جدول المحتويات
المُقدّمة
اللغة هبة ربانية إلى الإنسان بها يتميز عن سائر الكائنات الحية، إذْ هو الكائن الوحيد الذي يمكن أن يدخل أفكاره في قالب الأصوات أو الألفاظ، كما أنه الحيوان الوحيد الذي يمكن أن يحتفظ بتجاربه ويورثها إلى الجيل الذي خلفه بواسطة اللغة، وبسبب اللغة يمكن للمرء أن يفرض وجوده على المجتمع أو البيئة التي يعيش فيها.
كما أن الإنسان قد يتفوق على سائر الكائنات الحية بسبب اللغة، فالبشر أيضا يتفوق بعضهم على بعض في قدرتهم على استعمال اللغة والسيطرة على الكلام. قديما كان من يتمكن في سرعة الكلام والسجع، يكون ربانياً أو كاهنًا وذا شأن في المجتمع.
ربما من أجل فصاحة النبي، (صلى الله عليه وسلم)، وطلاقة لسانه وبلاغة رسالته الربانية، تحدى الفصحاء والبلغاء حتى وصفه الكفار بأنه ساحر أو كاهن، فنفى القرآن الكريم عنه السحر والكهانة قائلا : “إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (42)” [ سورة المعارج]. وبناء عليه، فقد تكمن قيمة المرء في قدرته على التعبير عن أفكاره بكل سهولة وطلاقة.
ولما كان علم اللغة بجميع أطيافه يسعى إلى كسر الحواجز بين المخاطِب والمخاطَب، سواء أكانت هذه الحواجز لغوية صرفة وهي على درجات من التفاوت من التخاطب معدومة، ومرة تكون محدودة أو تكون أوسع ليست تامة، ومرة تكون تامة، فهذه كلها أسباب لغوية صرفة، يسعى العالم اللغوي إلى تذليل كل هذه العوائق بالقواعد اللغوية المعروفة؛ لكن توجد عوائق أخرى تعرف عند أهل الاختصاص بأمراض التخاطب أو اضطرابات التخاطب، أو أمراض الأفازيا الكلامية.
لقد عرف المرض قديما بأعراضٍ فاشية في المجتمع وفي غالب الأحيان المصابون بأمراض التخاطب معرضون للاستفزاز أو السخرية، وتقسم أمراض التخاطب إلى ثلاثة أقسام، وهي: أمراض اللغة، وأمراض الكلام وأمراض الصوت. وربما أخطر أنواع أمراض الكلام هو “البكم”. وكما أن التأتأة ظاهرة لغوية تعوق جودة عملية التواصل بين المخاطبين، قد تمنع كثيرا من المصابين بها عن الدور المحوري في المجتمع أو في محيطهم؛ بل تمنع البعض عن مواصلة دراستهم، أو تقلل جودة عملهم التواصلي بينهم وبين محيطهم.
من خلال عملي في مجال تعليم المتعلمين على مستويات مختلفة، ومن خلال بعض زملائي الذين تركوا الدراسة من أجل ظاهرة التأتأة تأثرت كثيرا بأوضاعهم. والسبب الرئيس لاختياري هذا الموضوع هو أنني ذات يوم طلبتُ من أحد طلبتي أن يعرف نفسه، فعجز عن التعريف بسبب التأتأة. فانتظرتُ ملياً ثم مررتُ عليه؛ فإذا بالطالب تتساقط قطرات الدموع من عينيه؛ الأمر الذي حرك مشاعري، ومن ثم أردت أن يسلط الضوء على هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة، باحثا عن ماهيتها وأسبابها وعلاجها ومراكز علاجها في مالي، وفي غرب إفريقيا قدر الإمكان. وعليه جرى تقسيم البحث إلى مقدمة، ومبحثين ولكل مبحث مطلبان، وخاتمة.
أسباب اختيار الموضوع
- التوسع والزيادة في الأفق المتعلق بالقضايا اللسانية.
- الوقوف على حيثيات ظاهرة التأتأة وحلولها أو معالجاتها
- إثراء المكتبات العلمية، الوطنية، والإفريقية والعربية، ببحث علمي يعالج ظاهرة عالمية.
أهداف البحث
يسعى هذا البحث إلى تحقيق الأهداف التالية:
- التعرف على ماهية ظاهرة التأتأة
- الوقوف على أعراض مرض التأتأة وآثاره الاجتماعية.
- تقديم حلول للتغلب على مرض التأتأة.
- التعرف على مراكز معالجة مرض التأتأة في مالي خاصة، وغرب إفريقيا عامّة.
أسئلة البحث
لتحقيق أهداف البحث المذكورة أعلاه، يسعى البحث إلى الإجابة على الأسئلة التالية:
- ما هي ظاهرة التأتأة وأسبابها؟،
- ما سبل علاج التأتأة؟
- هل لجمهورية مالي، ودول غرب إفريقيا، تجارب في مكافحة ظاهرة التأتأة؟
الدراسات السابقة لظاهرة التأتأة
لا شك أن موضوع اضطراب التخاطب شغل بال علماء اللغة منذ عصر مبكر، إذ استخدم اليونانيون كلمة “الأفازيا” للدلالة على الحبسات الكلامية أو الأمراض الكلامية، وأيضا للحضارة الإسلامية إسهامات في ذلك، يمكن تقسيم الدراسات السابقة الى قسمين، هما: الدراسات القديمة لاضطراب التخاطب، و الدراسات الحديثة للاضطراب التخاطب. فيما يلي مناقشة أهمها:
أولا: الدراسات القديمة لاضطراب التخاطب وهي كثيرة منها ما يلي:
- البيان والتبين: ربما كان يرجع إلى الجاحظ (255هـ) فضل السبق في تناول دراسات الأمراض الكلامية من خلال كتابه البيان والتبيان المشهور؛ حيث عالج فيه موضوع الانحرافات والعيوب الصوتية، التي ظهرت على ألسنة معاصريه من عامة الناس وخاصتهم. عالج الجاحظ الموضوع معالجة علمية دقيقة طبقا لمفاهيم عصره؛ حيث بيّن سبب القصور في عملية النطق لدى المتكلم، فتحدث عن “اللثغة” وهي الضعف عن تعبير بعض الأصوات أو الحروف. فيذكر لنا الجاحظ ما جرى بين بشار بن برد وواصِل بن عطاء الذي كان يعاني من هذا المرض فهجاه بشار، فرد واصل وهجا بشار في خطبة تجنب فيها صوت حرف ” الراء” الذي كان يشكو منه[1].
- الكامل في اللغة والأدب، للمبرد، (ت 285هـ)، ذكر المبرد مجموعة من الأمراض الكلامية مثل الرتة، والتمتمة، والفأفأة، والعقلة، والحبسة، والغمغمة، واللثغة، والعنة، والخنة، ومما يؤاخذ عليه المبرد هو كونه سرد مجموعة من الأمراض الكلامية دون البحث عن أسباب حدوثها، أو طرق علاجها، ليس له محاولة في ذلك.
- الخصائص، لابن جني، (ت 392 هـ) على الرغم أن ابن جني اشتهر بالاهتمام بالقضايا اللغوية، إلا أنه لم تكن الأمراض الكلامية من أولوياته؛ لكنه تحدث عن اللثغة أثناء حديثه عن الأصوات الحلقية، ولم يتناول مصطلح التأتأة.
- فقه اللغة وأسرار العربية، للثعالبي (ت 429هـ) فيها سرد مجموعة من أمراض الكلام منها “الهتهتة”، و”التمتمة” و”الفأفأة”، كلها تسبب تردد في الصوت المعين. لكن الثعالبي لم يستعمل مصطلح التأتأة بلفظه؛ ولكنه ذكر مصطلحا آخر شبه مرادف له، وهو: “الهتهتة”، و”التمتمة”، و”الفأفأة”. وفي لسان العرب لابن منظور، ذكر أسماء أمراض الكلام مع بيان مدلولاتها باعتباره من أوسع معجم في اللغة العربية، وهي: الغمغمة أو الهتهتة والتمتمة.
ثانيا: الدراسات الحديثة للاضطراب التخاطب، وهي كثيرة منها:
- اضطرابات التخاطب عند الأطفال، عبد الرحمن بن إبراهيم العقيل وآخرون. احتوى الكتاب على (125) صفحة، مع بيان أسباب أمراض الكلام، وبيان أنواعها والعوامل المؤدية إلى أمراض الكلام مع ذكر بعض الحلول الناجعة وبعض الأساليب النافعة. فالكتاب مدخل أساسي لأمراض الكلام؛ ولكنه بعيد عن منطقة غرب إفريقيا. هذا الكتاب كُتب في العالم العربي، الذي -في الغالب – المواطن المالي أو الإفريقي لا يجد نفسه داخل إطار هذه التأليفات التي تعالج قضايا اجتماعية ذات وضع خاص، وربما هذا البحث سيسلط الضوء على دور العلماء المحليين في مكافحة هذه الظاهرة[2].
