إنّ الزواج أحد طرق الاستجابة لدوافع الجنس لدى الإنسان، إلا أنه في نفس الوقت يتم حسب نسق ثقافي وديني خاص بموضوع الزواج في كل مجتمع؛ من حيث عدد الأزواج، ومن يحل بينهم الزواج ومن يحرم عليهم، ومن حيث الإجراءات القبلية كمراسيم الخِطبة والمهر وحفلات الزفاف وغيرها من الإجراءات التي تٌتَّبع لتحيقيق الزواج ومشروعية الاقتران بين الرجل والمرأة.
وزواج الأقارب أحد أنماط الزواج المنتشر في إفريقيا جنوب الصحراء[1]، ولكن تختلف الدول والقبائل في بعض تطبيقاته. وليس مقصودنا تناول الموضوع بجميع أبعاده، وإنما المقصود في هذه العجالة تناول أسباب انتشاره في سوننكرا، أو لدى شعب سوننكي عموما، وسوننكي دولة مالي خصوصا؛ لأنّ هذا النمط من الزواج يعتبر من أبرز الظواهر التي تميّز المجتمعات السوننكية عموما داخل القبائل الموجودة في مالي، فلا يحتاج المرء إلى تأمل دقيق ليٌدرك أنّ الزواج –غالبا- يتم بين امرأة سوننكية ورجل سوننكي في المجتمع السوننكي، وهي ظاهرة لا تختص بسوننكي دولة مالي فحسب؛ بل إنها ظاهرة موجودة في المجتمعات السوننكية في الدول الأخرى.
فسوننكي موريتانيا، وغامبيا، والسنغال، لا يختلفون عن سوننكي مالي في وجود هذه الظاهرة بينهم وإن اختلفت النِسب قوّة وضعفا لأسباب مختلفة وحسب طبيعة كل دولة. فما هي الأسباب وراء انتشار هذا النمط من الزواج في المجتمع السوننكي؟ وماهي مظاهره؟ هذا الذي نحاول معالجته في سطور محاور هذا المقال.
قبل الشروع في لبّ المقال، من الضروري الإشارة إلى أنّ المقصود بالزواج الأقارب هنا ليس الزواج بين الأقارب الذين يحرم بينهم الزواج في الشريعة الإسلامية، كزواج الأخ والأخت والذي يٌعرف في الاصطلاح الفقهي بـ ” المحارم” وإنما المقصود الزواج الذي يتم بين من تربطهم روابط أسرية دموية أو ينتمون لطبقة واحدة في القبيلة السوننكية دون أن تصل درجة القرابة إلى حدّ المحرمية التي تجعل الزواج ممنوعا ومحرما في الشريعة الإسلامية.
جدول المحتويات
نبذة مختصرة عن قبيلة سوننكي
تنحدر قبيلة ماركا، أوسراكولي، أوالتي تعرف بأشهر أسمائها سوننكي من شعَب “ماندينكو”، وهي إحدى القبائل القديمة الساكنة في عدة مناطق في جمهورية مالي، وبالتحديد في إقليم كاي (Kayes) وغيرها من المناطق السوننكية. ويمتدّ تاريخ القبيلة إلى ما قبل نشأة إمبراطورية غانا التي تٌعدّ من أقدم التجارب الإدارية المحلية في منطقة غرب إفريقيا. وإذا نظرنا إلى القبيلة السوننكية في العصر الحديث فإنه من الممكن أن نحصر وجودها بكثرة نسبية في خمس دول، وهي: مالي، موريتانيا، السنغال، غامبيا، وغينيا، ويٌلاحظ أنّ الشعب السوننكي موجود في مناطق أخرى داخل القارة الإفريقية كأقلية أو مهاجرين ساكنين في المهجر.[2]
ومن أهم خصائص القبيلة شدّة تعلقها بعاداتها ولغتها (اللغةالسوننكية)، والتكاتف والحمية بين أفرادها، والهجرة للتكسب إلى بعض دول وسط إفريقيا، وأروبا، وأمريكا، وأهم من هذه الخصائص السالفة خاصية التدين. فالدين الوحيد في المجتمعات السوننكية هو الدين الإسلامي، فلا توجد في المجتمعات السوننكية معابد غير المساجد التي يتأكد ناظرها بأن أصحابها أنفقوا عليها بسخاء.
