إن رواية “زوارق الموت“، للكاتب عمر لي، – بأسلوبها الشيِّق الرقيق وقالَبِها المرْموق الموْموق – سادت فيها طوالَ حوماتها لحظاتُ الاكتئاب والقلق والفقر والجوع والعبوسة والموت…. حتى أن معجم القساوة هو أكثر حضورا من معجم الليونة، وأن المعجم الأول هو الذي يمثل حالة بطل الرواية وعائلته، هو بدوره يغدو ويروح يظعن ويحضر لارتياد فُرص سانحة يُفلِّل بها أعواد الفقر والجوع، أو بلغة سيميائية، يحقق برنامجه الأساس (العمل في الغرب) بمساعدة الزورق، مُصارِعا للبرنامج المضادّ (الموت).
ولا يجب أن نقرأ الرواية بمعزل عن المجتمع السنغالي وتقسيماتِه الطبقية بناء على الحالة العائلية وتوزيعات الثروة على غير العدل والتسوية. تمارسُ الرواية نقودا على أحوال المجتمع الراهنة وتربطها بظاهرة المغامرة إلى ركوب “زوارق الموت” انفلاتا من الهوامش وانخلاعا من العزل* عبر آلةٍ إقصائيَّةٍ.
تلتئِم في ثنايا الرواية قضايا اجتماعية تُشكل الجذور العميقة لظاهرة المغامرة في ارتكاب “زوارق الموت“؛ حيث تُعالَج هذه القضية من اقتلاع جذورها واستِئْصالِ أصولها، فالرواية لا تقتصر بعرض المشاكل فقط، وإنما تقترح حلولا ولكن بطريقة غيرِ مباشرة، وهي شأن الرواية، تُعبر بتلميح، وتخاطب بدون تصريح، وذلك هو سبب تلقيها قصد التمتع بطرحها الفني، لا للتعمق في أفكارها وقضاياها.
تُعد قضية “الموت” في رواية “زوارق الموت” الأساسَ الإبستيمي يحتكم في تدبير الخيط الدائري للرواية، تعطيها نسقا روائيا يمثل الفكر النقدي عند الروائي. وهكذا نحلل هذه القضية عبر محطتين: قاموسية وسياقية.
جدول المحتويات
المحطة الأولى في خطاب الموت: المكون الروائي لصورة الموت
1- الموت: نظر في لَفاظِمه (Lexèmes).
للكلمات في اللغة العربية وجهان: وجه اصطلاحي يتم توسُّمُه بتتبع مساراته السيميميَّة [1](parcours sémémiques) في استعماله داخل النصوص، ووجه معجمي قد قُرر في بطون المعاجم. ومَعْنِيُّ الورقة في هذه الوقفة هو استكناهُ أصول مادة (م. و. ت.)، وبناءُ تشابك بينها، وبين وظائفِها السياقية داخل الرواية.
- الأصل الأول: ذهاب القوة من الشيء[2]. سواءً القوة الحِسِّيَّة أو المعنوية.
- الأصل الثاني: الموت ضد الحياة[3].
- الأصل الثالث: السكون، يقال: ماتت الريح، أي سكنت[4].
إنّ مَجمَعَ هذه الأصول الثلاثة هو “غياب الشيء بعد شهود نقيضه*“. إن الموت بمداراته الثلاثة تُصادمُ الوجود وينبني على أنقاض مظاهره: القوة، والحياة، والسكون. نعمل في السطور الآتية استحضارَ هذه الأصول الدلالية في استعمالات الرواية لصورة “الموت”، وعقْدَ تشابكات بين المظهر الافتراضي[5] (المعنى المعجمي) والمظهر التحقيقي[6] (المعاني المتحققة في الرواية).
2- المسارات الصورية للموت: تشكيلات روائية:
إن جميع صور الموت في الرواية تُعكس نوعا من الجمود والركود واللاوجود؛ فالذي يعيش في مجتمعه كأنه لم يكن قد مات وجوديا، والذي قد انخلع من ثقافته وتَثقَّفَ بثقافة أجنبية قد مات ثقافيا، والذي نُزِّعت روحه قد ذاق الموتَ الحقيقي. فجميع المُواتُّ الثلاثة هي التيمة الحاكمة للرواية، والتي تحضر صورتُه في جميع القصص والنُّكَت واللطائف والأضحوكات والمُبكيات المَرويةِ في طوامير الرواية.
2.1. الموت الاجتماعي
ثمة علاقةٌ في المجتمع السنغالي بين الثراء المادي والوجود الذاتي، يكفي الإنسان ذُلًّا واحتقارا أن يكون مُعسِرا. ففي نظرية “الجدلية التاريخية” لكارل ماكس طبقتان: البرزواجية والعاملة البائسة، فالطبقة العاملة دائما مهمَّشَةٌ لدرجة أنها كالأموات في الاعتبار والاستئناس بوجودهم.
