لم يستفد المغرب العربي مبكرا من علوم العرب وآدابهم لأسباب مختلفة كثيرة، نذكر من بينها تأخر دخول الإسلام إلى المغرب العربي؛ حيث كان فتحه من أصعب الفتوحات وحتى بعد فتحه شهد حركات ردة متتالية. ولعل من أسباب ذلك عدم معرفتهم لمقاصد الدعوة الإسلامية وغاية الفاتحين من فتح بلادهم وجهلهم باللغة العربية.
والدليل على ذلك، أنه بعد انتشار الدعوة الاسلامية وتعليم الناس مقاصد الاسلام أيْ بعد أن اتضحت الصورة لديهم أقبل سكان المغرب العربي على الإسلام، وأُسّسَتْ عواصم فكرية إسلامية حضنت الإسلام وأسهمت في ازدهار حركات التأليف في شتى العلوم، وانطلقت حركة طلب العلم فانتشر قسم من الطلاب المغاربة إلى مظان العلم بالمشرق؛ ليُدخلوا أمّأت الكتب إلى المغرب فينشغل القسم الثاني من الطلاب بالتأليف والشرح والاختصار والنقد للمتون وأسانيدها، واستخراج الأحكام منها.
ولا يخفى على أحد شدة عناية المغرب الإسلامي بفقه الإمام مالك وخدمته ونشره والمكتبة الفقهية الحديثية التي ألف فيه. هنا لا بدّ من التسليم بأن أول كتاب حديث دخل إلى المغرب العربي في عهد المولى إدريس الأزهري هو موطأ الإمام مالك.
وبناء عليه، يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على اهتمام علماء شمال إفريقيا بمصنف صحيح البخاري من خلال شرحهم له باستعراض بعض شروحهم بعد مقدمة بسيطة عن دخول الأصل إلى إفريقيا. وبالتالي سيبين هذا المقال تنوع الشروحات في إفريقيا واهتمام كل أقطار المغرب العربي به.
جدول المحتويات
اهتمام المغاربة بكتاب صحيح البخاري
لقد اشتهر عند المتأخرين أن المغاربة اهتموا بصحيح مسلم أكثر من صحيح البخاري ولعل ذلك خلط بمسألة التقديم بين الصحيح، فذهب الجمهور إلى تقديم البخاري، وخالف البعض فقدم مسلم، ومن بينهم علماء من المغرب. فقد نقل عن ثلة من العلماء أن المغاربة قدموا صحيح مسلم على صحيح البخاري، مثل: ابن خلدون في مقدمته [1] والحافظ العراقي في ألفيته [2]
وهذه مسألة تتعلق بالصحة لا بالعناية، وان كانت كذلك إلا أن علماء المغرب قدموا صحيح مسلم على البخاري من حيث الصناعة الحديثية لا من حيث الصحة. وعلى أية حال، فإن الزمن يؤكد أن الاشتغال بالتأليف في صحيح البخاري بالغرب الإسلامي بدأ قبل الاشتغال بالتأليف في صحيح مسلم، فقد ألفت مؤلفات على صحيح البخاري تعود إلى القرن الرابع الهجري منها شروح سنذكرها في موضعها إن شاء الله، في حين تأخر ذلك بالنسبة لصحيح مسلم إلى منتصف القرن السادس الهجري.
أول من أدخل صحيح البخاري إلى المغرب العربي
لا بد لنا قبل الخوض في الحديث عن شروح صحيح البخاري أن نذكر تاريخ دخوله إلى المغرب.لم يكن أهل المغرب على إقبالهم على العلم والحديث أن يغفلوا عن الإشتغال بأصح كتاب بعد كتاب الله كما وصفه جلة من العلماء وعلى جلالة صاحبه أمير المؤمنين في الحديثوأستاذ الأستاذين كما سماه الإمام مسلم رحمه الله “[3]. فقد شق علماء المغرب طريقهم إلى الحجاز وطلبوا العلم والأسانيد العوالي المتصلة إلى أصحاب الكتب الأمهات في وقت مبكر وعادوا غانمين وتلقاهم الطلبة ملتهفين للأخذ عنهم ولذلك انتشرت روايات الصحاح والسنن والجوامع وغيرها. فحديث النبي صلى الله عليه وسلم شأنه شأن القرآن الكريم يجب أن يحمل بالسند الصحيح المتصل إلى النبي صلى الله.
لقد كان أبو الحسن القابسي التونسي ( تـ 403ه ) أول من أدخل رواية البخاري إلى القيروان كما أكد ذلك صاحب شجرة النور الزكية[4] ، كما أن أول من أدخل الصحيح إلى الأندلس عموماً أبا حفص عمر بن الحسن الهوزني وصعصعة بن سلام الشامي [5] أما عن طرقه فقد كان وصول الجامع الصحيح إلى الغرب الإسلامي عن طريقين:
- طريق النسفي ت 295 ه
- طريق الفربري ت 320 ه
وقد أكد ذلك القاضي عياض في مشارق الأنوار بقوله: “ولم يصل إلينا من غير هذين الطريقين عنه ولا دخل المغرب والاندلس إلا عنهما على كثرة رواة البخاري عنه لكتابه”[6].غير أن الطريق التي اشتهرت في المغرب وفي العالم الإسلامي كانت طريق الفربري كما هو معلوم.