أسباب ومظاهر انتشار زواج الأقارب في القبيلة السوننكية
هناك عدة أسباب ممكن ذكر أهمها على الشكل التالي:
السبب الديني: لا يمكن التغافل عن أثر الجانب الديني في موضوع انتشار زواج الأقارب في المجتمع السوننكي، كما لا يٌنكر تأثير التعاليم الإسلامية على الشعب السونننكي. فالعلاقة بين القبيلة وبين الإسلام وتعاليمه تمتد إلى النصف الثاني من القرن الأول الهجري؛ حيث دخل الإسلام في امبراطورية غانا عن طريق التجّار العرب القادمين من شمال القارة الإفريقية وكان سوننكي وقتئذ من القبائل الأساسية في الإمبراطورية، فمنذ تلك الفترة اهتم شعب سوننكي بتعلم وتعليم العلوم والتعاليم الإسلامية ونشر الحضارة الإسلامية في المنطقة.
ولا يشك أحد له إلمام يسير بالنصوص الشرعية وبأخبار التاريخ الإسلامي في أنّها تدعو إلى الإحسان إلى القريب وإلى صلة ذوي الأرحام، وأنّ من جملة ذلك تزويجه؛ رغبةً في ثواب التسبب في تعفيف المسلم وتوطيدا للعلاقة بعد ثبوت القرابة بالمصاهرة، وإجابة للأمر الرباني الوارد في قوله تعالى ” وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”.[3]
ومن مظاهر زواج الأقارب الذي سببه الدين والصلة للقٌربى ما يٌعرف في سوننكرا [4]بـ Allah Nkouyé والذي يعني التزويج لأجل الله والرغبة في الأجر، وهو نمط من الزواج يقع بين الأقرباء في الغالب كتزويج الإخوة لأبناء أخواتهم (Negallemme) ويتم مثل هذا الزواج في غاية اليسر والسهولة في التكاليف، وربّما دفع أب الفتاة مهرها بنفسه تيسيرا على قريبه الذي زوّجه.
هناك نوع آخريعرف عند سوننكي بـ “إعادة المرأة”؛ وهو أن يتزوج الأخ أرملة أخيه بعد وفاة هذا الثاني، وهي من العادات السوننكية الجيدة في موضوع الزواج إذا تم برضا الطرفين، وتحقّقت شروط النكاح المعروفة؛ إذْ إنّ هذا النوع من الزواج يٌسهم –ولو نسبيّا-في الحدّ من تصاعد ظاهرة العنوسة في المجتمعات السوننكية، كما يوفّر للأرملة فرصة متابعة حياتها في الدار وفي الأسرة نفسها ويمكّنها من العيش مع أولادها من الزوج الأول في نفس الأسرة.
وما تقوم به بعض النساء عند ولادة قريبة لهنّ بمولود أنثى أو في يوم التسمية من ربط الخيط في رِجل المولودة الجديدة إشارة منها إلى رغبتها في تزويج أحد أبنائها بالمولودة الجديدة عند بلوغها في سن الزواج؛ فيكون هذا العمل بمثابة خِطبة رمزية وعرفية مسبقة للبنت في أيامها الأولى لابن القريبة التي ربطت الخيط في رجلها، ما هو إلا من مظاهر زواج الأقارب.
فالجانب الديني المتمثل في الرغبة في ثواب المترتب على صلة الرحم عموما وتزويج القريب خصوصا لعب دورا في نشر الزواج على أساس القرابة عند سوننكي.
السبب الاجتماعي: ويتمثل في كون مفهوم الكفاءة في الزواج مبنيا على نظام الطبقية الاجتماعية، وعلى نظام حظر النكاح بين الطبقات المختلفة في المجتمع السوننكي؛ فالمجتمع السوننكي في مالي وفي غيرها من المناطق السوننكية يتشكّل –على الأقل –من الطبقات الثلاث التالية:
- طبقة الأحرار: وهم أسرة الملوك، أسرة الأئمة، وسائر الأحرار.
- طبقة أصحاب الحِرَف: وهم الحدادون والدباغون والشعراء.
- طبقة العبيد[5]: وهؤلاء لا زواج لهم بين أفراد الطبقات السابقة.
كما يوجد حظر الزواج بين بعض الأٌسر المنتمية لطبقة واحدة من الطبقات السالفة الذكر؛ فكون سوننكي يطبّقون هذه العادة المتعلقة بالكفاءة ويولونها عناية بالغة أسهم –تقريبا- في انحصار الزواج بين الأفراد الأسر المنتمية لطبقة واحدة، أو الذين تجمعهم روابط أسرية وقرابة الدم.
