تُعدّ رواية رسالة طويلة نموذجا بارزا للتعبير عن النسوية في الأدب السنغالي، إذْ تتناول بشكل مثير ومستفيض وضع المرأة في المجتمع السنغالي وتسلط الضوء على مكانتها وحقوقها. ومن خلال تلخيص رواية رسالة طويلة جدا الرائعة، يستطيع القارئ الاستمتاع بروعة الأدب السنغالي والتعرف على مدى تأثير النسوية في المجتمع ولو بشكل نسبي. ولم يتمحور الكلام حول رواية رسالة طويلة جدا فحسب، بل تطرق أيضا إلى نسوية الكاتبة مريام با، نفسها، ودورها في دفع عجلة النسوية في السنغال. وبهذا تكتمل الخطوط الأساسية للمقال.
جدول المحتويات
مقدمة
ظلّ الأدب الإفريقي يتعاطى مع الواقع المجتمعي، يستوحي منه، يبلوره، يخضع له، من دون أن يقدر على الانعتاق منه والعيش بمعزل عنه. وكان الزّنوج الذين عايشوا الحضارة المصريّة القديمة يرسمون آلهتهم، ويعبّرون عن واقعهم في نقوشهم، وكانوا دقيقين في اختيار اللّغة واللون المناسبيْن. ولعلّهم لم يهملوا اللّون الأسود الذي كان يعبّر عن أصالة الحضارة الزّنجيّة المصريّة -على حدّ أطروحة فرعون الثّقافة الإفريقية الإفريقية البروفيسور شيخ أنت جوب– وإذا كان “عبد الرحمن شلقم” يلحّ على دور الفنّان أو الأديب في المجتمع الإفريقي واعتباره ناطقا رسميّا لأمّته.
فإنّ كلّ هذا لا يعني أنّ الأدباء أو الفنّانين لم يغفلوا عن بعث الثّورة في نفوس المستهلكين وحملهم على تبنّي رؤى جديدة تعمل على دحض بعض التّقاليد وتدعو إلى اتخاذ خطوات جادّة نحو التغيير… وإذا كان “عثمان سمبين” من الأدباء السنغاليين الثوريين؛ فإن “السيدة مريام با” في روايتها الشهيرة كانت كذلك ثورية بالاتجاه المعاكس. ولعلنا سنتطرق إلى وضع المرأة في الثقافة السنغالية لنلمس مدى عمق الثورة المريامية.
وضع المرأة في المجتمع السنغالي
يتكوّن الشّعب السّنغالي من قبائل مختلفة تحمل كلّ واحدة منها هويّتها وثقافتها وَتقاليدها رغم وجود القواسم المشتركة بين كثير من هذه التّقاليد. ولعلّ القاسم المشترك يمثّل بقايا التراث الزنجي قبل هجرة هذه القبائل من مصر إلى داخل القارة الإفريقية وقبل امتزاجهم بالثقافات الأخرى وتأثرهم بها، وقد أسهب “هوبير ديشان” في ذكره تلك الثقافات الضاربة في العمق والتي تكاد توجد في كثير من القبائل الإفريقية.
ومنها إله الماء، وتكاد هذه الأسطورة تجد مكانها في الثقافة السنغالية؛ حيث يعتقد بعضهم بإله الماء، إذْ يقوم بحماية الماء والذّبّ عن السكان ودرئ الأشباح المضرة عنهم، بَيْد أننا نلاحظ أنهم كانوا يؤنثونه ولا نكاد نجد إله الماء إلا على اسم امرأة، مثل: “مام كُمب كَسْتيل” مما يعني بالضرورة أن المرأة في هذه الثقافة القديمة لم تكن ضعيفة ولا سلبية، إنما كانت تنافس الرجال، وتتخذ لنفسها حضورا وهيبة عنيفين. ثم إن الأمومة كان لها دورها القويّ في هذه المجتمعات، حيث نجد أن وريث العرش لا يكفيه أن يكون من صلب الملك ليرث ملك أبيه، إنما يشترط عليه أن تكون أمّه من النسل النّبيل.
وفي مملكة كجور كان ثمّة سبع أسر نبيلة، هي التي تُرْضِع الملوك وتنجبهم؛ بل كان ابن الأخت يحتلّ من المكانة ما لا يحتلّها ابن الصّلب في بعض القبائل السّنغاليّة. وكان للأمّ حقّ إضفاء اسم آخر على ولدها كما لو أنّ الولد كائن مشترك بين الأبوين. بل كانت الطّبقية أحيانا تتخذ مسارها اعتمادا على الأمّ؛ فيُعتبر الابن عند اختلاف طبقتي الأبوين من جنس طبقة الأمّ، ولعلّ كلّ هذه المعتقدات كانت راسخة قبل أسلمة هذه القبائل.