- الاضطراب اللغوي في لغة الطفل ظاهرتا الحبسة الكلامية والتلعثم اللغوي نماذج، رسالة ماجستير في اللسانيات، للباحث زويش عبد المنعم مصطفى، المركز الجامعي بلحاج بو شعيب عين تموشنت. احتوت الرسالة على 100 صفحة، عالج فيها الباحث ظاهرة التأتأة، فذكر عواملها وأسباب وحلولها. هذا البحث انطلق من واقع بأطفال الجزائر، دون أدنى إشارة الى المراكز المهتمة بدراسة هذه الظاهرة لا في الجزائر ولا في غرب إفريقيا.
- بحوث ودراسات في علوم اللسان، وصفت أمراض الكلام مستعملة مصطلحات عربية صرفة، وبيان أسباب هذه الأمراض نتيجة لإصابة علل في الدماغ أو أي منطقة مسؤولة عن النطق.
- “علل اللسان وأمراض اللغة” لمحمد كشاش، وهو يرجعه إلى سببين رئيسين هما: أمراض ناتجة عن سوء الأداء، وأمراض ناتجة عن العلاقات الاجتماعية احتوت على 345 صفحة، تناول فيها مجموعة من الأمراض الكلامية، وقد مهد هذه الأمراض بذكر جهاز النطق، مع بيان وظائفها مفصلا، لم يركز على مرض معين مما جعل غير المخصص يجد صعوبة بالغة في تفسير كل ظاهرة على حدة، بالعناصر الأعجمية أو الأجنبية.
- في علم أمراض الكلام، د مصطفى فهمي، ربما هذا الكتاب يعتبر من أوسع كتب ألف في هذا المجال، احتوى على 345 صفحة، فالغيرة العلمية دفعت المؤلف على تزويد المكتبة العربية بهذا الجهد، استهل كتابه بتشريح جهاز النطق كاملا، ثم ذكر مجموعة من العيوب الكلامية، وعوامل انتشار هذا المرض في المجتمع، وعلاجه طبيا ونفسيا، قد يعتبر مرجعا علميا في المجال، لكن لم يتحدث عن الجهود الرسمية وغير الرسمية في بيئتهم العربية فضلا عن الإفريقية[3].
لقد بدأ توجه علماء التربية وعلم النفس إلى دراسة هذه الظاهرة على الرغم من قلة الاهتمام بها في إفريقيا جنوب الصحراء وبالأخص غرب إفريقيا بما فيها مالي، كما لم أطلع على بحث محلي تناول هذا الموضوع، عليه أراد الباحث أن يدلي بجهده المتواضع للبحث عن: ظاهرة التأتأة أسبابها ومراكز علاجها في مالي، وعلى حد الباحث ما اطلعت على بحث تناول هذا الموضوع.
المبحث الأول: مفهوم ظاهرة التأتأة وأسبابها
ظاهرة التأتأة وأسبابها يحتوي هذا المبحث على جملة من التعريفات والمفاهيم والمصطلحات التي استخدم في هذا المجال كلمات ومصطلحات كثيرة. وقد فضل الباحث مصطلح التأتأة لشيوعها خاصة اللغات الافريقية، سيتناول هذه الفقرة جملة من العوامل اعتبرها العلماء وراء ظاهرة اضطراب التخاطب، سواء أكانت عاملا عضويا أو عاملا اجتماعيا أو عاملا تراثيا، وحتى عاملا وراثيا.
كما يحتوي كذلك عن مظاهر التأتأة جسديا واجتماعيا ونفسيا، وقد فسم الباحث هذا المبحث على المطلبين هما المطلب الأول مفهوم ظاهرة التأتأة وأعراضها، والمطلب الثاني: المطلب الثاني: عوامل وأسباب ظهور التأتأة.
المطلب الأول: مفهوم ظاهرة التأتأة وأعراضها
التأتأة لغةً، كلمة مشتقة من تكرار التاء أثناء الكلام، كما يقال الفأفأة وهي تكرار الفاء أثناء التحدث، أو الغمغمة وهو تكرار الغين والميم أثناء الكلام أو الهتهتة هو تكرار الهاء والتاء أثناء الكلام والتمتمة هو تكرار التاء والميم أثناء الكلام، وهي ظاهرة لغوية تناولها كثير من اللغويين أمثال الجاحظ في كتابه البيان والتبيين.
وقد جمع محمد منصف القطماطي تحت مسمى عيوب النطق، ذكر من هذه العيوب التمتمة وهي التردد في التاء والميم لدى المتكلم هو تمتام وتمتامة، التأتأة هي تردد المتكلم في التاء فهو تأتأء، وتأتأة، والفأفأة وهي تردد المتكلم في الفاء فهو فأفاء وفأفاءة [4].
في الاصطلاح، التأتأة نوع من التردد والاضطراب والانقطاع في سلسلة الكلام، يردد المصاب بها صوتا لغويا أو مقطعا ترديدا لا إراديا مع عدم القدرة على تجاوز ذلك إلى المقطع الذي يليه [4].
وتعرف التأتأة عند “فان ريبر” و”اميريك”([1]) بأنها نمط غير طبيعي من الكلام يشذ عن كلام الآخرين، وهذا ما يتعارض مع عملية التواصل مع الآخرين، ويسبب للمتحدث والمستمع الحزن والألم [5]. في الغالب المصابون بهذا الاضطراب معرضون للسخرية والاستفزاز والضحكة مما يكسر نفسيتهم أكثر، ويجعلهم في موقف الخجل.
وتقول الباحثة منى توكل السيد عن التهتهة([2]) أنها “اضطراب في طلاقة الكلام يظهر في شكل توقف زائد للكلام مع مد وتكرار للمقاطع الكلامية تكرارا لا إراديا، ويتميز الاضطراب بالتشنجات والتقلصات اللاإرادية لعضلات النطق، وقد تظهر أيضا أنماط صوتية وتنفسية غير منتظمة، وينتج عن هذا الاضطراب أفكار وسلوك ومشاعر تتعارض مع التواصل الطبيعي مع الآخرين” [5].
أما منظمة الصحة العالمية (1977 م) عرّفتها بأنها: “اضطراب في مجرى الكلام؛ حيث يكون الفرد متأكدًا من معرفة ما سيقوله، ولكنه غير قادر على قوله، بسبب تكرارات لاإرادية، أو إطالات، أو توقف الصوت” [7].
وعليه يمكن تعريف التأتأة بأنها: اضطراب في عملية الأداء اللغوي الناتج عن ترددات لاإرادية تكون عند بداية الكلمات أو المقاطع أثناء العملية الكلامية.
وقد تنبه العلماء لهذه الظاهرة منذ القدم، فتناولها كثير من اللغويين سواء أكان بالتعريف عن الظاهرة وتشخيصها أو ببيان بعض الحلول المناسبة؛ لكن غلب على جهود الأسلاف وصف الظاهرة دون إعطاء حلول مقترحة من أجل التغلب عليها، أو معالجتها.
كما تعتبر التأتأة من الأمراض اللغوية الخطيرة جدا، قد تظهر ملامحها في سن مبكرة جدا سواء قبل التمدرس أو في مرحلة التمدرس في السن الثالثة والرابعة أو الخامسة، وهي مرحلة حساسة عند الأطفال، قد تُعيق البعض عن عملية التواصل أثناء دراستهم، ربما ليس ببعيد على كل واحد منا في إحدى مراحل حياته الدراسية أنه شاهد أحد أقربائه أو أقرانه يعاني من هذه الظاهرة اللغوية؛ مما جعله عاجزا عن المواصلة أو يمنعه عن إثبات نفسه في المجتمع بسبب العائق التواصلي.
وقد جرت العادة عند المجتمعات البدائية الاستسلام لأمثال هذه الظاهرة، والاكتفاء بالاستهزاء بصاحبها، أو السخرية منه، أو الضحك عليه، وفي أحسن الظروف هو اغتيابه من خلفه كما حدث بين بشار بن برد وواصل بن عطاء، على الرغم أن المجتمعات المثقفة تسعى جاهدة بغية التغلب على هذه الآفة اللغوية أو التواصلية.
كثير من أبنائنا وتلاميذنا عانوا من هذه الآفة وسُخر منهم واستُفِزّو وضُربوا من قبل أولياء الأمور أحيانا، مما يزداد الطين بلة، وهذا كان سببا لترك البعض الدراسة نهائيا، بسبب هذه الظروف النفسية المؤلمة والمؤسفة.