ليست ظاهرة ركوب الزوارق إلا محاولة الانتعاش والحياة مجددا، لذلك يكون مناطُ الاختلاف الفقهي في هذه الظاهرة، هل المغامرون ألغوا أنفسهم في التهلكة عمدا؛ فيكون بذلك بمثابة انتحار، أم أنهم قد وعوْا بما يفعلونه، فلم يهلكوا أنفسهم عمدا، بل أرادوا تحسينَها وتمجيدَ أحوالها.
إن الأموات الاجتماعيين ليس لهم وجود في المجتمع، ولا لهم يد طولى في الأمور ذوات البال، لا يُعتبَرون حين عقْد العقود ولا في حلِّها، يخسرون في المنافسة، ويُغلبون في المنازعة، يجدون أنفسهم مُنهزمة أمام سيادة الأغنياء الموسرين، مما يدفعهم إلى ابتغاء ترميم أحوالهم عن أي طريق متاحة مهما كان نوعها؛ لذلك يرى أغلبهم أن طريق البحر أسرع من استعادة الشخص اعتبارَه في المجتمع، ولكن ساء زعمُهم، وذلك أن ذلك البحر هو موتُهم الثاني وهو الموت الحقيقي؛ الذي يقع عبر طرائق شتى، أفجعُها الموت الذي سببُ وقوعه مِن يد من وقع فيه؛ أي هو من أهلك نفسه.
2.2. الموت الحقيقي
يُعتبر الموتُ العائقَ الأكبر والبرنامجَ المضاد لبرنامج المهاجرين عن طريق البحر؛ الذي ينبني أساسه على تحقيق الرثاء المادي والرخاء المعيشي، وبعد تحقق هذا البرنامج يحيوْن مجددا في المجتمع حياة حقيقية. لكل من هذين البرنامجين (يحمل البرنامجَ الأساس المهاجرون، ويجلو البرنامجُ المضاد في الموت) مساعدان يعينانهما على نجاحتهما؛ إذا كان مساعد البرنامج الأساس هو عبورُ البحر والوصولُ إلى الغرب للعمل هناك، فالذي يساعد البرنامج المضاد على تخييب البرنامج الأساس هو البحر.
التصق البحر بالموت في الرواية إلى درجة يمكن تبادلهما في نفس الموقع، فتسربت بذلك رَهْبَةُ الموت ومهابتُه إلى رحابة البحر ونضارته؛ فامتزجت في طياته السِّعة والضِّيق، النعومة والخشونة، الراحة والقلق، الحياة والموت. وإن البحر بمثابة البرزخ باعتباره الحائلَ بين الحياة (الاستمتاع بنُضر الحياة في الغرب) والموت (العزل والتهميش).
يمكن القول على وجه أشمل إن المنطق الحاكم لسيرورة الرواية الضامن لسياجه ومصاره هو ثنائية الحياة/الموت، ليس فقط على مستوى المعجم (مثل: الارتياح والاكتئاب، الغنى والفقر، الشبع والجوع، البشاشة والعبوسة)، وإنا أيضا على مستوى المعنى العام الذي بُنيت عليه الرواية، وذلك أن بطل الرواية ميْت (أعني الموت الاجتماعي) يحاول أن يُبعثَ ويحيا مجددا.
إن بطل الرواية، وهو فوق البحر، أمامه مآلان، إما أن تخيب آمالُه وتذوبَ طموحاته تحت البحر فيذوقَ مرارة الموت الحقيقي، أو أن ينجوَ ويجتاز سطوَةَ البحر وبطْشه فيذوقَ طعم الحياة الرحْبة في الغرب. ولكن ما يشبه الحياة فهو موت آخر، سنفصل الحديث فيه في الرسوم الآتية.
2.3. الموت الثقافي (الاستبداد الثقافي)
إن “السنغالي الذي كان مومنا بقيمه وثقافته، سيسافر إلى أوروبا فيصبح غربيا أسود[7]” ومعلوم أن الثقافة هي الإنسان، هي هويته التي تميزه عن الأناسيِّ الآخرين، حينما ينخلع منها معنى ذلك أنه قد تخلى عن هويته. وفي هذا المعنى، لا يوجد فرق بين “الثقافة” و “الهوية الجماعية*“؛ لذلك منزلة الثقافة عند الإنسان كمنزلة الروح عنده، يموت حقيقيا بنزوح الروح، كما يموت ثقافيا بتجرده عن هويته وعاداته*.
