عُرِف السيد عثمان سونكو -رئيس الحزب الوطني السنغالي من أجل العمل والأخلاق والأخوة- بمواقفه الواضحة والصريحة، وخطاباته النارية واجتهاده في مقارعة خصومه السياسيين خاصة الحزب الخاكم وأعوانه الذين غالبا ما يشربون من مورد واحد، وهو الدولة العميقة (السيستم) التي تدير البلاد منذ أمد بعيد.
ومن الملاحظ مؤخرا في تحليل النقاشات السياسية، أنّ ثُلّةً من المثقّفين والباحثين، يشعرون بالتّباين والازدواجيّة الفكريّة في خطاب السيد عثمان سونكو؛ حيث يقسمون مراحل خطابه السّياسي إلى قسمين رئيسين، هما :
- مرحلة الشّفافيّة والوضوح في طرح برنامجه: حيث عكف على عالم النظريات، والتصوّرات، وعرض الحقائق للرأي العام، بأسلوب راديكالي قويّ، يعطيه قاعدة جماهيريّة صلبة. فنقد الأسلوب القديم المتلوِّن، الذي كان الساسة السنغاليون يسيرون عليه، مُحاولا بذلك بناء صحوة سياسيّة، تتّسم بالوضوح ومراعاة القيم والأخلاق.
- مرحلة البراغماتيّة السياسية والمُراوغة: في هذه المرحلة وظّف قاعدة ماكيافيلي السياسية التي ترى أنّ “الغاية تُبرّر الوسيلة“، فانصرف عن مثاليّته القديمة، وعدَل عن راديكاليته في الخطابة؛ ليتأقّلم مع الواقع، وينسجم مع البيئة السياسية السنغالية، فمارس العمل السياسي مثل الليبراليين والسُّوسِياليين، صُنّاع القرار في السيستيم (الدولة العميقة).
إقرأ أيضا
- صناعة النخب الإفريقية في ظل نظام التعليم الاستعماري: عرض وتحليل
- السنغال: المعارضة تطالب بفوزها في الانتخابات التشريعية
- رئيس الاتحاد الإفريقي ماكي سال يزور روسيا.. وبوتين مستعد للسماح بتصدير الحبوب الأوكرانية
ولتتقييم أعمال السيد عثمان سونكو وتحليل أقواله، ذهب الناس مذاهب شتى وسلكوا فِجَاجاً جمّة في تقدير مواقف الرجل وتصريحاته. حتّى وصل بعضهم إلى القول بأنّ عثمان سونكو كان سلفيّا ملتزماً؛ لكنّه تنازل عن انتمائه (الطائفي الدّيني)، وتبنّى منهجا مختلفا ذو مُوالاةٍ طائفةٍ دينيّة أخرى، لها حجمها ونفوذها على مستوى الدّولة كورقةٍ للتّلاعب بالرأي العام، ولتبرئة نفسه من الشّك، من أجل تحقيق أهداف استراتيجيّة، والحصول على مصالح سياسيّة محضة، ولو على حساب المبادئ والقيم. لكن الكثير من هؤلاء لم يستوعبوا ولم يفهموا بأنّ النظام الحاكم هو من يُحاول استخدام أساليب المكر والخداع؛ لإصباغ الانتماءات الطائفية كورقة ضمن أوراق الحروب السياسية لشيطنة سونكو، وإجهاض ثورته الإصلاحيّة.
وفي هذا الإطار، هناك العديد من الأسئلة التي تطرح نفسها أو يطرحها الناس لبعضهم البعض في تحليلاتهم لخطاب عثمان سونكو. فدعوني أُورِد بعضاً منها، وأُجيب عليها على النحو التالي:
هل أخطأ السيد عثمان سونكو؟
أوّلا، يمكننا القول بأنّ السيّد عثمان سونكو ارتكبَ الكثير من الأخطاء السّياسيّة في بداية خوضه حلبة السياسة، نتيجة لعدم امتلاكه خبرة سياسية آنذاك، فقد حصر مفهوم السياسة في “المثاليّة” مثل الفارابي، و أفلاطون الذي سافر إلى أقصى الخيال لبناء مدينته الفاضلة، ولم يُدرك بأنّ مفهوم السياسة العمليّة وكيفيّة مُمارستها، يختلف كُلّياً عن النظريّات السياسية. فالنظريات السياسية تتحدّث عن (ما ينبغي أن يكون)؛ لكن ما هو كائن في الممارسة السياسية هو الذي يُشكّل الفضاءات الحقيقيّة. فالسياسة، يعرفها البعض، هي: فن تحقيق الممكن، وبناء المساحات المشتركة، وقطع جزء من الطريق مع كل سائر فيه.. دون الانحراف عن الوجهة، أو التفريط في المبدأ.