كما أن كثيرا من الكبار عجزو عن أداء بعض الأدوار الاجتماعية والإعلامية بسبب أدائهم اللغوي، وقصة موسى ـuـ ليست ببعيدة في هذا الموقف عندما أراد الله ـY ـ أن يبعثه إلى فرعون فقال عليه السلسام: (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون) سورة القصص 34. لمثل هذا المنصب المفضل وهو رسالة السماء إلى البشر يطلب موسى من الله أن يرسل معه أخاه هارون لصفاحته، هكذا ابتعد الكثير عن بعض المناصب العليا، وعُفي البعض أيضا عن المناصب المهمة بسبب هذه الأمراض.
أغلب العلماء يُرجعون سببَ هذه الظاهرة إلى العوامل النفسية أو الفيسولوجية (العضوية) وفي الغالب العنف اللفظي والجسدي يسبب كثيرا من الأمراض النفسية، للأسف هذا ما سيمارس عليهم في مجتمعاتنا.
قد يعتقد الكثير أن الاضطرابات اللغوية أو التخاطب قليلة الانتشار في المجتمع، وقد يعود هذا الاعتقاد الخاطئ لأسباب كثيرة منها: قصور الفهم لما تشمله اضطرابات التخاطب؛ إلى جانب قلة الدراسات الإحصائية خاصة في مجتمعاتنا الإفريقية. إذْ أجرت الجمعية الأمريكية للسمع والتخاطب دراسة إحصائية، وحصلت على نتيجة أن 15% من الأطفال يعانون من هذا المرض التخاطبي [2].
ظاهرة التأتأة آفة تخاطبية قتلت الكثير من المواهب والقدرات الذهنية، لقد حان الأوان لإجراء دراسة علمية حول أمراض التخاطب وعلى رأسها التأتأة. كم من المعلمين والمدرسين؛ بل حتى الدكاترة والمحاضرين لديهم معلومات مفيدة عن هذا الموضوع؛ لكن الاستفادة من خطاباتهم الشفوية قلّت، حيث نسمع من حين لآخر أنّ فلانا متمكن من مادته أو تخصصه؛ لكن صوته فيه مشكلة؛ حيث لا يستطيع إيصال معلوماته بشكل واضح.
فالتأتأة ظاهرة منتشرة في مختلف الأوساط الاجتماعية ولما كان هذا الموضوع من القضايا الفنولوجية “الصوتية” كان الأجدر بنا التطرق إلى العوامل المنتجة للأصوات (فسيولوجيا الأصوات) باعتبارها من العوامل الأساسية في تحسين أداء الصوت اللغوي، يقسم العلماء فسيولوجيا الأصوات إلى ثلاثة أقسام رئيسة هي:
أولاً: أجهزة النطق ما تحت الحنجرة
وهي عبارة عن مجموعة من الأعضاء النطقية تكون تحت الحلق وهي من الأدوات الأساسية في تكوين الصوت اللغوي كما أنّ لكل جهاز النطق وظيفتين الأولى وظيفة بيولوجية حيوية والثانية وظيفة لغوية صوتية، نظرا إلى موضوع البحث سيعتمد الباحث على الوظيفة اللغوية الصوتية منها [7]:
- الحجاب الحاجز: يكون بين القفص الصدري والرئتين، يتجلى عمل الحجاب على الضغط الذي يقوم به القفص الصدري على الحجاب وهو بدوره يضغط على الرئتين؛ مما ينتج على الشهيق والزفير، فالصوت اللغوي يخرج مع الزفير بدرجات متفاوتة طبقا للمقاطع الصوتية.
- القفص الصدري: يتكون من اثني عشر ضلعا مزدوجا وظيفته في الضغط على الرئتين لإنتاج الدفعات الصوتية أثناء العملية الكلامية.
- الرئتان: وهما الجهاز الذي يجهز الهواء ويدفعه لإخراج عملية الشهيق والزفير فالكلام لا يتم إلا عبر الزفير وهو خروج الهواء أثناء التنفس أو الكلام.
- القصبة الهوائية: تقوم بدور تنظيم الهواء إلى الداخل وتشكل صندوق الرنين مع بعض الأصوات.
ثانياً: أجهزة داخل الحنجرة
هذا هو القسم الثاني من الأجهزة فيسيولوجيا الأصوات.
الحنجرة: وتقع فوق القصبة الهوائية وأسفل الفراغ الحلقي وهي عبارة عن مجموعة من الغضاريف تشبه الصندوق الصغير، وبشكل دائري، وتبرز تفاحة آدام الحائط الأمامي، وبداخلها الوتران الصوتيان.
- الوتران الصوتيان: توجد الوتران الصوتيان أو الحبلان الصوتيان داخل الحنجرة وهي مربط الفرس في العملية الكلامية أو الصوتية، وهما حكمان في فتح الطريق أما الزفير الذي هو العامل الأساسي في معظم الأصوات اللغوية، كما تغلق الطريق عند رفع الأثقال ولها أربعة أوضاع وهي:
- وضع الغلق: يقترب الوتران اقترابا ينتج عنه غلق ممر الهواء (الزفير) عند خروجه غلقا محكما فيزداد ضغط الهواء في التحت حتى ينفجر الهواء إلى القوق فيخرج بعض الأصوات كصوت (الهمزة).
- وضع الاهتزاز: قد يقترب الوتران بعضهما من البعض ولكن لا يقوى هذا الحبس أو الضغط فيسمح بخروج بعض الهواء مما يسبب اهتزازا أجهرا ببعض الأصوات كأصوات: العين والزاي والباء ..إلخ.
- وضع الهمس: قد يبتعد الوتران ويصبح ممر الزفير مفتوحا، ويأخذ شكلا مثلثا متساوي الساقين، فيترتب خروج بعض الأصوات اللغوية المعروفة بالمهموسة مثل: السين، والصاد، والتاء ..إلخ.
- وضع الوشوشة: في هذه الحالة يلتصق الوتران التصاقا محكما على طولهما ولا يسمح بمرور الزفير بينهما، والأصوات في هذه توصف بنصف مهتز.
- وضع في حالة الشهيق والزفير: في هذا الوضع الوتران الصوتيان يكونان في حالة راحة إذ هما يبتعدان عن الآخر فتسمح بالهواء (الشهيق) بالدخول وتسمح بالهواء (الزفير) بالخروج، وهذا في حالة لا نريد التكلم أو النوم.
ثالثا: ما فوق الحنجرة
هذا هو القسم الثالث من أعضاء النطق أو أجهزة فسيولوجيا الأصوات:
- الحلق: هو فراغ يبدأ من سطح الحنجرة وينتهي من الأمام بفتح الفم من الداخل أو بداية التجويف الأنفي، وهي ثلاثة أقسام: الحلق الحنجري، والحلق الفموي، والحلق الأنفي. ويكمن دور الحلق في العملية الصوتية في تغيير شكل الصندوق الرنين وحجمه، وذلك يترك أثر في احداث بعض الأصوات اللغوية.
- اللسان: وهو العضو المتحرك أكثر أثناء العملية الكلامية يتحرك إلى الأمام والخلف، وإلى الأعلى والأسفل، ويقسم على أربعة هي: مؤخرة اللسان أو أقصاه، وسط اللسان، مقدم اللسان، طرف اللسان.
- الحنك الأعلى: ويمثل فوق اللسان داخل الفم، فيه أجزاء صلبة غير متحركة، وأخرى لينة قابلة للحركة وهي أقسام: مقدم الحنك، سقف الحنك الصلب، سقف الحنك الطري.
- اللهاة: تمثل نهاية الحنك الطري وتقع بين التجويف الفموي والأنفي وهي المسؤولة عن صوت القاف، كما أن ارتفاعها إلى الأعلى أو هبوطها إلى الأسفل هو المسؤول عن صوتي (الميم والنون).
- الأسنان: تعتبر الأسنان من أعضاء النطق البارزة في فسيولوجيا الأصوات وهي على أقسام: القواطع وهي ثمانية أربعة في الأعلى وأربعة في الأسفل، الأنياب: وهي أربعة اثنان في الأعلى واثنان في الأسفل، الأضراس: وهي عشرون ثمانية أمامية أعني اثنان بعد كل ناب من الأنياب الأربعة، واثنا عشر منها خلفية.

وتظهر أهمية الأسنان عندما تكون مشوهة ولا تقدر إصدار بعض الأصوات، أو ما يعرف بأسباب عدم طلاقة اللسان، كصوت الشين و الزاي أو الذال.
- الشفتان: هما حَكَمان عن فتحة الفم في الخارج، وهما عريضتان نهاية الفم لهما أربعة أوضاع وهي:
- وضع الغلق: في حالة التصاق الشفة السفلى بالعليا، بصيغة لا تسمح مرور الهواء (الزفير).
- وضع الاستدارة: في هذه الحالة فتحة الفم تأخذ شكلا دائريا.
- وضع الانفراج: في هذه الحالة يتم جذب الشفتين الى الجانبين فيبتعد الشدق عن الآخر.
- الحياد: ففي هذه الحالة فتحة الفم لا تكون مستديرة ولا بالمنفرجة وإنما بين بين.