إلا أن الأمر لا يقصر على الانتزاع من الثقافة فقط، إذْ إن الناس جُبلوا باتباع سبيل معين في معاملاتهم وأكلهم ومحادثاتهم ولباسهم….، وفي طريق العيش بشكل عام، ينضوي ضمن ثقافة تنظمه وتعطيه طِباعا معينا؛ لذلك من النادر أن يظل إنسان غيرَ منتسب إلى إحدى الثقافات، المهِمُّ أن تكون الثقافة التي تدير عيْشَه متناسقة مع طبيعة المحيط الأصلي؛ أي أن تكون الثقافة التي طُبع بها. ولذلك سرعان ما يتثقف الإنسان بثقافة بديلة فور تعرِّيه عن ثقافته المطبوعة به، وهو بذلك يكون ميْتا ثقافيا. ربما لا عيب في التثقف المؤقت لغرض التكيف مع الواقع، وهو المطلوب – من المنظور الإنساني – لتحقيق العيش المشترك.
يبدو أن المهاجرين عن طريق الزوارق يكون النجاح عدوا لهم؛ يريدون الانفلات من مأزق الحياة العابِسة فيقعوا في مأزقيْ الموتِ المؤلمِ والثقافةِ المُعْريَةِ.
يمكن قصر الكلمات المفصَّلَة في المُواتِّ الثلاثة وبيانُ مسارها الصوري في الرسم الآتي:
الموت الاجتماعي |
الموت الحقيقي |
الموت الثقافي |
الخمول الوجودي في المجتمع | الغرق في البحر المفضي إلى الموت |
التخلي عن الثقافة الأصلية والتقمص بالثقافة الأجنبية
|
لا نضع هذا الجدول هكذا فحسب؛ وإنما نستثمره في المحطة الثانية الموالية.
المحطة الثانية في خطاب الموت: مكوَّن البنية العميقة لمسارات صور الموت
حددنا في المحطة الأولى النواة المعجمية لصورة الموت، ثم رصدنا مساراتِها السيميمية في الرواية دون التطرق إلى سمات كل منها، وإبانةِ مَجمَعِ التقاطع والتمايز بينها، فمرام الورقة في هذه الأسطر تفصيل هذه النقاط.
تتحقق تشكيلة مسار “الموت الاجتماعي” في صور مختلفة مثل: الغياب/+الخمول/+اللاوجود الاجتماعي/+فقدان الصوت في الأمور ذوات البال، بينما صور مسار “الموت الحقيقي” تتألف من مثل: انفصال النفس عن الجسم/+فقدان الشعور الحسي، وتتكون صور مسار “الموت الثقافي” من مثل: التخلي عن الثقافة الأصلية/+التحلي بالثقافة الأجنبية.
إن كل هذه الصور المختلفة المُشكِّلة للمسارات السيميمية الموزَّعة في جميع مراحل الرواية يتجه لَأْمُها كلُّه إلى حالة “السكون” الذي من معاني “الموت”. وإن بنية الرواية قائمةٌ رسومُها على الفقر والضير والعبوسة والعزل…
ومن هنا نرسب فوق هدوء البحر محققا آمالنا، غيرَ منعزَلين في المجتمع، ولا مقتولين ثقافيا.
الهوامش والإحالات * - لا بد من تمييز هذه اللفظة عن مُحاقِليْها "الانعزال" و "العزلة". فالانعزال هو عزلة إرادية قصد الانفصال عن المجتمع مثل ظاهرة النسك والزهد. والعزلة هي موقف اختياري محقق بقناعة فكرية لا تُعطل الانتماء الاجتماعي ولا الأسري. وأما العزل يحيل على عزلة لا إرادية عبر آلية الإقصاء التي تشمل الإبعاد والنبذ والفصل والحبس والنفي والتهجير والطرد. ينظر: رقيد محمد، بِلْية القراءة في زمن كورونا ضمن كتاب جماعي: خطاب الجائحة رؤى ومقاربات، من تنسيق محمد الفرجي-عبد اللطيف عادل-هشام فتح، مؤسسة آفاق، مراكش-المغرب، ط1/2020م/ص: 22. [1] - حضري جمال، سيميائية النصوص، عرض وتطبيق منهجي، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1/2015م/ ص : 50. [2] - ابن فارس أبو الحسين أحمد، معجم المقاييس في اللغة، تح شهاب الدين أبي عمرو، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1/2011م/مادة (م. و. ت.). [3] - الجوهري أبو نصر، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تح أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين-بيروت، ط1987م/مادة (م. و. ت). [4] - ابن منظور محمد بن مكرم بن علي أبو الفضل جمال الدين، لسان العرب، دار صادر-بيروت، ط3/1414/مادة (م. و. ت). * - إن النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان أبدا، فهما متنازعان فيما بينهما مثل: الحياة والموت. بينما الضدان لا يجتمعان ولكن قد يرتفعان لوجود كلمات أخرى ك "الدفء" حين اجتماع الحر والبرد. [5] - حضري جمال، سيمائية النصوص عرض وتطبيق منهجي، مذكور، ص: 50. [6] - نفسه، ص: 51. [7] - في الرواية، ص: 115. * - كلاهما موروث من الذاكرة الجماعية. * - إن التثقف بثقافة أجنبية ليس التكيف والمساوقة للواقع المعاش فيه.