بعد دخول صحيح البخاري إلى المغرب وإنتشار رواياته انطلقت حركة التأليف حوله فتعددت مسالك التأليف بين علوم الرواية والدراية فألفت حوله اختصارات وحواشي وشروح متنوعة وكتابات حول سنده كتحديد أسانيده العالية كثلاثياته ورباعياته ومنهم من اهتم باستخراج الأحكام الفقهية منه وعني آخرون بتراجمه كما لم يعنى بتراجم غيره لما فيها من استنباطات ومناسبات بينها وبين ما تضمه كل ترجمة تحتها حتى إن العلماء يقولون أن فقه البخاري في تراجمه.
أهمية صحيح البخاري في شمال إفريقيا
لقد كان الاهتمام بصحيح البخاري واضحا في فترة الموحدين سواء من طرف الخلفاء والأمراء أو من طرف العلماء في المجالس العامة والخاصة، وقد أكدت المصادر التاريخية وكتب الطبقات والأعيان أن أغلب خلفاء الموحدين وأمرائهم كانوا من حفاظ صحيح البخاري وهذا عامل مهم جدا لإنتشار صحيح البخاري وزيادة عناية الناس به.
ومن شدة تعلق أهل المغرب الإسلامي بصحيح البخاري حتى لامس حياتهم الفكرية بل الإجتماعية أيضا وكان يخصص له مجالس قراءة وقبل القراءة له افتتاحات وختمات أصبحت هذه الأخيرة تكتب وتدون عن أصحابها وتحسب له في رصيد تآليفه.
فأصبح صحيح البخاري يُقرؤ في السراء والضراء، ومن بين تلك المناسبات خروج الجيش للحرب وفي ليلة القدر والمواسم والأعياد ولازالت بعض هذه العادات موجودة إلى يومنا هذا. وقد سميت به مساجد ومدارس بل انتخبته بعض العائلات كاسم لها [7]
الشروح المغاربية لصحيح البخاري
سنعرض فيما يلي بعض الشروح، على سبيل الذكر لا الحصر، مرتبة على البلدان وإن لم يكن للحدود الجغرافية في وقتنا الحالي أهمية بالنسبة لنا كشعوب فمصيرنا وتاريخنا واحد. حتى أنه أحيانا يصعب على الباحث أن يميز بين العلماء من حيث انتمائهم الجغرافي الحالي فقد نجد علماء تونس والقيروان في المعاجم التي صنفت لعلماء ليبيا وعلماء ليبيا في معاجم علماء الجزائر والجزائر مع المغرب وهكذا وقد تجد العالم في كلاهما والأجمل أن تجدهم مجتمعين تحت مصنف واحد مثل مؤلف مدرسة فقه الحديث بالمغرب الإسلامي
الشروح الجزائرية
وقد كانت الجزائر سباقة في هذا الميدان فاستهل أحمد بن نصر الداودي التأليف في شرح البخاري والجدير بالذكر هنا أن هذا الشرح هو الأول بالمغرب وقد يكون الأول مطلقا على خلاف بين الباحثين فيه وبين شرح الخطابي وإن ترجح الثاني فقد حظيت الجزائر بهذه الريادة العظيمة على كل حال وبهذا الكتاب نبدأ
- النصيحة في شرح صحيح البخاري لأحمد بن نصر الداودي أبو جعفر توفي سنة 402 هجرية
- شـرح البخاري: لأبي الحسن علي بن خلف بن عبد الملك القرطبي المعروف بابن بطال المتوفى سنة (ت449ه)
- فتح الباري بشرح غريب البخاري الشيخ المحدث أبو العباس أحمد بن قاسم بن ساسي البوني المتوف عام 1129هـ.
- شرح البخاري للشيخ الونيسي أبو الحسن من كبار فقهاء المالكية في اثنتي عشر جزءا.
وشرح الشيخ الإمام محمد بن يوسف السنوسي (ت895ه) جزءا من صحيح البخاري وشرح الشيخ أبو محمد الداودي التلمساني المتوفى عام 1271هـ ، الذي ولي قضاء تلمسان، صحيح البخاري لم يكمله.
الشروح التونسية
- شرح صحيح البخاري المعروف بـ “المخبر الفصيح” لأبي محمد عبد الواحد المعروف بابن التين الصفاقسي ن611هـ
- النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح لمحمد الطاهر ابن عاشور1394هـ شيخ جامع الزيتونة
الشروح المغربية
وللمغرب النصيب الأوفر في الشروح لاعتبارات تاريخية وجغرافية وسياسية فقد أبدع علماء المغرب في التصنيف كما، ونوعا.