- التجويف الأنفي: وهو الفراغ الواقع فوق الفم تجاه الأنف وهي المسؤولة عن الأصوات الغنائية المتمثلة بالعربية في صوتي الميم والنون.
فهذه هي الفسيولوجيا الصوتية كل عضو من أعضاء النطق مسؤول عن دوره الخاص، فأي خلل في عضو من أعضاء النطق يظهر ذلك في الأداء الصوتي، كمن ليس له قواطع لا يمكن له إخراج بعض الأصوات العربية مثل الشين والذال وهكذا دواليك، كمن لا يمكن له التحكم على مجرى التجويف الأنفي أصواته كلها تشبه أصوات الغناء، ففي هذه الحالة يرجى مراجعة الأطباء لإجراء عملية استكمال النقص العضوي الصوتي.
مظاهر التأتأة وعلاماتها: تظهر التأتأة بأشكال مختلفة منها
- التكرار: تكرار مقاطع الكلمات مصحوبة بالتردد والتوتر النفسي والجسمي، كأن بقول: “أنا ـ أنا أنا اسمي أحمد” هو أحد مظاهر التأتأة شيوعا، خاصة عندما تحدث عدة تكرارات بالصوت نفسه بالتتابع لدرجة تلفت انتباه المستمع، وهذا التكرار في بعض عناصر الكلام كتكرار حرف مثل: “م م م محمد” أو تكرار مقطع لفظي، مثل: “مح مح”، في كلمة: “محمد”.
- الإطالة: إطالة الأصوات خاصة الحروف الساكنة، وهذا العرض أكثر ملاحظة في كلام المتأتئ، وهذه الإطالات قد تستمر إلى خمس ثوان كحد أقصى.
- الحبسة الكلامية أو التوقفات الكلامية: يبدو فيها المتأتئ غير قادر على إنتاج الصوت بطلاقة، بالرغم من المجاهدة والمعاناة، وتبدو تلك الحالة أكثر ما تكون عند بداية النطق بالملمات أو المقاطع أو الجمل.[1، 59]
وتظهر التأتأة في مراحل مختلفة عند الأطفال ثم تنمو بها إلى غاية لا يمكن تركها بسهولة منها:
- المرحلة التواترية: يصعب النطق على الطفل أو التعبير بوضوح أو طلاقة عادية مع بطء في الاستجابة الكلامية، في هذه الحالة تكون بداية الكلام بطيئة، ثم يصبح الكلام سريعا، ومع إعادة أجزاء الكلمة.
- المرحلة التشنجية الاهتزازية: في هذه المرحلة تظهر عدم القدرة على النطق بوضوح وبالأخص في بداية الكلام، وصعوبة نطق الكلمة الأولى، ويصاحب ذلك إعادة أجزاء الكلام، مع سرعة استجابة الانفعالات وأعراض جسدية.
- مرحلة اللعثمة أو اعتقال اللسان: وهي أشد مراحل التأتأة ومن أعراضها توقف أو تعسر واضح في الكلام رغم حركة أعضاء الكلام، وتشنج عضلات الوجه، ارتعاش الأطراف وتباعد المسافة بين كلمة وأخرى أو مقطع وآخر، وينتهي المقطع عادة بانفجار صوتي له أثر سيء، تؤدي إلى مشاعر من القلق والإحباط والشعور بالذنب[1، 60].
المطلب الثاني: عوامل وأسباب ظهور التأتأة
لا زالت الدراسات اللغوية والتربوية متواصلة في البحث عن أسباب أمراض الكلام، على الرغم أن الغموض تحوم على أسباب ظاهرة التردد النطقي، إلى حد الآن لم تحسم الدراسات العلمية على سبب واحد لظاهرة التأتأة، ولكن جاءت في الدراسات على اضطرابات النطق مجموعة من العوامل:
العوامل العضوية:
تتمثل العوامل العضوية في الخلل في جهاز النطق، وعدم انتظام الأسنان، أو عقدة اللسان، شدق الحلق. لكن هذه تعتبر من عوامل اضطرابات النطق العامة، ليس من عوامل التأتأة إلا ما كانت عقدة اللسان في ظهر بعض الأصوات خاطئة فيضطر المتكلم إلى إعادته وتكراره. ولكن هذه الظاهرة ضئيلة جدا، للمصابين بالتأتأة لكن يمكن إدراج جانب آخر في العوامل العضوية، وهي تلف في الدماغ نتيجة في عملية الولادة أو أي مرض آخر، باعتبار الدماغ هو المسؤول عن كل الأعصاب الفسيولوجية، بما فيها الأعصاب التي تتحكم على العملية الكلامية.
كما يرجح بعض الباحثين أنّ منطقة في الدماغ الإنساني هي المسؤولة عن الجانب التعبيري اسمها “بروكا” وأن هذه المنطقة الموجودة في الجانب الأيسر في الدماغ، وأي خلل في هذا الجانب يؤثر في حركات الأعصاب الكلامية، والحركة الذهنية أيضا[7]، ولما كان الدماغ هو المسؤول عن كل الحركات الجسدية، فالخلل فيه ينتج خللا في وظائفه أيضا.
العوامل الوراثية:
المرء يرث الملامح الجسمانية والجسدية من الآباء والأمهات أو الأقارب كذلك يرث الملامح السلوكية عندهم، علاوة على ذلك وراثة السلوك الكلامي للآباء كان طبيعيا كعيوب الكلام، إذن من المحتمل أن تكون الوراثة عاملا ممهدا للإصابة[9].
العوامل الاجتماعية:
كالنظرة الدونية من قبل المجتمع للطفل الأعسر، مما يسبب له ضغطا نفسيا، أو إصرار الأولياء على أطفالهم ليكفوا عن فعل كذا وكذا، عدم توافق الطفل مع بيئته، إصرار الآباء على استعجال أبناءهم للكلام قبل أوانه، أو تقليد شخص يعاني من اضطرابات النطق، كثيرا ما نرى شخصا مصابا بمرض التأتأة لو تحققنا وتدققنا في أقربائه الذين يعيش معهم المصيب لوجدنا من حوله من يتكلم بالتأتأة، فالعامل الاجتماعي من العوامل الرئيسة في انتشار ظاهرة التأتأة[10].
العوامل النفسية:
تكون اضطرابات النطق حسب مدرسة التحليل النفسي خاصة في المرحلة الفمية كعامل الخوف أو الفزع، والاكتئاب الشديد، وضعف الثقة بالنفس، التفكك الأسري مثل الطلاق أو وفاة أحد الوالدين، الحماية الزائدة من الوالدين تجاه الطفل نعني التدليل، والخوف الزائد على الطفل من التعامل والاحتكاك مع أقرانه، مما يؤدي إلى منع الطفل من تطوير لغته بشكل سليم، شعور الطفل بالنقص سواء من الناحية الجسمية أو العقلية أو الاقتصادية أو الاجتماعية[7، 53].
وللأسف الشديد فإن التربية العنفية هي التربية السائدة في المجتمعات الإفريقية، مما يعني أن أطفالنا معرضون للإصابة بمثل هذه الأمراض، علاوة على ذلك إن المصاب بالتأتأة يستهزأ ويسخر منهم في مجتمعاتنا بدلا من مساعدة صاحبه ساحة الثقة بالنفس.

المبحث الثاني: طرق علاج ظاهرة التأتأة وجهود دول غرب إفريقيا في مكافحتها
جرت عادة الانسان أن يتحرك نحو أية ظاهرة ما من الظواهر تعترض على سير حياة الانسان سواء كانت تعرقل سير الحياة الجسدية والاجتماعية أو الفردية أو الاقتصادية أو حتى النفسية، ولما كانت الاضطراب الكلامي تؤثر سلبا على حياة الانسان، سعى الانسان منذ عصر مبكر الى البحث عن حلول تكافح هذه الظاهرة، هذه الفقرة تتناول تجربة غرب افريقيا عامة وحالة مالي خاصة، فيحتوي المبحث على مطلبين، المطلب الأول : طرق علاج ظاهرة التأتأة، والمطلب الثاني تتناول، تجربة غرب إفريقيا في مكافحة ظاهرة التأتأة حالة مالي.
المطلب الأول: طرق علاج ظاهرة التأتأة
دلت التجارب البشرية على أن كل مرض له داء، كما جاء في الأثر ((لكل داءٍ دواءٌ، فإذا أُصِيبَ دواءُ الداء، بَرَأَ بإذن الله عزَّ وجل))، وأن مرض التأتأة يعرقل تلاميذنا وطلابنا عن استمرارية الإبداع في مواهبهم الكامنة في نفوسهم، ولكن كعادة المجتمعات التي لا تتسلح بسلاح العلم والمعرفة دفعت كل فشل أو عجز إلى مشيئة الله وقدره، دون أدنى محاولة؛ يستسلمون للفشل واليأس، فكثيرا ما أهالي المصابين بهذا المرض وذوو الاضطرابات النطقية، لا يعرفون أن هذه الأمراض الكلامية تُعالج وربما حتى الطبقة المثقفة أيضا أو المتعلمة لا يعرفون أن لها علاجًا، يتركون ذوي التأتأة في هامش المجتمع، فيموت قدراتهم ومواهبهم [11].
