا الوسطى سابقا). كان المنجم مملوكا للشركة الكندية AXMIN[3]، لكنها تخلت عنه عام 2007 بسبب انعدام الأمن، وسيطرت عليه المجموعات المسلحة لاحقا.
فالْمَنْجَم يقع في منطقة تسيطر عليها قوات السليكا منذ عام 2014م بعد إقالة الرئيس ميشيل دوتوجيا تقريبا وحتى اللحظة. فحكومة بانجي ارتأت في هذه الاتفاقية فرصة التخلص من سيطرت السيليكا، بينما الحكومة الروسية وضعت مصالحها الخاصة أولاً نصب عينيها متغاضية عن العوامل الأخرى التي قد يكون لها دور كبير في عدم تحقيق مطامعها.
في الوقت نفسه، تحركت حفيظة الإدارة الفرنسية، وبدأت شكوكها في نوايا التدخل الروسي تتأكد، مما دفعها أن تحرك مؤسسة إعلامها العملاقة “فرانس 24” وقامت بتصوير فيلما وثائقيا تستقصي فيه أحوال المنطقة ومقابلات للقيادات العسكرية والسياسية لحركة السيليكا في مدينة انديلي (Ndele) بالإضافة إلى المدنيين مسلمين ونصارى، وهو في الواقع استعراض لقوات السيليكا وإبراز لتنظيمها وقوة قبضتها على المنطقة وهو الأمر الغائب عن كثير من أبناء البلد أنفسهم[4].
وفي هذا الصدد، يرى الأستاذ محمد عبد الباسط إبراهيم[5] أن التقارير التي قامت بها قناة فرانس 24 هي رسالة واضحة من الإدارة الفرنسية لحكومتي بانجي وموسكو على أنها لن تسمح لهم بتنفيذ اتفاقيات تنقيب المناجم في المنطقة، وعليهم أن لا يتجاهلوا تلك القوات الموجودة في شمال وشرقي البلاد بالإضافة إلى الحضور الفرنسي. وبما أن مطامع قوات السيليكا التي تتقاطع ومصالح فرنسا نفسها حول هذا المنجم تحول دون تنفيذ الاتفاق الثنائي الروسي الأفرو-وسطي؛ فإن استفادة روسيا منه وتطويره مشروط بتوفير الأمن والاستقرار في المنطقة وهو مطلب ليس سهل المنال، وقد يستحيل تحقيقه على الأقل في الوقت الحاضر.
وما يثير الدهشة والفضول لمعرفة التفاصيل والحقائق في آن واحد، يُسْتَسَاغ الاستشهاد بكلام المحرر في مركز التحقيقات، وهو الرجل التنفيذي الذي موله الملياردير “ميخائيل خودوركوفسكي”: “إن الفريق وصل إلى المنشأة حيث اعتقدوا أن عناصر “فاغنر” متمركزين فيها، ولكن قيل لهم أنهم بحاجة إلى الاعتماد من وزارة الدفاع في البلاد، وهم في صدد الحصول على التصاريح اللازمة؛ تمت تصفيتهم في أول أغسطس 2018″.
وبدلا من تخفيض مستوى العلاقة بين البلدين خاصة بعد هذه الأحداث – حسب التوقعات – إلا أن التقارب بين البلدين أخذ منعطفا جديدا ووثيقاً. ففي شهر أغُسْطس (نفس الشهر الذي قتل فيه الصحفيين) وقّع وزيرا دفاع روسيا وجمهوريّة إفريقيا الوسطى اتفاقيّة تعاون عسكريّ على هامش معرض دفاعيّ قرب موسكو. ويمثّل هذا -الاتفاق التأطيري- خطوة إضافيّة في مسار تقوية العلاقة بين البلدين، ووصل إلى حدّ إسهام موسكو في توفير الأمن الشخصيّ لرئيس إفريقيا الوسطى وعقد جلسات حوار مع زعماء المعارضة والمتمردين الذين يسيطرون على أغلب مجال البلاد.
