في خطوة تاريخية وغير مسبوقة، في 31 ديسمبر 2024م تمتْ عملية مصادرة 3 طُنُّات من الذهب من شركة باريك الكندية في مالي من قبل المجلس العسكري الخاكم للبلاد، كجزء من نزاع طويل حول حصة الدولة من الإيرادات التي تخص قطاع التعدين في البلاد.
وتأتي هذه المصادرة في وقت حساس للغاية؛ حيث تحاول مالي تقوية سيادتها الاقتصادية في ظل الوضع الأمني المتأزم، والعلاقات المعقدة مع القوى الأجنبية.
وقد يعكس هذا القرار تحولًا في سياسة مالي تجاه الشركات الأجنبية، خاصة في قطاع التعدين الذي يعد من الأعمدة الأساسية للاقتصاد الوطني. وعلى الرغم من أهمية هذه الخطوة في تعزيز السيادة الوطنية، والتحكم في الثروات الطبيعية، إلا أنها تثير تساؤلاتٍ كبيرة حول كيفية إدارة هذه الموارد بشكل يحقق الفائدة الفعلية للشعب المالي.
ولهذه الأهمية، سنناقش في هذا المقال هذا الحدثَ الهام، من خلال تحليل ثلاث قضايا رئيسة، وهي: التحديات الاقتصادية والسياسية المتعلقة بالسيادة الوطنية في قطاع التعدين، ومخاطر غياب الشفافية والحوكمة في التعامل مع الشركات الأجنبية، والتداعيات الاجتماعية والاقتصادية على الشعب المالي.
جدول المحتويات
تعزيز السيادة الوطنية في قطاع التعدين
تأسست شركة “باريك” في كندا عام 1983 وتعتبر من أكبر شركات التعدين في العالم. تملك الشركة العديد من المناجم في أفريقيا، ومن ضمنها منجم “سوسو” في مالي الذي يُعد من أكبر مناجم الذهب في البلاد.
مالي تعد واحدة من أكبر الدول المنتجة للذهب في أفريقيا، حيث يُعتبر الذهب المصدر الأول للإيرادات في البلاد بعد أن شكل أكثر من 25% من إجمالي صادراتها في السنوات الأخيرة. على الرغم من أن القطاع يشهد نمواً مستمراً، إلا أن معظم العائدات من هذا القطاع تذهب لصالح الشركات الأجنبية، ما يضعف من قدرة الحكومة المالية على الاستفادة من هذه الموارد الهائلة. بحسب تقرير البنك الدولي، يُقدّر إنتاج الذهب في مالي بحوالي 50 طناً سنوياً، ويعتبر هذا الرقم من أعلى معدلات إنتاج الذهب في أفريقيا.
شركة “باريك” الكندية، هي إحدى الشركات الكبرى التي تنشط في مالي من خلال مشروعها في منطقة “كايس” غرب البلاد. تأسست “باريك” في كندا في عام 1983 وتعتبر من أكبر شركات التعدين في العالم. تملك الشركة العديد من المناجم في أفريقيا، ومن ضمنها منجم “سوسو” في مالي الذي يُعد من أكبر مناجم الذهب في البلاد. ووفقاً لتقارير الشركة، فإن باريك تنتج سنوياً حوالي 5 ملايين أونصة من الذهب عبر عملياتها المختلفة في أنحاء العالم. لكن على الرغم من هذا الإنتاج الضخم، فإن الحكومة المالية لا تحصل إلا على جزء ضئيل من العائدات مقارنة بالثروات التي يتم استخراجها من أرضها.
يعود سبب هذه الفجوة إلى عدة عوامل، أهمها وجود اتفاقيات تُفضل الشركات الأجنبية على حساب الدولة، حيث تستفيد هذه الشركات من امتيازات ضريبية وشروط مالية ميسرة، بينما يُحرم الشعب المالي من الحصول على جزء أكبر من هذه الثروات. الحكومة المالية، في الوقت الذي تدير فيه هذه الشركات، تتعرض للضغوط الاقتصادية الداخلية والخارجية، وبالتالي، فهي مضطرة إلى الاستمرار في هذه الاتفاقيات التي تُعتبر غير عادلة في نظر الكثير من الماليين. لذلك، تأتي خطوة مصادرة الذهب من “باريك” كخطوة قوية في محاولة لتصحيح هذه المعادلة وتأكيد السيادة الوطنية على الموارد الطبيعية.