لكن بفضل انكباب الناس على الدراسات اللغوية أو اللسانية الحديثة التي تمتد إلى مجالات شتى ومنها مجال أمراض الكلام “الأفازيا” وعلاوة على الدراسات المتعلقة بالتربية التي تهتم بكل ما يعوق التعلم والتعليم، سيشعر الباحثون بخطورة الموقف وبذل الجهود إلى احتواء الموضوع بكل جوانبه، ونرجو أن تكون هذه الدراسات من بوادرها.
هناك محاولات تراثية لمعالجة التأتأة، وهناك أيضا روايات شفوية مأثورة[11]، نذكر منها ما يلي:
- أن أحدا ما يختفي في مكان مظلم ويفاجئ بضربة للمصاب بمرض التأتأة وألا يجعله حتى يعرف من الضارب حتى.
- رواية تقول عندما يبدأ المتأتئ بكلام ويتأتأ أو يتفأفأ يفاجئه أحد ويضربه من الخلف فجأة؛ فيكون سببا للتخلص من ظاهرة التأتأة.
- رواية تقول إن المتأتئ المريض إذا بدأ يتأتأ يضرب بعصب الدخن أو الذرة، فتلك الضربة تكون سببا في التخلص من هذا المرض.
- راوية تقول إنه عندما يتم غسل الأواني يبقى بعض قطرات الماء في الإناء بعد تنظيفها، يخصص بعض هذه القطرات إلى المريض ليشربها من حين لآخر يكون سببا لشفائه.
- مكان مظلم دون أن يعرف من الذي قام بضربه حتى، أو ضربها ببعض أدوات الطبخ (محرك) (mununan).
- رواية تقول يكتب بعض الآيات القرآنية أو ينفث على الماء ويشرب إلى غاية سبعة أيام، يكون سببا لتخلص من هذا المرض[12].
وبغض النظر عن صدق هذه الروايات أو عدم صدقها فإنها تدل على أن الموضوع شغل بال الأفارقة خاصة الماليين، فحاولوا البحث عن سبل علاجه، قبل ظهور العلم الحديث. إذن لنتجول فيما قالته النظريات الحديثة من حلول.
لما كانت من أسباب انتشار ظاهرة التأتأة العوامل الفسيولوجية كان حريا مراجعة الأعضاء الفسيولوجية للأصوات كأن يكون في أجهزة النطق خللا في إخراج بعض الأصوات مما يجعل بعض الأصوات يخرج انفلاتا من ثم يسعى المتكلم الى استدراك الصوت المنفلت أو الذي خرج خطأ مما يجعل المتكلم كأنه كرر بعض الأصوات الكلامية، فيظهر للسامع أو المخاطب كأنه يتردد في تلك الأصوات، في هذه الحالة عليه أن يراجع الأطباء بصفة عامة أو أطباء الأسنان أو أعضاء الفم خاصة أو الإخصائي في أمراض الكلام (ORHOPHONISTE).
كما رأينا أن من أسباب التأتأة التلف في الدماغ أو المخ فالدماغ هو المسؤول عن سيطرة كل الحركات الجسمية بما فيها أعضاء النطق وأن أي خلل في المنطقة المسؤولة عن العملية الكلامية يسبب خللا في تحكم عضلات النطق، ففي هذه الحالة يمكن مراجعة الأطباء للتدخل السريع في معالجة هذا التلف معالجةً لذلك الخلل، وهذا الجانب مهني أكثر، كما أن القضايا الطبية من المعلومات الحساسة جدا، يستحسن مراجعة المتخصصين فيها [1، p. 65].
أما يتعلق بالعلاج الطبي هناك محاولات عدة في معالجة التأتأة عن طريق العقاقير والمهدئات مثل بعض الفيتانينات كمثل (ب 6)، ولا تزال هذه الأودية مثل العقاقير المضادة عن الصرع، ذُكرت في هذا الصدد (أرون ـ ARONEـ) وهي عبارة عن أدوية لعلاج أنسجة المخ أو مرض الخلايا العصبية في الدماغ، ومن تلك الأدوية الطبية (الهالوبيريدول ـ Haloperidolـ) هي عبارة عن أدوية تساهم في تهدئة اضطرابات في الحركة وتناسقها [11] .
العلاج باستخدام الأجهزة الإلكترونية: يوجد العديد من الأجهزة المستخدمة في علاج التأتأة عند الكبار والتي يرتديها الأشخاص يوميًا خلال أدائهم لمهامهم اليومية حيث تساعد في أمور، ومنها: القدرة على التحكم في الكلام، التحسين من طلاقة اللسان، المساعدة في إبطاء الحديث. [12]
العوامل الوراثية: لقد سبق أن أشرنا إلى أن الوراثة من العوامل المساعدة على نقل أمثال هذه الظواهر، إذ المرء يرث ملامح أحد الوالدين والأقربين في الأجسام أو الأجساد، كما أشرنا أن البعض يرجع الى تلف في الدماغ، وقد يكون هذا التلف ناتجا من الوراثة، عليه إن كانت بيولوجيا فسيولوجيا فليراجع المعنيين في مجال الطب.
العوامل الاجتماعية: وهو تقليد أحد المصابين بظاهرة التأتأة في المحيط الذي يعيش المصاب بمرض التأتأة، في هذه الحالة يجب بيان خطورة هذا التقليد للمقلد، وأن هذا التقليد مما لا يرضى به المصاب ولا يسره بل والأسوأ من ذلك أن التقليد قد يستمر معه ولا يمكن التخلص منه، مرض التأتأة يخلق حالة انطوائية وحدانية وشعورهم بأنهم غير محبوبين لدى المجتمع.
وقد يرتاحون مع المصابين بالتأتأة، مما يزداد الطين بلة، فاندماجهم في المجتمع السليم يساعدهم على خروجهم من الانطوائية وشعورهم بتقبل المجتمع لهم، عليه يحبذ خلق فرص يدمجهم في المجتمع، وتخصيص الجلسات الحوارية والإرشاد لهم في شأن التأتأة ومحاولة إقناعهم أن المجتمع بحاجة إليهم [10، p. 82].
ومن الأساليب المجربة هو عرض من شفوا من هذه الأمراض مسبقا عليهم، كما يتجنب إجبار المتأتئ على الكلام تحت أي ضغط نفسي، أو طلب الكلام منه على حضرة من يخاف منهم، أو يتحشم منهم.
العوامل النفسية: تعد الأسباب النفسية هي الغالبة في حالات عيوب النطق عامة وحالات التأتأة خاصة، فمن هذه العوامل النفسية القلق النفسي والصراع وعدم الشعور بالأمن والطمأنينة والمخاوف والوسواس، والصدمات الانفعالية وعدم الكفاءة، فهذه الحالة قلما ينجح الطب البيولوجي في ذلك، بل العلاج النفسي يساهم في تخفيف ذلك، وهذا يتطلب مراجعة الاحصائي النفساني.
كما أن الطبيب النفساني عليه، أن يحاول قدر الإمكان التعاون مع الأهل لمساعدة المريض من الخروج من هذه الورطة النفسية، محاولة تخفيف حدة الصراعات والانفعالات ومحاولة إعادة الاتزان الانفعالي والعاطفي، ومحاولة الابتعاد عن التوتر، كما أن الوالدين لهم دور كبير في تحسين وضع طفلهم، أما الكبار فالمجتمع الذي يعيشون فيه له دور في تخفيف هذه العاقة أو الحبسة الكلامية أثناء التحدث.
كما أن الإرشاد النفسي الذي يقصد إفهامه أن يتوقف عن التأتأة ويركز تفكيره على ذلك، ويستخدم العلماء طريقة الاسترخاء إذ إن زيادة الضغط العصبي للفرد، يولد عدم الراحة العصبية، عليه الاسترخاء بطريقة النوم يخفف حالة استرخاء العضلات أو فيسولوجيا الأصوات، وكذلك الاسترخاء الكلامي، وإقناع المتأتئ أن يخفف من التوتر أثناء الكلام، .
لقد كان القرآن الكريم شفاء للمسلمين في مواقف كثيرة كما قال تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) الأنعام (38) عليه لقد استعان العلماء بالقرآن الكريم في معالجة التأتأة، فحاولوا معرفة الأصوات التي يتأتؤون فيها، فيطلبون من المصاب بالتأتأة أن يقرأ تلك الآيات التي توجد بها الأحرف التي يتأتؤون فيها، فيتدربون في قراءة بصورة منظمة ومنضبطة، مع مراعاة حالتهم النفسية ومحاولة زرع الثقة بالنفس فيهم [9، p. 31ـ35].
