مقال حول مقومات الشخصية الإفريقية الآسيوية، من كتاب "من زاوية فلسفية" للدكتور زكي نجيب محمود على موقع هنداوي*
ألفان من ملايين البشر يسكنون آسيا وأفريقيا، وهم الثُّلثان من سكَّان العالم أجمع، فمن كلِّ ثلاثة أفراد من الأسرة الإنسانية ينتمي اثنان إلى هاتَين القارَّتَين العظيمتَين! والكتَّابُ من هذا الخِضَمِّ البشري العظيم، هم قلوبه النابضة وعقوله المُفكِّرة وألسنتُه الناطقة، وأنتم — أيها السيدات والسادة — من هؤلاء الكتَّاب مُمثِّلوهم! وإذن فالكلمة الواحدة تنطقون بها، إنما هي كلمة ينطق بها هؤلاء الملايين على لسانكم، فأكرِمْ بها من كلمةٍ وأعظِمْ.
لقد يسألنا سائل — ونحن بصدَد الحديث عن الشخصية الإفريقية الآسيوية ومقوماتها: أتكون لهاتَين القارَّتين الفسيحتَين شخصية واحدة برغم ما تحتويان عليه من أوجه التبايُن؟ إنهما لا تشتركان في ديانةٍ واحدة، بل الدِّيانات فيها مُتعددة، ولا تشتركان في نظامٍ أُسرِي واحد؛ فمنها ما يُوحِّد في الأزواج ومنها ما يُعدِّد، ولا تشتركان في نظامٍ طبَقيٍّ واحد؛ إذ الطبقات في بعضها صُلبة الفواصل وفي بعضها الآخَر ليِّنة أو مُمتنِعة، ولا تشتركان في مرحلةٍ اقتصادية واحدة؛ لأن أقطارها تتفاوَتُ من أعلى درجات الصناعة إلى أدنى درجات الزِّراعة والرَّعي، ولا تشتركان في درجةٍ واحدة من درجات التعليم ولا في لغة واحدة.
أقول إنَّ سائلًا قد يسألنا منذ بداية الحديث قائلًا: هل تكون للقارئين شخصيةٌ واحدة برغم هذا التبايُن كله؟ وجوابنا هو بالإيجاب. وفيما يلي بعض ملامح هذه الشخصية المشتركة.
فالقارَّتان تلتقِيان في ماضٍ واحد، وفي حاضرٍ واحد، وفي مصير واحد.
أما ماضيهما المُشترَك فمنه القريب ومنه البعيد؛ وقريبُه هو أن القارَّتَين معًا قد لبِثَتا حينًا طويلًا من الدَّهر هدفًا لمطامِع المُستعمِرين، ولطالَما وحَّدَت المُصيبةُ بين المُصابين. وكانت آسيا أسبَقَ من أختها الإفريقية في هذه المِحنة، فمنذ القرن الخامس عشر، كانت الهند وكان الشرق الأقصى كلُّه هدَفَ الرحالة والمُستكشِفين، ليُمهِّدوا الطريق من بعدهم لأصحاب التجارة، وهؤلاء بدَورِهم يُمكِّنون بعدئذٍ للسَّاسة والحاكمين. ولم تكن أفريقيا عندئذٍ إلا مرحلةً وسطى تعترِض الطريق، يطوفون بها من هنا ويَدورون حولَها من هناك، لعلَّهم يصِلون إلى الغاية المنشودة بأقلِّ جُهدٍ وأقصر طريق. حتى كولمبس حين عبر المُحيط الأطلسي لم يَعبُره إلَّا ليلتَمِس طريقه إلى آسيا.
ثمَّ جاء القرن التاسع عشر، وجاءت معه النتائج الفادِحة التي تولَّدت عن الثورة الصناعية، من حاجة أوروبا المنهومة إلى المواد الأولية — زراعية ومعدِنية — وإلى الأسواق لمُنتجاتها الصناعية؛ وها هنا اتَّجهت الأبصار إلى أفريقيا؛ وتسابَق القوم إلى خطفِها، فلمَّا أن تضاربت مصالحهم، راحوا يُقسِّمونها فيما بينهم كما تُقسَّم الغنيمة الباردة، التي لم يكسِبْها كاسِبُها بجهدٍ مشروع. واشتركت في الغنيمة إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والبرتغال وبلجيكا وهولنده، وإن تكن إنجلترا قد خرَجَت من القِسمة بنصيب الأسد لتفوُّقها على زميلاتها في الصناعة والتجارة وفي القوَّة البحرية. ولعلَّ هذه الجريمة المُشتركة قد أيقظت في المُعتدين ضميرًا به بقيَّةٌ من حياة، فراحوا يُسوِّغون الفعلة لضميرهم بأنه واجِب الرَّجُل الأبيض إزاء من لم يرزقهم الله جلودًا في بياضِ جُلودهم، وشاعت على أقلام كُتَّابهم عبارة «عبء الرجل الأوروبي» ليُصوِّروا الأمر لأوهامِهم تصويرًا يَخرجُون به حُماةً للحضارة الإنسانية، بدل أن تَصِمَهم وصمةُ السَّرِقة والاعتداء.