ولقد أخذ وضع المرأة طابعا جديدا أشدّ قسوة؛ حيث اعتُبرت المرأة مأوى للرّجل وملجأ وسندا، وكان على الرّجل أن يتزوّج كي يكمل رجولته، ويبدي سلطته. تلك السّلطة المتطرّفة التي كانت تئد كثيرا خيارات المرأة وحرّيّتها. وكان على المرأة أن تصطنع الخضوع، ذلك الخضوع الإيجابي الذي تُبْديه المرأة بكلّ أمل وفرح وفخر؛ فكانت تزعم أنّ عليها أن تعاني وتصبر لترزق بذريّة طيّبة.
لم تكن المرأة تفكّر في الثّورة بقدر ما كانت تفخر بهذا الخضوع، ولعلّ هذا هو السبب في أنّها لم تكن تتعّلم إلا بعض الأبجديّات، ومن ثّم تأخذ في تعلّم الأعمال المنزليّة وتتدرّب عليها حتّى إذا كبرت استطاعت أن تقوم بأمر البيت.
وبعبارة أدق، بأمر الرّجال، كان الرّجل يتعلّم العلم والعمل وإذا بلغ الرّشد اختار له أبوه بنتا من العائلة، وكانت السّلطة الأبويّة تفرض على المرأة الدخول في الزّواج بدون مناقشة. وكان الزّوج يهتمّ بالإعالة، فيما تهتم المرأة بالاعتناء بالزوج وعائلة الزوج بمن فيهم أخواته وغنمه، وكان المجتمع رغم كل هذا متماسكا مفعما بالعطاء، ولم يكن ثمة ثورات قوية تحاول الانعتاق من هذه التقاليد.
رسالة طويلة جدا
رواية رسالة طويلة جدا هي نصف أوتوبيوغرافية، كتبت بالفرنسية سنة ١٩٧٩، وقد ترجمت إلى لغات متعددة وحازت على جوائز عالمية، وتعتبر هذه الرواية من أشهر الروايات الإفريقية التي تناولت النسوية. ولدت السيدة مريام با بدكار سنة ١٩٢٩ وتوفيت سنة ١٩٨١ وكان أبوها وزيرا في الحكومة، وقد تربت عند أجدادها من جهة الأم بعد وفاة أمها. تعلمت في المدارس الفرنسية في اللحظات التي كانت تختلف فيها إلى المدارس القرآنية.
ملخّص رواية رسالة طويلة جدا
تتخذ رواية رسالة طويلة جدا طابع الرسالة؛ لتبدأ بطلة الرواية -رماتولاي- في حكاية معاناتها العميقة من جراء زوجها الذي أعرض عنها بعد زواجه بصديقة بنتها. وكانت قد عاشت مع زوجها زهاء خمس وعشرين سنة، وقدمت له عيالا كُثُر. أعرض عنها زوجها ليعيش عيشة مِلْؤُها الرفاهية مع امرأته الجديدة، وفي المقابل كانت الرسائل موجهة إلى “أيساتو”، صديقتها التي ذاقت مرارة الظالمة.
بَيْد أنها لم تسلك طريق الصبر بقدر ما خرجت من الزواج لتعيش حياة مغايرة. وفي ظل هذه الأحداث التي تضج بالمعاناة والاضطهاد، لمست الروائية تلك الذكورية الغاشمة لتنظر إلى المجتمع السنغالي – على نحو لا شعوري-بعيون غربية، شأنها شأن أكثر الكتاب المستعربين والمتفرنسين الذين استحوذت عليهم ثقافة اللغة التي يستهلكونها.
نسوية مرياما با
يقصد بالنسوية مجموعة من الحركات الاجتماعية والسياسية والأيدولوجيات التي تهدف إلى تعريف وتأسيس المساواة السياسية والاقتصادية والشخصية والاجتماعية بين الجنسين.
ولقد استطاعت الكاتبة مرياما با من خلال هذه الأحداث أن تتناول موضوع النسوية على صور مختلفة ضمنتها روايتها “رواية رسالة طويلة جدا” يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
- تحكّم الأولياء على خيار بناتهم عند الزواج؛ حيث وَجدت “رماتولاي” نفسَها ضغطا كبيرا من قبل أوليائها الذين كانوا يقنعونها على الزواج برجل آخر.
- تحكّم عائلة الزوج على حياة المرأة المتزوجة؛ حيث يتوجّب على المرأة أن تنصاع لكل فرد من أفراد الأسرة، وأن تتنازل عن شخصيتها ومالها وكرامتها لخدمتهم، وإذا لم تحترم المرأة هؤلاء الأفراد فإنها لن تجد من يكون بجنبها عندما يموت زوجها.