كما أن القراءة البطيئة وشهيق التنفس الكافي قبل بدء القراءة كان عاملا مساعدا في التغلب على التأتأة، كما رأينا سابقا عند واصل بن عطاء الذي كان يتجنب بعض الأصوات عندما يئس أنه غير قادر على أداءه أو نطقه كما ينبغي، كذا يدرب المصاب بالتأتأة على الأحرف التي يصعب نطقها، حتى يتمكن من نطقها، فيختار بعض الآيات التي تكثر فيها تلك الأصوات أو تتكرر، على الرغم من كثرة المصطلحات فإن علاجها تكاد تكون شبه موحدة.
مختصر طرق معالجة التأتأة:
لا يوجد وصفة واحدة أو وصفات متتالية لإنهاء التأتأة نهائيا كما في بقية الأمراض الطبية مثل مرض آلام الصداع أو البطن، لكن هناك جهود نفسية واجتماعية، وأثبتت الدراسات أن التسرع في معالجة التأتأة قد يجعل الأطباء الأمر سهلا على المعالج أسهل للمريض التخلص من هذا الداء، يمكن أن نلخص طرق علاج التأتأة، فيما يأتي:
انطلاقا عن المقولة المشهورة عن الأصوليين “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”، يحبذ قبل البدء بالعلاج على الاخصائي تشخيص حالة المريض قبل العلاج، ولها فاعلية بالغة في سهولة العملية العلاجية فمن ضمن الأسئلة المناسبة ما يلي:
- طرح أسئلة عن تاريخ المرض، لمعرفة عمر التأتأة، وكيفية التردد أو تكراره للأصوات.
- تحديد الحالة أو المواقف التي سببت التأتأة.
- معرفة جهوده السابقة لحل مشكلة التأتأة.
الإرشادات المهمة ينتهجها اخصائيون في معالج التأتأة:
- العلاج بالتحدث: أثبتت الأدلة العلمية أن هذا العلاج هو أفضل علاج مستخدم للكبار وصغار السن كذلك، حيث يهدف هذا العلاج إلى الآتي:
- تعليم الشخص كيفية التحدث ببطء لملاحظة الأوقات التي يتلعثم فيها وعند تحسن حالته يمكنه أن يتحدث بشكل أسرع.
- التحكم بالنفس عند التعرض لمواقف تزيد من حدة التأتأة.
- العمل على نمط الكلام المرن عند الشخص.

- العلاج المعرفي السلوكي: في علاج التأتأة عند الكبار يهدف هذا النوع للأمور الآتية:
- يعلم الشخص كيفية تحديد وتغيير طرق تفكيره بالأمور التي تجعل حالته تزيد سوءًا.
- يساعد في التخلص من التوتر أو القلقأو المشكلات المرتبطة بقلة الثقة بالنفس والمتعلقة بالتأتأة.
- يؤدي إلى تغيرات إيجابية في طريقة تفكير الشخص وتصرفاته.
يشمل عدة نواحٍ سلوكية، مثل: التواصل المباشر مع الشخص، ومهارات حل المشكلات، والتمارين التي تشمل إطالة طول الصوت، والتنفس العميق، والتحديات للأفكار غير المفيدة، والدندنة.
- العلاج باستخدام الأجهزة الإلكترونية: توجد العديد من الأجهزة المستخدمة في علاج التأتأة عند الكبار والتي يرتديها الأشخاص يوميًا خلال أدائهم لمهامهم اليومية حيث تساعد في أمور، ومنها:
- القدرة على التحكم في الكلام.
- التحسين من طلاقة اللسان.
- المساعدة في إبطاء الحديث.
- العلاج الدوائي: سبق أن أشرنا إلى أن هذا المرض نفسي أكثر من الفسيولوجي، كما أن المرض النفسي يولد مرضا جسميا، قد يلجأ الأطباء إلى استخدام الأدوية للتهدئة قد يهدأ نسبيا، إليك أهم الأدوية المستخدمة فيما يأتي:
- مضادات الاكتئاب:سيتالوبرام (Citalopram)، وكلوميبرامين: (Clomipramine).
- مضاد القلق: ألبرازولام: (Alprazolam).
ملاحظة: لا نوصي باستخدام الأدوية دون إرشاد طبيب أو صيدلاني مطلقا.
- نصائح عامة لعلاج التأتأة: إضافةً للطرق المستخدمة في علاج التأتأة عند الكبار، هناك بعض النصائح التي يمكنها أن تساعد، مثل:
- استرخِ، فالاسترخاء يساعد على تصفية ذهنك وجسدك من أي مسببات للتوتر التي قد تقلل ثقتك بنفسك وتسبب لك التأتأة.
- مارس تمارين النطق حيث تساعدك في التحكم والتركيز في عضلات فمك، وبالتالي التحكم في حركات الوجه وتحسين القدرة على التحكم في الحديث.
- تنفس بعمق عن طريق حبس أنفاسك للحظات ومن ثم إطلاقها ببطء مع إغماض عينك؛ فيمكن لهذا التمرين أن يصرف عنك القلق الذي يسبب لك التأتأة.
- قم بتسجيل صوتك وأنت تتحدث بشكل يومي؛ لأن هذا سيكشف لك عن نمط الحديث الذي يسبب لك المشكلة، وبالتالي يمكنك تعديله والتخلص منه.
- قم بأداء بعض الحركات التمثيلية حيث تعد هذه الطريقة ناجحة في العلاج؛ لأنه من خلالها يمكن للشخص أن ينظر لنفسه بطريقة أفضل.
- عرِّض نفسك للمواقف الاجتماعية بعد تدريب نفسك على تمارين التنفسوالاسترخاء التي سوف تساعدك.
- اطلب المساعدة من الأشخاص المقربين لك، فهذا من أجله أن يساعدك[13].

كيفية التعامل مع شخص يعاني من التأتأة:
لقد سبق أن أشرنا إلى أن المرض نفسي مما يعني مراعاة حالة نفسية المريض، وهذه الطرق يهم جميع الأمهات والآباء وبالأخص المعلمون أو القائمون في مجال التربية، عليه نوجز هذه الطرق في النصائح التالية في التعامل مع المتأتي مثل:
- تجنب إنهاء جمله حين يتحدث؛ لأن الطرف المقابل قد يعاني لاستخراج كلامه.
- امنح الطرف الآخر الوقت الكافي لإنهاء كلامه دون مقاطعة.
- لا تطلب منهم التحدث بشكل أسرع وان أبطئ.
- أظهر الاهتمام للأحاديث التي يشاركون بها.[10، 85].
المطلب الثاني: تجارب دول غرب إفريقيا في مكافحة ظاهرة التأتأة
بفضل الله سبحانه قد حظيت جمهورية مالي باحتضان كلية الطب والصيدلة للدول الناطقة بالفرنسية من غرب إفريقيا ووسطهاـ، يمكن اعتبار ذلك مفخرة للطالب المالي؛ لكن لما كان هذا المرض يتقاسم عليه علماء التربية وعلماء اللغة وعلماء النفس، كل يرى أنه من اختصاصه، لقد تأخر علماء الطب عن الاهتمام به نسبيا.
كما أن الأغلبية تنظر إلى التأتأة على أنها مرض خَلقي وراثي أو تقليدي نتيجة لمحاكات ذي التأتأة، لا يرون لها علاجا وكما أن هذا المرض يوجد له ألم جسماني، وأن مظاهره وأعراضه تكتفي على الجانب النفسي والاجتماعي مما جعل الناس لا يعطون له اهتماماَ كما ينبغي، على الرغم أن آثاره عميقة إذ قتل كثيرا من القدرات الذهنية والمواهب الإبداعية للأجيال.
فعلم أمراض الكلام واللغة بصفة عامة من المهن الناشئة في غرب إفريقيا، لا يعرف هذا المرض إلا القليل، توغو هي الدولة الوحيدة التي تحتضن (37) مركزا لمعالجة أمراض النطق عامة بما فيها التأتأة، لديهم مؤسسة تهدف إلى تكوين الأطباء في هذا المجال.
أما في بوركينا فاسو منذ عام 2001م أسس قسم في مستشفى الأطفال لرعاية ضحايا أمراض الكلام، ولا يزال المتخصصون في أمراض الكلام قليلين جدا عندهم بحيث أشارت بعض الدراسات إلى أن كل مجموعة 8 من معالجي أمراض النطق 3 محليون، وهم تخرجوا من المعهد التوغولي (ENAM)[1] المعروفة باسم المدرسة الوطنية لمساعدة الأطباء[2].
أطباء النطق في بوركينا فاسو قد تركوا أثرا ملموسا، إذ استفاد (37) مريضا خلال العام 2016م وحده، وفي الوقت الراهن يتم ألف جلسة تأهيل مرضى النطق سنويا، لكن تشير الدراسات أن أغلب الذين يعملون في هذا المجال يعملون في العيادة الخاصة، وبالأخص مركز واغادوغو [16].