ولأجل أن ينجح الرّجل السياسي، لا بدّ أن يوازن بين المثالية والواقع. فالمثالية عبارة عن أفكار وعقيدة الرّجل السياسي، والواقع هو الطريق الذي سيسير عليه للوصول إلى أهدافه، والآليات التي سيتّكئ عليها لصناعة المساحة التي سيضع فيها قدمه لترجمة عقيدته السياسية، دون التفريط في المبدأ.
لماذا يتعامل عثمان سونكو مع رجال الدولة؟
المسألة هنا ليست مسألة تنازل عن مبادئ، أو تغيير في جذور الخطاب كما يتوهّم البعض، وإنّما هو فقه واقع السياسة السّنغالية، وتطوّر في النضج السياسي لسونكو. فالبنية الاجتماعيّة السنغاليّة، تفرضُ على الرّجل السياسي خلْق تحالفاتٍ وائتلافاتٍ، وعدم فتح جبهات حرب مع المعارضة، قبل الوصول إلى الغاية التي رسمها لنفسه، وذلك من أجل كسب مناورات سياسية مع المنافس في الحقل السّياسي.
هنُا سأستحضر كلام الزعيم السوفياتي السابق، استالين، الذي كان يقول: إنّ ممارسة العمل السياسي يحتاج إلى اعْوِجاجاتٍ في السّير؛ لأنّ الخطّ السياسي ليس مستقيما. والاعوجاج في السيّر أنوتع، منه التحالف والتصالح مع “النظام” الذي كان الزعيم ينتقده بالأمس، مقابل كسب رهانات سياسية ضدّ ائتلاف الحزب الحاكم. فالزّعيم سونكو تعامل مع رجال من يُعنَقدُ أنهم جزء من الدولة العميقة التي كانت تسيطر على مفاصل الدولة منذ الاستقلال ليس لأنّه تنازل عن مبدأ وتجرّد من عقيدة، وإنّما فعل ذلك مُمارسةً للعمل السياسي، وتأقّلما مع الواقع الذي كان يجهل خباياه وخفاياه لما كان في عالم التأطير والتنظير، وهي مرحلة ما قبل الانخراط في الميدان والساحة السياسية الفعلية.
هل يمكن لسونكو أن يعمل منفردا عن النظام العميق؟
لا يمكن هدم أركان الدولة العميقة والتغيير نحو الأفضل دون الانخراط فيه ةالغوص في ثبوره وليس الانحلال. حتّى رسول الله عليه الصلاة والسّلام، تأَقْلم مع الواقع السياسي في المدينة المنوّرة، فدستور المدينة كان يهدف إلى تحسين العلاقات بين مختلف الطوائف والجماعات في المدينة، ومن بينها الفصائل اليهوديّة وغيرهم، وبمقتضى هذه التحالفات والصلح يتمكن المسلمون واليهود وجميع الفصائل من التصدي لأي عدوان خارجي على المدينة المنورة. هذا كان قبل أن يكون للإسلام قوّته الضاربة، وترسانته العسكريّة الصلبة، ولما رسّخ – صلوات ربي وعليه- قواعدَ الإسلام سياسيّا وعسكريّا نظّف يثرب من الخونة.
وفي نهاية المطاف، على كل سنغالي حريص على أن يرى إصلاحا سياسيا وعدالة اجتماعية حقيقية، ينبغي له التركيز على البرنامج السياسي الذي يطرحه كل صاحب مشروع كبير، وبالأخص السيّد عثمان سونكو، وهو المشروع الذي يحمل أمل الأمّة السنغالية، ويثور على الفساد والرشوة وسوء توزيع الثروة، أمّا التركيز على نقد خطاباته السياسية ووصفها بالازدواجية، خاصة في هذا الوقت العسير الذي تكالبت الأنظمة القمعيّة على إخفاء الأصوات التي تنادي بالإصلاح الحقيق ووأد أفكارها في مهد انطلاقها، ولا يهمهم سوى سرقة موارد البلاد والتلاعب بمؤسّسات الدولة ليس من الوعي السياسي في شيء.
فما دام عثمان سونكو لم يتغيّر جوهر المشروع الواعد الذي طرحه، منذ نشأته السياسية، فيمكن أن نعذُره، ونغضّ الطّرف عن بعض الهفوات الشكليّة أو الصوريّة.
خطابات حماسية للزعيم عثمان سونكو