إنّ هذا النزاع هو نتاج سنوات من التوتر بين الحكومة المالية والشركات الأجنبية. فقد سعتْ دولة مالي مراراً إلى تعديل الاتفاقيات المبرمة مع الشركات الأجنبية؛ بحيث تحصل على نصيب أكبر من الإيرادات، خاصة مع ازدياد الأزمات الاقتصادية في البلاد.
وفي هذا السياق، يعتبر مصادرة 3 طُنُّات من الذهب خطوة هامة لإعادة التوازن بين حقوق الدولة والشركات الأجنبية. لكن يبقى التحدي الأكبر في كيفية إعادة استخدام هذه الأموال لصالح الشعب المالي بشكل عادل وفعال.

تحديات الشفافية والحوكمة
تُعتبر قضية الشفافية في قطاع التعدين من أكبر القضايا التي تواجهها الدول الأفريقية بشكل عام، ومالي بشكل خاص. في الواقع، يُعتبر قطاع التعدين في مالي أحد القطاعات الأكثر عرضة للفساد وسوء الإدارة. غياب الحوكمة الجيدة في هذا القطاع يجعل من الصعب على الحكومة المالية مراقبة تدفق الإيرادات والتأكد من حصولها على حصتها العادلة من الذهب. وقد كشفت تقارير متعددة عن وجود تلاعبات مالية من قبل بعض الشركات التي تستغل الثغرات في التشريعات المحلية لتقليص الحصص المستحقة للدولة.
ومن المعروف أن “باريك” كانت قد تعرضت لانتقادات عدة في هذا الصدد، حيث يشير البعض إلى أن الشركة الكندية كانت تستخدم بعض الأساليب للتلاعب بالأرقام والتهرب من دفع الضرائب المقررة في مالي. هذه الممارسات ساهمت في زيادة الشكوك حول نية الشركات الأجنبية في التعاون بشكل كامل مع الحكومة المالية في مجال استخراج المعادن. إضافة إلى ذلك،
فوجود الشركات الأجنبية في قطاع التعدين دون وجود نظام رقابي قوي يسمح لهذه الشركات بتصفية أرباحها إلى خارج البلاد دون أن تستفيد مالي بالشكل الذي يناسب حجم ثرواتها.
إن غياب الشفافية يعقد عملية اتخاذ القرارات السليمة من قبل الحكومة، كما يعيق إنشاء آليات فعّالة لضمان التوزيع العادل للموارد. في هذا الإطار، نرى أن عملية مصادرة الذهب من “باريك” تأتي كرسالة هامة للمجتمع الدولي مفادها أن مالي جادة في التعامل مع هذه القضايا. من المهم هنا أن تُبذل جهود حثيثة لإصلاح النظام القانوني والتشريعي المالي من أجل خلق بيئة أكثر شفافية تعزز من قدرة الحكومة على تحصيل الإيرادات من القطاع بشكل أفضل.

تداعيات عملية مصادرة 3 طُنُّات من الذهب من شركة باريك الكندية في مالي
تُعد التداعيات الاجتماعية والاقتصادية لمصادرة 3 طُنُّات من الذهب من شركة باريك الكندية في مالي، من الأبعاد التي يجب التركيز عليها بشكل خاص. في بلد يعاني من مستويات مرتفعة من الفقر والبطالة، حيث تصل نسبة الفقر إلى حوالي 43% من إجمالي السكان بحسب تقرير البنك الدولي لعام 2023، فإن أي إيرادات إضافية من قطاع الذهب يجب أن تُستخدم لتحسين الظروف المعيشية للمواطنين.
منذ أن تولت الحكومة العسكرية السلطة في 2020، بدأ التركيز على إعادة توجيه عائدات قطاع التعدين نحو مشاريع تنموية تستهدف تحسين البنية التحتية، وتحقيق الاستقرار في المناطق الأكثر تضررًا من النزاع والجوع. الحكومة المالية قد وضعت خططًا للاستخدام الأمثل للموارد المستخلصة من هذه المصادرة، إلا أن التحديات التي تواجهها في هذا السياق تظل كبيرة. فالنقص في الخبرات المحلية لإدارة هذه الموارد وتوجيهها نحو مشروعات استراتيجية، إضافة إلى تفشي الفساد في العديد من المؤسسات الحكومية، قد يؤدي إلى ضياع الفرصة وتحويل هذه الأموال إلى أداة أخرى لتعزيز الأزمة الاقتصادية في البلاد.