- شرح البخاري لأبي القاسم أحمد بن ورد التميمي تـ 540 هجرية
- شرح البخاري لأبي الأصبغ عيسى بن سهل توفي سنة 486 هجرية
- بهجة النفوس وتحليتها بمعرفة مالها وما عليها شرح مختصر صحيح البخاري المسمى جمع النهاية في بدء الخير وغاية لعبد الله بن سعد بن أبي جمرة الأندلسي توفي سنة 699 هـ
- شرح البخاري: لأبي حفص عمر بن الحسن بن عمر الهوزني الإشبيلي المتوفى سنة 460 هـ
- شـرح البخاري: لأبي عبد الله محمد بن خلف بن المرابط المرى المتوفى بعد الثمانين وأربعمائة 480هـ قال عنه في الديباج “ له في شرح البخاري كتاب كبير حسن وقد اختصر فيه شرح المهلب بن أبي صفرة وأضاف إليه إضافات وزاد عليه فوائد وهو ممن نقل عنـه ابن رشيـد السبتي”، [8]
- الأجوبة عن المسائل المستغربة من كتاب البخاري لجمال الدين أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي ت 463 ه
- الفجـر الساطع على الصحيح الجامع: أو النهر الجاري على صحيح الإمام البخاري [9] للشيخ المحدث المفتي خطيب الحرم الإدريسي بزرهون أبو عبد الله محمد الفضـيل بن الفاطمي الإدريسي الشبيهي الزرهوني المتوفى سنة 1318ه
هو من أنفس ماكتبه الفقهاء المتأخرون من المالكية، يقول الكتاني في الفهرس ” الفجر الساطع على الصحيح الجامع، أنفس وأعلى ما كتبه المتـأخـرون مـن المالكية على الصحيح مطلقا، وهو في أربع مجلدات، أنا متفرد الآن في الدنيا بروايته عن مؤلفه “[10].
الشروح الموريتانية
اشتهرت مجالس قراءة البخاري وختماته في بلاد شنقيط وكان لهم الفضل في نسخه وتقييده والمخطوطات الموريتانية في مكاتب تونس لهم شاهد على جهودهم هذه وقد كانت لهم شروح نفيسة من بينها:
- كوثَر المَعَاني الدَّرَارِي في كَشْفِ خَبَايا صَحِيحْ البُخَاري لمحمَّد الخَضِر بن سيد عبد الله بن أحمد الجكني الشنقيطي (ت 1354هـ
- النهر الجاري في شرح صحيح البخاري للعلامة الشيخ محمد بن محمد سالم المجلسي الشنجيطي (ت 1302هـ)، يوجد عند أسرة المؤلف بالعيون، وهو في سبعة أسفار.
الشروح الليبية
قد عني علماء ليبيا أيضا بكتب الحديث بالشرح والبيان وكان لصحيح البخاري نصيب من هذه العناية ،ونذكر من بينهم:
- الشيخ المحدث أحمد بن عبد الرحمن النائب (ت 1155هـ): له تعليق على البخاري الشريف [11]
الخاتمة
من خلال هذا العرض البسيط يتبين لنا أن صحيح البخاري قد حظي بعناية من قبل علماء شمال إفريقيا من شرقها إلى غربها. وقد كتب كبار علمائها في شرحه وسعى الرواة قبل ذلك إلى إدخاله وتمكين الطلبة منه في وقت مبكر. وبلغتْ أهمية صحيح البخاري حدا تجاوز به مجالس العلم إلى مجالس العامة. وعلى خلاف ما يشاع في الآونة الأخيرة، فإن علماء المغرب لم يقدموا من حيث الصحة على صحيح البخاري إلا كتاب الله عز وجل وأما عن تقديم مسلم فقد كان من حيث الصناعة الحديثية وهذا ما قاله أكثر من عالم.
الهوامش والإحالات:
[1] مقدمة ابن خلدون ص 414.
[2] ألفية العراقي بشرح السيوطي ص 101.
[3] طبقات الشافعية 9/2
[4] شجرة النور الزكية: محمد بن محمد ص 97 رقم 230
[5] النفح 85/3
[6] المشارق: عياض، ج1، ص9.
[7] انظر كتاب مدرسة الإمام البخاري في المغرب: يوسف الكتاني، 1/541 بسط فيه الكلام عن اثر صحيح البخاري في الحياة الاجتماعية والفكرية في المغرب
[8] انظر مقدمة اللامـع ص 13 والقسطلاني 2/35 ومعجم المؤلفين 9/284.
[9] اتحاف المطالع: عبد السلام بن عبد القادر 1/349.
[10] فهرس الفهارس: الكتاني 2 /929 .
[11] الجواهر الإكليلية في أعيان علماء ليبيا من المالكية: نصر الدين محمد الشريف, ص228