وقد يظهر التشابه بين المفهوم السوننكي للكفاءة في الزواج وبين ما يٌقرره الفقهاء في موضوع الكفاءة في النكاح، وما يتعلق بتحديد العناصر التي من خلالها يٌعرف إن كان شرط الكفاءة حاصل بين الرجل والمرأة، إلاّ أنّ جماهير الفقهاء يرون الكفاءة شرط لزوم وليس بشرط صحة؛ فحيث تم النكاح برضا الطرفين دون تحقق شرط الكفاءة صحّ عندهم. كما أنهم (الفقهاء) يبحثون عن عناصر الكفاءة في جانب الرجل لا المرأة بعكس العادة السوننكية في موضوع الكفاءة؛ إذ يٌنظر في النظام الطبقي من جانب الرجل والمرأة معا.[6]
ومن ناحية أخرى، فإنّ موضوع العبودية وأسبابها في المجتمع السوننكي يحتاج إلى دراسة عميقة لتحديد مدى موافقتها أومخالفتها لنظام الرق في الإسلام، فمع هذه الجوانب والفروق فلا ينبغي إعطاء الصبغة الدينية لمفهوم الكفاءة عند سوننكي بناءً على أقوال الفقهاء في موضوع الكفاءة في النكاح.
هكذا نرى أنّ وراء انتشار ظاهرة زواج الأقرباء في المناطق السوننكية عموما، وعند سوننكي مالي خصوصا أسبابا دينية تكمن في قصد نيل الأجر الرباني المترتب على صلة الرحم، وأسبابا إجتماعية ترجع إلى المفهوم السوننكي للكفاءة في الزواج، وأنّ لسوننكي في موضوع زواج القربى مقاصد جيّدة لا تخالف الشريعة الإسلامية في جملتها، كما اتضح لنا بعض الجوانب العملية المتعلقة بالموضوع.
ويبقى أنّ الحفاظ أو القضاء على العادات والظواهر الاجتماعية المتعلقة بالزواج أو بغيره في المجتمعات المسلمة مقيّد بعرض تلك العادات والظواهر على المحكمة الشرعية الإسلامية ومن ثم النظر في مقاصد الزواج ومطابقتها مع مقاصد الشريعة؛ فيتّضح بذلك الغثّ من السمين، فما وافق الشرع عُمل به، ما خالفه طُرح بعيدا. “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ”[7]
______________
بقلم: شعيب درامي
طالب ماجستير في جامعة سكاريا، قسم العلوم الاجتماعية، كلية الدراسات الإسلامية، التخصص الفقه وأصوله. مالي الجنسية
الهوامش والإحالات: [1] انظر للاطلاع على أنماط الزواج في أفريقيا: محمد عبد العزيز الهواري، الزواج في أفريقيا النسق القرابي وطريقة تكوين الأسرة، مجلّة قراءات أفريقية، العدد5، يونيو 2010، ص44-50. [2] انطر: علي بكر سيسي، تاريخ المجتمع السوننكي في موريتانيا، ط1، موريتانيا، المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2012، ص 17-24. عبد القادر كجيرى، موسوعة تاريخ مالي،ج1، ص9-11. مامادو خليفا سماري، المصطلحات الدالة على لغة، عرق، وثقافة سوننكي، ص1-22. محمد جاخو، المجتمع السوننكي أسره سلطاته واعرافه، ص14 ومابعدها. [3] سورة النور، 24/ 32. [4] سوننكرا: أي المناطق التي يسكنها شعب سوننكي. [5] انظر: محمد جاخو، المجتمع السوننكي أسره سلطاته واعرافه، ص56 ومابعدها [6] تناول الشوكاني موضوع الكفاءة عند الفقهاء في كتابه " نيل الأوطار" كتاب النكاح / باب ما جاء في الكفاءة في النكاح، وناقش أقوال الفقهاء و أدلة الآراء المتباينة. [7] سورة الرعد، 13/17. المراجع 1- القرآن الكريم 2- عبد القادر كجيرى، موسوعة تاريخ مالي، مؤسسة كجيرى للتربية والبحوث التاريخية. 3- علي بكر سيسي، تاريخ المجتمع السوننكي في موريتانيا، ط1، موريتانيا، المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2012 4- محمد جاخو، المجتمع السوننكي أسره سلطاته واعرافه (مخطوط)، حصلت علي نسخة إلكترونية من أحد طلاب المؤلف في السنغال العم (طالب عبدالله درامي ). 5- محمد عبد العزيز الهواري، الزواج في أفريقيا النسق القرابي وطريقة تكوين الأسرة، مجلّة قراءات أفريقية، العدد5، يونيو 2010 6- مامادو خليفا سماري، المصطلحات الدالة على لغة، عرق، وثقافة سوننكي. والنسخة الإلكترونية على هذا الرابظ: file:///C:/Users/Soua%C3%AEbou/Downloads/487e7b2ctermes-designant-soninkes-ethnies-langue-culture-mamadou-soumare.pdf 7- Eric Pollet-Garace Winter.La société Soninké Dyahunu Mali 8- محمد بن علي الشوكاني ت: عصام الدين الصبابطي،دار الحديث، مصر،ط الأولى، 1413هـ - 1993م، 8ج.