وتعتبر ساحل العاج من الدول الإفريقية الفرنكوفونية الراعية لهذه الدراسات في غرب إفريقيا، تدرج الاضطرابات النطقية داخل عمل دار الإعاقات التي أسست منذ عام 1989م، وتشرف عليه جمعية المسيحيين بالأخص (الوفد الكاثوليكي للتعاون)، لكن جل القائمين المعالجين لأمراض الكلام متطوعون غير موظفين [16]، ربما التواصل بمركز ساحل العاج أسهل بحيث تركوا عناوينهم كاملة، الشارع والبلد أو المدينة وأرقام الشارع والبريد، حتى أرقام التواصل معهم.
السنغال من الدول المجدة في غرب إفريقيا، لها استقرار نسبي أكثر من جاراتها، وهذا الاستقرار يسمح لها بالتوسع في مجالات عدة، فهي لن تتأخر في مثل هذه القضايا، لديها عيادة مختصة في مدينة داكار المهتمة بالأمراض النطقية، بل بعض أعضائها منضمون في الجمعية العالمية لمعالجة أمراض النطق، ولهم شخصيات كبيرة لدى بعضهم مجموعة من الخبرات يقارب حاليا ثلاثة عقود من التجربة والعمل [18].
أما جمهورية مالي، دولة الحضارات، فقد كان لها وعي بحث عن معالجة الأمراض، عليه جاء في المثل الشعبي “من لم يجول بمرضه لن يجد علاجا”، فمالي كانت من الدول ذات فطنة بهذا المرض مبكرا إذ تنبه إليه مؤسسو (الجمعية المالية لمكافحة الإعاقات العقلية عند الأطفال) منذ نشأتها 31 يوليو عام 1984م بفضل الجهود الحثيثة للسيدة سانوغو خديجة بغايوغو والشخصيات المالية الأخرى والأجنبية، التي تتخذ حومة لافيابوغو مقرا لها.
حيث افتتح معها قسم خاص بمعالجة أمراض النطق سمته (ARTHOPHONISTE) وكانت مهمتها الأساسية هي الاهتمام بمعالجة أمراض النطق عند ذوي الاعاقات كتأخر النطق أو الكلام، وكذلك التأتأة، لم تكتف الجمعية بالأطفال ذوي الإعاقة فحسب بل توسعت دائرة اهتمامها حتى شملت كل من كان يعاني من أمراض الكلام بصفة عامة كالذين أصيبوا بصدمة فعجزوا عن الكلام أو مرض مفاجئ منعهم عن الكلام [19].
ولما كانت الجمعية إنسانية وجدت دعما حكوميا أدرجت ضمن أعمال وزارة التنمية الاجتماعية بغية تعزيز شخصية ذوي الإعاقات والدفاع عن حقوق الإنسان، ساهمت المنظمات الدولية غير الحكومية في تطوير أعمال الجمعية فكانت الدورات التكوينية لكوادرها مستمرة بالداخل والخارج، فمن ضمن ذلك انطلقت بوادر تكوين الكوادر المهتمة بمجال أمراض النطق عامة والتأتأة بصفة خاصة في مالي بصفة خاصة وغرب إفريقيا عامة.
ولقد استفاد كثير من الماليين بهذه الدورات المكثفة في هذا المجال، وخاصة الذين يحملون شهادة جامعية من كلية العلوم التربوية، إذ إنها تنصب في اهتماماتهم، بل لديهم مادة خاصة بدراسة أمراض النطق وتأخره لدى الأطفال.
علاوة على ذلك هناك مجموعة من المدارس خاصة بضعاف السمع في باماكو، منها ما هي موجودة في هيبودوم التي تمت انشاؤها منذ عام 1993م بدءا من رياض الأطفال حتى إلى الثانوية، هي بدورها كانت تبذل جهودها في إقامة دورات مكثفة في أمراض النطق بما فيها التأتأة، بفضل هذه الجهود وجدت مالي مجموعة من الإخصائيين في هذا المجال ووجدت مجموعة من العيادات ذات الاهتمام بشأن أمراض النطق.
وبالتعاون وتبادل الخبرات بين المؤسسات، بعض المؤسسات الفرنسية ترسل وفدا الى مالي بغية التداول عن ظاهرة الأمراض النطقية بما فيها التأتأة باعتبارهم خبراء في الجانب النظري، والماليون بدورهم خبراء في الجانب التطبيقي، فكان هذا التعاون مبينا على تبادل الخبرات، استمر هذا التعاون الثنائي إلى أن حدثت حادثة الانقلاب عام 2012م ودخلت البلاد على ظروف أمنية غير محمودة فتوقف هذا العطاء العلمي والإنساني [19].
ربما باستثناء الدورات التي تقام في مراكز ضعاف السمع والجمعية المالية لمكافحة الإعاقات العقلية عند الأطفال ليس هناك مدرسة أو معهد خاص بدراسة أمراض النطق ـ على حد علم الباحث ـ لكن كلية العلوم التربوية توجد فيها مادة بأمراض النطق لأنها من متطلبات النمو، إذ النمو اللغوي وتأخره له أهمية قصوى في نجاح عملية التعلم والتعليم، لقد برز محاضر علي ألفا غالو في هذا المجال في جامعة الآداب والعلوم الإنسانية كلية العلوم التربوية.
على صعيد المصحات الحكومية تأسست فروع الجمعية المالية لمكافحة الإعاقات العقلية عند الأطفال في كثير من الأقاليم المالية: كفرع إقليم موبتي وفرع إقليم سيكاسو وغيرهما، لكن قسم أمراض النطق خاصة بالأم باماكو لكن يتعاونون مع اخصائي باماكو بغية التغلب على المرض، إذا تفاقم المرض يرسلونه إلى العاصمة [19].
يؤكد الاخصائي أن هذا المرض ليس له وقت للعلاج قد يعالج في الصغر والكبر، كما يؤكد أيضا الجمعية وهي مؤسسة إنسانية شبه حكومية تتم العلاج عن طرق إدارة المؤسسة كمثل بقية المصحات الحكومية، ومن خلال المقابلة يحكي قصة طريفة أنه لما أكمل دراسته وذهب الى قريته كان هناك مرضى مصابون بالتأتأة أراد أن يقترب منهم للعلاج قالوا له: “لقد ولدت ونحن نعاني من هذا المرض كيف تغير ما كان قدرا مقدورا”؟
لكن مع تفهمه بحالتهم النفسية استطاع أن يتحمل كلماتهم الجريحة، فشاءت الأقدار أن كان سببا لمعافاتهم من المرض والحمد لله، كما ضرب مثلا عن بعض طلبة في المدرسة العليا يواصلون دراستهم.
مدّة علاج التأتأة
أما يتعلق بمدة علاج التأتأة ليس له فترة محددة بل قد يطول الفترة وتقتصر بناء على تقارب المريض مع الاخصائي والبيئة التي يعيش فيها المرض، لأنه مرض نفسي يفضل البيئة التي يراعي حالته النفسية، لكن التجربة التي مرت بها المؤسسة أغلبهم تعافوا خلال ثلاثة أشهر، يقول مغالا سماكي الاخصائي المعتمد في الجمعية أن التأتأة تكثر لدى الرجال أكثر من النساء في مجتمعاتنا، ربما لكثرة أعمالهم واحتكاكهم بالناس وتعرضهم بمجموعة من المواقف النفسية والاجتماعية.
من المؤسف جدا أن التوعية بمعالجة هذا المرض ضئيلة جدا على حسب القصة التي أوردها الاخصائي ([3])، لا يزال أهل باماكو هم الذين يراودونهم لمعالجة مرض التأتأة من الكبار، بالبساطة لأن غير أهالي باماكو لا يعرفون بأنه يعالج أصلا بطريقة حديثة [19].
وفي الجهود المبذولة لمكافحة الظاهرة سعت المصابون بهذا المرض إلى (جمعية التغلب على التأتأة في مالي) التي تم تأسسها منذ 27 أكتوبر عام 2005م في دار العجزة باماكو، وتأسيس هذه الجمعية تعتبر خطوة كبيرة في توعية الجماهير بمعاناة المصابين بهذه الظاهرة من صعوبة بالغة في أداء وظائفهم الاجتماعية والمهنية أحيانا أخرى، علاوة على ذلك تكثيف الجهود لمكافحة الظاهرة، كما أصبح يحي اليوم العالمي للتأتأة في مالي وهو 22 أكتوبر من كل عام، وفي الآونة الأخيرة تسلط عدسات الكاميرا القنوات المالية على إحياء يومهم العالمي.