ذلك هو الماضي المُشترَك القريب لقارتَي آسيا وأفريقيا، وأما ماضيهما المُشترك البعيد فهو أنهما أمَدَّا العالَم بدعامَتَين من دعائم المدنيَّة، وهما دعامتا الفنِّ والدِّين، فما من عقيدةٍ دينية اهتزَّ بها وجدان البشَر إلا وهاتان القارَّتان أصلُها ومهبط وحيِها، ثُمَّ ما من فنٍّ إلَّا وجذوره نابتة في أرض هاتَين القارَّتَين. ولقد يُطوِّر الغرب هذا الفنَّ أو ذاك تطويرًا يبعُد به عن أصلِه الآسيوي والإفريقي، لكنه لا يلبَثُ أن يعود تائبًا إلى أصلِهِ المتروك، كما هي الحال في عصرِنا الحاضر بالنسبة إلى التصوير والنَّحت والمُوسيقى.
وكما تشترك القارَّتان في ماضٍ واحد: ماضٍ سياسيِّ قريب، وماضٍ ثقافيٍّ بعيد، فهما كذلك تشتركان في حاضرٍ واحد، هو حاضر الكفاح ضِدَّ المُستعمِر، إثباتًا لوجودهما وتثبيتًا لشخصيَّتِهما. وإذا كانت المِحنة قد وحَّدتْ بين القارَّتَين، فإنَّ الكفاح للتخلُّص من هذه المِحنة يزيد الوحدة بينهما قوَّةً ووثوقًا. أليس المُستعمرون أنفسهم — على ما بينهم من ضروب الخِلاف التي قد تبلُغ حدَّ الحروب الطاحنة — يتَّحِدون علينا كلَّما رأوا في وحدتهم تلك ضمانًا لبقاء الغنيمة في أيديهم؟ إذن فهل يكون غريبًا أن نتَّحِد من جانبنا في جبهةٍ واحدة استِخلاصًا لحقِّنا المنهوب؟ إن آسيا وأفريقيا في أعيُن المُستعمرين شيءٌ واحد، وبلاد الغرب شيءٌ آخر، وإلَّا فلِماذا أجازوا لأنفسهم أن يستخدِموا القنبلة الذرِّية على أرضٍ آسيوية ولم يستخدموها ضدَّ ألدِّ أعدائهم من الشعوب الأوروبية؟ إنهم فعلوا ذلك لعقيدةٍ راسِخة في أنفسهم بأن الغرْب غرب والشَّرق شرق، وما يجوز فِعله هنا لا يجُوز فِعله هناك. وإذا كان هذا شعورهم المُوحَّد ضِدَّنا نحن أبناء آسيا وأفريقيا، فهل يُقابَلُ مِنَّا إلَّا بشعورٍ مُوحَّد ضدَّهم؟
إنَّ أهل القارَّتين يشتركون اليوم في شعورهم بأن بلادهم قد أصبحتْ بلادهم! نعم إنَّ في هذه العبارة شيئًا من المُفارقة اللفظية؛ إذ لا يُعقل أن تكون بلادُهم بلادَ سواهم، لكنَّها الحقيقة المُرَّة برغم ما فيها من تناقُضٍ في اللفظ والمعنى؛ فلم تكن البلاد الآسيوية الإفريقية بلادَ أهلها إلَّا منذ قريب، منذ خرج الآسيويُّون والإفريقيُّون من كفاحِهم ظافِرين أو أوشَكوا على الظَّفَر. أما قبل ذلك فقد كانت بلادُهم مرتعًا خصيبًا لسواهم، فكان الدَّوح — كما قال شاعِرُنا — حرامًا على بلابله، حلالًا على الطَّير من كلِّ جِنس.
كنَّا إلى عهدٍ قريب شعوبًا تُعَدُّ بالجماعات كأنها القُطعان، وتُوزَن بالموارد الطبيعية كأنها من الحجَر الأصم؛ بل كان السَّاسة في الغرب يجتمِعون معًا على موائد المُفاوضات وأمامهم خرائط بلادنا، وفي أيديهم أقلام يَخطُّون بها خطًّا هنا وخطًّا هناك، فكانت كأنَّها أيدي القدَر، تُفتِّتُ الشعوب وتفتِك بالأُمَم كلما رَسَمتْ من تلك الخطوط خطًّا. وإنه لمِمَّا يُروَى عن بلفور صاحِب الوعد المشئوم، أنه حين خطَّ بقلمه على خريطةٍ أمامه ما قد أرادت نزواتُه أن يُنزِله على أرض فلسطين الحبيبة من مصير، سأله سائل: وماذا تنوي أن تصنع بأهل هذا الإقليم المُقتَطَع؟ فأجاب في دهشةٍ مُصطنعة سائلًا بدَوره: ألهذا الإقليم أهلٌ وفيه ناس؟ هكذا كُنَّا إلى عهدٍ قريب، فأصبحْنا نَعُدُّ أنفسنا بالآحاد، لأنَّ كلَّ فردٍ منَّا له عندنا قيمة. لم يكن للفرد في قارَّتَيْنا إلَّا حُرية واحدة تركوها له، وهي حُرِّيَته الدِّينية، لا بل حتى هذه الحُرية الواحدة كثيرًا ما جعلوها مَوضِع الأطماع، فراحوا يُحاولون تغييرها كلَّما أمكنهم ذلك؛ وأما سائر الحُرِّيات من اقتصادية وسياسية واجتماعية فلم تكُن قطُّ من حقِّنا؛ فالاقتصاد في أيديهم، والسياسة لهم، والأوضاع الاجتماعية من صُنعهم، فهم الذين يرفعون وهم الذين يخفِضون كيف شاءت لهم مصالحهم؛ ففي هذا الميلاد الجديد تتشابَهُ القارَّتان.