ففي نهاية شهر أغسطس من العام الجاري وقَّعّتْ جماعات سياسية وعسكرية متمثلة في قوات السيليكا والأنتي بالاكا اتفاقية سلام في العاصمة السودانية، الخرطوم. وذلك بمبادرة من روسيا والتعاون مع الرئيس البشير، وبتغييب دور الاتحاد الأفريقي والأطراف الفرنسية. ولعلنا نفرد لها مقالا حاصا قريبا. [6]
خلاصة واستنتاجات
لا شك أن التدخل الروسي في جمهورية إفريقيا الوسطى سيُحْدِث آثارا كثيرة، بل يُشَكِّل منعطفا جديدا في معطيات السياسة الخارجية الأفرو-وسطية، وقد يكون عاملا سببيا يزيد الأزمة المستعصية تعقيداً وغموضاً في بعض الأحيان. إلا أن الكاتب يفضل الاختصار على الملاحظات التي أشار إليها كثير من المراقبين الدوليين والمحللين السياسيين والتي تموج في قاع بحر الازدواجيات السياسية الخِضَمّ، أملا في الوصول بالقارئ إلى أهم خيوط الألاعيب المخابراتية، وفك بعض رموز طلاسم السياسات الدولية وتداعياتها على البلاد.
في الوقت الذي تُرَوِّجُ فيه روسيا لشحنات الأسلحة وجهود التدريب في جمهورية إفريقيا الوسطى باعتبارها محاولة فعالة لتحقيق الاستقرار في البلاد، فإن تقارير خبراء الأمم المتحدة التي تصدر دوريا تفيد بأن الأسلحة الجديدة التي حصلت عليها القوات الحكومية حَفّزَتْ المجموعات المسلحة والميليشيات المتمردة على تعزيز مخزونها الخاص من الأسلحة والعُدّة والعتاد. بالإضافة إلى قرار رفع الحظر عن شراء الأسلحة خلق حافزا لإعادة التسليح النشط للفصائل المختلفة، ولا سيما حركة السليكا. وأن ممثلي الميليشيات المسلحة أصدروا بيانات مختلفة مفادها: “بما أن الحكومة اختارت الخيار العسكري (التدريب وإعادة التسلح والمهاجمة) بدلاً من العملية السياسية والجلوس على طاولة الحوار، فإن الجماعات المسلحة بحاجة إلى الاستعداد التام للتصدي على أي هجوم حكومي أو محاولته”.
وما يؤكد هذا، هو تأزُّم الأمور واندلاع أعمال عنف خطيرة، شملت مناطق واسعة في ربوع البلاد بما في ذلك المناطق التي كان الوضع قد تحسّن فيها قبل فترة من الزمن، كالعاصمة بانغي ومدينة بامباري (Bambari) وغيرهما. فإلى أيّ ساحل من سواحل مناجم الطاقة الأفرو وسطية تَرْسُو سفينة الدّب الرّوسي، وإلى أيّ عُمْقٍ سياسي واستراتيجي في القارة الأفريقية يتُوقُ إليه الروس من خلال السيطرة والتحكم على جمهورية إفريقيا الوسطى ومواردها الطبيعية التي ما زالت الإدارة الفرنسية تعتبرها كجزء من إرث أجدادها القديم، ومخزونها الاستراتيجي؟!
المصدر: مقال منشور في موقع قراءات افريقية بتاريخ 4 نوفمبر 2018
[1] سيرغي كوجوغيتوفيتش شويغو. بالروسية (Сергей Кужугетович Шойгу) هو وزير الدفاع الروسي الحالي. من 20 يناير 1994 حتى 11 مايو 2012 تولى منصب وزير روسيا لشؤون الدفاع المدني وحالات الطوارئ والتخلص من عواقب الكوارث الطبيعية (وزارة حالات الطوارئ). ويكيبيديا. [2] موقع الجزيرة: http://www.aljazeera.net/encyclopedia/military [3] AXMIN هي شركة استكشاف الذهب مقرها في كندا مع امتلاك مشاريع في جمهورية أفريقيا الوسطى، واتفاقية الملكية مع Teranga الذهب في السنغال. لتركيز الرئيسي لـلشركة في هذا الوقت هو تطوير مشروع Passendro Gold في جمهورية أفريقيا الوسطى. بمجرد أن يسمح الوضع الأمني في الدولة بذلك. (انظر: http://www.axmininc.com/) [4] مقطع الفيلم الوثائقي على اليوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=1zNmDh976Zk&t=480s [5] محمد عبد الباسط إبراهيم: من أبناء جمهورية أفريقيا الوسطى، باحث ومتخصص في القضاء والسياسة الشرعية، مهتم بتطبيقات القانون المدني من خلال فقه الأسرة في الشريعة الإسلامية. الدرجة العلمية ماجيستير -الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة. [6] موقع روسيا اليوم (RT) عربي: https://arabic.rt.com/world/966637