وتصنف في مالي ضمن أمراض الإعاقة، تعالج في مصحات الأمراض الإعاقة العقلية كمثل: الجمعية المالية لمكافحة الإعاقات العقلية عند الأطفالAMALDEME)) وهي تعتبر أكبر مؤسسة تهتم بالأمراض العقلية لدى الأطفال، ومن ضمن ما يعاني منها الأطفال أمراض النطق بشتى أنواعها سواء التأخر اللغوي أو التأخر النطقي ومنها التأتأة، وتتخذ الجمعية حومة لافيابوغو مقرا لها.
كما تهتم جمعية إعادة الادماج في مالي([4]) أو مركز الأب برنارد التي أسست 15 مارس 2006م الواقعة في حومة باكو جيكوروني تحمل اسم مبشر فرنسي أبيض تسعى هذه المؤسسة الى العناية بذوي الإعاقة بأنواعها المختلفة خاصة المبتورين، والمصابين بأمراض النطق، لديهم قسم خاص بمعالجة أمراض النطق بما فيها مرض التأتأة، السيدة توغولية هي تقوم برعاية مرضى النطق كما أشرنا مسبقا أنها أكبر مركز يكون أطباء في هذا المجال توجد في توغو [19]، تقول السكرتير الطبيبة أن المركز قد يستقبل يوميا على الأقل 15 مريضا مصابا بأمراض الكلام بصفة عامة.
أما على صعيد العيادات الخاصة بأمراض النطق وظاهرة التاتأة قد يصعب حصر العيادات الخاصة في هذا المجال إذ كثير من الماليين تبنهوا إلى خطورة أمراض النطق اهتموا بها من الداخل والخارج، بناء على سياسة الدولة التي تتبنى النظام الرأسمالي المشجع للخصصة، ففتحت عيادات أمراض النطق في كثير من الحومات والمدن، صعب جدا حصرها اليوم في عدد معين.
من أشهر الاخصائيين الماليين البارزين في معالجة أمراض النطق وخاصة ظاهرة التأتأة: السيد/ مغالا سماكي الاخصائي المعتمد لدى الجمعية المالية لمكافحة الإعاقات العقلية عند الأطفال، والسيدة/ أمو توري، والاخصائي دمبا تراوري كان يعمل في الجمعية المالية لمكافحة الإعاقات العقلية عند الأطفال، والمحاضر الجامعي/ علي ألفا غالو [19]، وأسيتا تراوري اخصائية تعمل في عيادة خاصة في حمد الله آسي [20].
ربما يعتبر الاخصائي أغيبو مدان تال من أشهر الاخصائيين المالين الذين ساهموا في توعية الجماهير عن ماهية ظاهرة التأتأة؛ إذ شارك في ذكرى اليوم العالمي للتأتأة بثته هيئة الإذاعة الوطنية المرئية [21] ([5])، وعلاوة على مشاركته في ذكرى اليوم العالمي للتأتأة في القناة المرئية رينوفو [21]، هو يعتبر أكثر شخصية مناضلة لمكافحة ظاهرة التأتأة، على الرغم أنه مر قانوني التكوين وليست من كلية العلوم التربوية.
أما ما يتعلق بالأجانب توجد اخصائية ديورا أوفي وهي توغولية خريجة من المعهد التغولي لمكافحة أمراض النطق وهي لدى مؤسسة إنسانية جمعية إعادة الإدماج في مالي، الواقعة في حومة باكو جيكوروني.
الخاتمة
لا شك أن ظاهرة التأتأة ظاهرة نفسية واجتماعية أكثر من كونها عضوية وأصحابها يعانون كثيرا من نظرة دونية من قبل مجتمعهم الذي قد يعجج المرض فيزداد، بل النظرة الدونية سببت في بروز هذا المرض أصلا، أما الصدمة النفسية التي تتعرض المرض قد ينتج هذه الظاهرة، أثناء الحمل، وأثناء الولادة إضافة إلى أمراض أخرى..
لقد شغلت بال علماء الأطباء وعلماء النفس العاملين في مجال التربية، لما يترتب عليها من صعوبة التعليم وإعاقة أداء بعض الوظائف الاجتماعية، فكانت مبادرات علمية كثيرة منها ما هو التقليدي ومنها ما هو الطبي ومنها ما هو الاجتماعي ومنها ما هو النفساني، لكن أخيرا صنفت من ضمن اختصاصات علماء النفس والتربية.
كانت هذه الدراسات تسعى إلى بيان ماهية التأتأة وأسبابها وطرق معالجاتها، وجهود علماء غرب إفريقيا لمكافحتها توصلت الدراسة إلى جملة من نتائج أهمها:
- التأتأة ظاهرة عالمية وتاريخية موغلة في التاريخ لا أحد عرف تاريخها.
- ظاهرة التأتأة عانى منها مجموعة من الشخصيات المشهورة في العالم الشرقي والغربي.
- ظاهرة التأتأة لها أسباب عضوية فسيولوجية، وأسباب اجتماعية وأسباب نفسانية صرفة.
- معالجة ظاهرة التأتأة ليست مرهونة عن شهادات طبية من كليات الطب، بل حاجة نفسانية.
- ظاهرة التأتأة كغيرها من الأمراض تعالج وتعافى كما يعالج ويعافى بقية الأمراض الجسدية.
- ظاهرة قل وعي الجماهير الشعبية عن ماهيتها وأسبابها وطرق علاجها ومراكز علاجها عندنا.
- أكبر معهد لتكوين اخصائي أمراض النطق تقع في توغو بالنسبة لغرب إفريقيا عامة.
- بفضل توسع العلوم ظهرت مجموعة من المصحات المهتمة في المجال منها ما هو حكومي ومنها ما هو خاص.
- الجمعية المالية لمكافحة الإعاقات العقلية عند الأطفال أولى مؤسسة حملت على عاتقها محاربة ظاهرة التأتأة.
الحمد لله كثيرا هناك مجموعة من العيادات النفسية والطبية لمعالجة هذه الظاهرة من أبناء البلد وغير أبناء البلد.
التوصيات
بعد جولة علمية في التراث العلمي الإنساني والتراث الافريقي حول ظاهرة اضطراب التخاطب نستخلص جملة من النصائح العامة والتوجيهات مفادها:
- مراعات نفسيات المصابين بمرض التأتأة، لأن أية سخرية منهم وأي استفزاز سيزداد المرض سوءا.
- مراعات الدراسات الأكاديمية الظواهر الاجتماعية والنفسية في بحوث التخرج والماستر إلخ.
- توعية الجماهير الشعبية عن ماهية المرض وأسبابها وطرق علاجها عبر القنوات الإعلامية المعاصرة.
- توفير اخصائي الأمراض النطقية في كل الأقاليم المالية، بدلا من تخصيصه في مقر الجمعية بلافيابوغو.
كانت هذه الدراسة عبارة عن تسليط الضوء على ظاهرة التأتأة، باعتبارها عاملا أساسيا في عرقلة العملية التعلمية، ومحاولة الإشارة إلى جهود المبذولة لمكافحة هذه الظاهرة وغيرها من الأمراض النطقية في غرب إفريقيا عامة وفي مالي بالخاصة.
عليه يمكن أن نختتم هذه المقالة أن لغرب إفريقيا جهود مشكورة في مكافحة الأمراض النطقية ومالي بالأخص، لكن جهود مستورة، إذ كثير من شعوب المنطقة جاهلة عن هذه الجهود المشكورة، أخيرا أرجو أن أكون قد سلطتُ الضوء على الظاهرة ولو جزئية، التي قتلتْ كثيرا من المواهب والخبرات.
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش والإحالت:
[1] (Van Piper & Emerick)
[2] يقصد بها تكرار التاء والهاء (ته ته ته) يضم تحت مفهوم التأتأة بالعربية.
[3] ـ l’Ecole Nationale des Auxiliaires Médicaux (E.N.A.M.)
[4] ـ أنشئت هذه المدرسة منذ عام 1945م وتعتبر أول وأكبر مركز تدريبي معياري أكاديمي للمعاقين في توغو.
[5] ـ يحكي الاخصائي مغالا سماكي، لما انتهى من دراسته رجع الى مسقط رأسه، وكان يوجد في القرية مصابان بمرض التأتأة اقترب منهم وقال لهما أنه بامكانه معالجة مرضهما، قالا له استفزازا “لقد ولدتَ ونحن نعاني بهذا المرض، فكيف تغير ما كان قضاءا مقدورا هل أنت تقدر شيئا من خلق الله”، لكن الاخصائي كان حظي بتدريب جيد لأنه يعرف نفسيتهم، وفصابر على كلامهما الجريح وتحمله، واجتهد حتى أقنعهما بالشروع في المعالجة وبتوفيق من الله سبحانه عافا من المرض ويعيشان اليوم عيشة طبيعية مع الناس.
[6] ـ HANDICAP ET REINSETION MALI(HRM)
[7] ـ l’Office de radio et télévision du Mali (Ortm)