إذا تم استثمار الإيرادات الناتجة عن مصادرة الذهب بشكل صحيح، فإن ذلك قد يساهم في تحسين أوضاع المواطنين من خلال تمويل مشاريع حيوية في مجالات الصحة والتعليم، وهو ما سيساعد بشكل كبير في تحسين مستوى الحياة في مالي. وعلى الجانب الآخر، إذا فشلت الحكومة في استثمار هذه الأموال بشكل يتماشى مع أولويات الشعب، فإن هذه الخطوة قد تتحول إلى مجرد حلقة في سلسلة من الوعود التي لم تُنفذ، مما يزيد من غضب المواطنين ويعمق من مشاعر الإحباط.
الخلاصة
في الختام، تُعّدُّ عملية مصادرة 3 طُنُّات من الذهب من شركة باريك الكندية في مالي بمثابة خطوة استراتيجية من قبل الحكومة المالية لإعادة فرض السيادة على ثرواتها الطبيعية، وخاصة قطاع الذهب الذي يُعَدّ محركًا رئيساً للاقتصاد المالي.
فمع تَصَدُّر مالي دول إفريقيا في إنتاج الذهب؛ حيث يُقدر إنتاجها السنوي بنحو 50 طُنّاً من الذهب وفقًا لتقرير المجلس العالمي للذهب (2023)، تأتي هذه الخطوة لتبرز إصرار الحكومة المالية على استخدام هذا المورد بشكل يخدم مصالحها الوطنية ويعزز استقرار الاقتصاد.
ولكن هذه المصادرة، تثير تساؤلات كثيرة حول كيف يمكن لمالي استغلال هذه الثروات بشكل يعود بالنفع على شعبها بشكل حقيقي وملموس. فهل ستكون هذه الأموال مخصصة لمشاريع تنموية حقيقية أم ستضيع في مستنقع الفساد؟
إنّ نجاح هذه الخطوة يعتمد بشكل أساسي على كيفية توظيف هذه الموارد في مشاريع تعود بالنفع على المواطن المالي. ففي ظل الظروف الحالية التي تشهدها مالي من تحديات أمنية، وسياسية، واقتصادية، يبقى السؤال عن القدرة على تحويل هذه المصادرة إلى فرصة تنموية حقيقية عالقا. فكيف يمكن للحكومة أن تضمن أن الثروات التي صُودِرَتْ وثرواتها الطبيعية الأخرى لن تُسْتنزف من قبل فئة قليلة؟ وهل يمكن لمالي أن تبني هيكلًا جديدًا للتنمية يضمن توفير فرص عمل وتحسين مستوى المعيشة لشعبها؟
ومن جهة أخرى، يظل غياب الشفافية والحوكمة الجيدة أحد أبرز التحديات التي تواجه الحُكُومة في استثمار هذه المصادرات بشكل عادل وفعّال. فقد كانت مالي على مر السنوات عرضة لتقارير متعددة عن الفساد في قطاع التعدين، الذي يمثل حوالي 20% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. لذلك، سيكون من الضروري تعزيز نظم الرقابة في هذا القطاع لضمان الاستخدام السليم والفعال لهذه الثروات. فكيف يمكن ضمان العدالة في توزيع عوائد هذا الذهب على مختلف فئات الشعب؟ وهل هناك استعداد سياسي حقيقي لتنفيذ إصلاحات حَوْكَمة جذرية؟
لا شك أنّ تحسين الحَوْكَمة والتوزيع العادل للموارد في قطاع التعدين سيكون أساسًا في تحقيق التنمية المستدامة في مالي. ولضمان أن تكون هذه المصادرة نقطة انطلاق للتنمية الحقيقية، يتوجب على الحكومة العمل على خلق بيئة ملائمة لجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، ولكن في إطار من الشفافية والمصلحة الوطنية، بعيدا عن الحسابات السياسية الضيقة.
في النهاية، تظل الأسئلة مفتوحة حول قدرة الحكومة المالية على استخدام هذه المصادرات بشكل فعّال لتحقيق رفاهية شعبها وضمان استدامة الثروات الطبيعية على النحو التالي: كيف ستتمكن جمهورية مالي من استثمار هذه الثروات في إطار متكامل يتضمن التعليم، الصحة، والبنية التحتية؟ وكيف ستواجه التحديات الأمنية والتقلبات الاقتصادية؟ وهل ستكون الحكومة قادرة على إيجاد هذا التوازن بين السيادة الوطنية والمصالح الاقتصادية؟
هذه التساؤلات ستبقى قائمة؛ ولكن الوقت وحده كفيل بالإجابة عليها، مع استمرار مراقبة المجتمع الدولي والإقليمي والمحلي لما سيحدث في المستقبل القريب.