- أثر الطبقية ودورها في الحد من حرية المرأة، فهي لا تقدر أن تفتح قلبها إلا لمن يشاركها الطبقة، وإذا حدث أن تزوجت برجل أرفع منها طبقة فإنها لن تجد الراحة في حياتها، ومن الممكن أن تقوم عائلة الزوج باختيار امرأة أخرى تحل محلها.
- الحاجة الملحّة إلى نقد التقاليد القديمة والخرافات التي تسعى إلى استعمار المرأة وجعلها آلة في يد الرجل، إضافة إلى الانعتاق من النصائح التي تثبط المرأة وتمنعها من الثورة وتدعوها إلى الصبر وإلى التفكير في عاقبته الدسمة.
- نطرة المجتمع في عمل المرأة وكيف أنهم يريدون من المرأة أن تتولى أمر الإنجاب من دون أن تفكر في دفع عجلة الوطن.
- ضرورة الاستفادة من المدرسة الجديدة للاطلاع على الحضارات الأخرى؛ لكن من دون مجّ الثقافة الإفريقية القديمة، وكفر بالتقاليد والأعراف كفرانا مبيناً.
- إعادة النظر إلى كل من الطلاق والزواج وتعدد الزوجات والإنجاب ودور المرأة في المجتمع ومواهبها وقدراتها ومواهبها.
- ضرورة إشراك المرأة في الأعمال السياسية بما فيها البرلمان والتخطيط في الأمور التي تخص النساء.
- الإرث العنيف الذي تلقاه المرأة بعد وفاة زوجها، حيث تجد أن الرجال رغم وجع الموت يفكرون كثيرا في النيابة عن الميت.
وثمة إشارات أخرى قوية حول تضارب الثقافات ودور المدرسة الغربية وطريقة التفاعل معها، وضرورة إعادة ترتيب الحياة، والبدء من الصفر، والبُعْد عن الاتكائية، والاهتمام بالأسرة، كذلك نلمس فيها بُعْداً إنسانياً يتجلى في هذه الصداقة العميقة وفي الأمومة العنيفة، وفي الوازع الديني الذي يطفح بين الفينة والأخرى.
بيد أننا حتى وإن وجدنا فيها بعض المقاطع في “رواية رسالة طويلة جدا” والتي تشي إلى ضرورة الاحتياط عند تشرّب الحضارة الغربية وعدم الانجذاب الكلي نحوها؛ فإننا نجد أن هذه النسوية كانت مسكونة بالحضارة الغربية مُهْمِلةً هذا البعد الجميل الذي تتميز به الثقافة السنغالية؛ بل لا نكاد نجد لمساً عميقا وصادقاً لمغزى هذه التقاليد التي جاءت لحفظ التماسك الاجتماعي.
الخاتمة
تعتبر رواية رسالة طويلة جدا التي كتبت إثر الاستقلال تجربة ثرية وتعبيرا عن رؤية السنغالي المثقف باللغة الفرنسية في تلك الفترة، وليس من التجاوز إذا قلنا بأنها امتداد قويّ للمثقّفين بتلك اللغة في عصرنا الحاضر، وليس غريبا أن يكون كذلك لا سيما إذا أدركنا أن رواية رسالة طويلة جدا من الروايات المبرمجة في المدارس السنغالية. وتعتبر النسوية سلاحا عند بعض المثقفين، محاولة منهم في الحدّ من السلطة الذكورية أو الأبوية، وقد عملت على هدم معظم التقاليد، وأسهمت كذلك في نشر فوضى عارمة على جسد المجتمع السنغالي.
وتأتي خطورة رواية رسالة طويلة جدا كونها نُسخت من سياق زمني ومكاني مختلف (الغرب) إلى سياق زمني ومكاني آخر (السنغال) مما أدى إلى رفض عنيف من قبل المحافظين لا سيما المتطرفين منهم. ولعلنا لا نمجّ بعض مظاهر النسوية التي تتناغم مع مقاصد الإسلام، ولا نكون مع المصابين بالنرجسية الحضارية.
تلك النرجسية التي تجعل المرء يتشبث بالتقاليد، ولا يجرؤ على إعادة النظر فيها ظنا منه إمكانية وجود جيل مثالي لا يطاله الخطأ والتطرف. وبما أنّ الأدب الإفريقي ظل واقعيا وثوريا، فقد استطاعت “السيدة مريام با” بروايتها (رواية رسالة طويلة جدا) الخالدة أن تجسّد الواقع السنغالي وتثور على بعض التّقاليد التي كانت تحدّ من حرية المرأة وخيارها، وتوسّع في سلطة الرجل وتحكّمه.
اقرأ للكاتب أيضا: الرواية السنغالية العربية: بين الواقع والمأمول