وكذلك تتشابَهُ القارَّتان فيما قد خيَّمَ عليهما من جهلٍ فُرِض عليهما فرضًا، حتى إذا ما استرخَتْ قبضة المُستعمِر عنهما، فُتحت المدارس والجامعات فتحًا بالعشرات والمئات؛ فقد تعمَّد المُستعمرون — كلٌّ فيما قد وقَع في براثِنِه — أن يُهمِلوا التعليم كمًّا وكيفًا، فلا المدارس يتناسَبُ عددُها مع تعداد الشعب، ولا مستويات التعليم ترتفع إلى حاجة العصر؛ فقد كان يندُر جدًّا أن يزيد التعليم في أيِّ بلدٍ إفريقي عن مستوى المدرسة الثانوية، فلم يكن في الكونجو كلية جامعية واحدة، ولم يكُن في أفريقيا الغربية الفرنسية مدرسة عالية واحدة، ولا في نيجيريا مدرسة عُليا واحدة، وهكذا. وإنه لمِمَّا يلفِت النظر أنَّ التعليم العالي حتى إن وُجِدَ لم يُوجَّه إلى الجانب العلمي الذي من شأنه أن يخلُق الصناعة، بل وُجِّه كله تقريبًا إلى الدراسات الأدبية.
وحتى هذه الدراسات الأدبية لم تُوجَّه نحوَ ما من شأنه أن يُلهِب الشعور القومي، بل وُجِّهت الوجهة التي تُظهِر الآداب الغربية بالقياس إلى التُّراث الشعبي بمظهَر العملاق. وكادت أبواب المدارس تُوصَدُ في وجه المرأة، لأنَّ المُستعمِرين يُدركون أتمَّ إدراكٍ مدى ما تصنعه المرأة المُستنيرة في النهوض ببلدِها. أإذا وجدَت بلاد آسيا وأفريقيا أنَّ هذه الغشاوة تَنزاح عنها معًا، وأنها معًا — كأنَّها على اتِّفاق — قد أخذت تنهَض ببنِيها نُهوضًا قويًّا سريعًا بفتح الجامعات والمدارس العُليا، وبتوجيه التعليم في الاتجاه العلمي الذي سيلِد لها الصناعة فتُخلَق خلقًا جديدًا، ألا تكون هذه الرُّوح المُشتركة رباطًا يجمع أشتاتها في شخصية واحدة؟
وأقول «أشتاتها» لأن المُستعمِر لم يغِب عنه منذ اللحظة الأولى أن الوحدة إذا تماسَكَت استعصَتْ عليه، وهي تهون إذا تفككت أشتاتًا؛ ولهذا جعل يُقسِّم البلد الواحد أقسامًا، والعُصبة الواحدة أحزابًا، حتى نظرَتْ كلُّ رقعة من الأرض إلى نفسها فإذا هي أجزاء مُتنافرة برغم ما بينها من وحدةٍ جغرافية واقتصادية وجنسية ولُغوية وثقافية ومَعاشية. ويا ليتهم شطروا الجسم الواحد أشطرًا ثم وقفوا عند هذا، بل راحوا يُؤلبون كلَّ شطر على الآخر، حتى حرَّكوا العصبيَّة القَبَليَّة وشجَّعوا النزعات الانفصالية على نحوِ ما نُشاهده اليوم في مواضع كثيرة. ونحن إذا كنَّا نجتمع اليوم مُتضامِنِين، فإنما نَردُّ اللطمةَ بلطمةٍ مثلها.
وإن حديث التضامُن الآسيوي الإفريقي لينقُلنا إلى سمةٍ لعلَّها أبرز سماتِ هذا العصر إطلاقًا، كما أنها بغَير شكٍّ أوضحُ ملامح الشخصية الآسيوية الإفريقية التي نتحدَّث عنها الآن، فلنقِفْ عندَها وقفةً قصيرة:
فلأول مرة في التاريخ اجتمعَت الآسيوية الإفريقية في مؤتمر باندونج عام ١٩٥٥م؛ لأول مرة في التاريخ اجتمعت الدول نفسُها التي حرص الغربُ قبل ذاك على ألَّا يجعل لها نصيبًا في السياسة الدولية؛ فما الذي كان يربِط بينها؟ إنَّنا نُجيب عن هذا السؤال بلسان الرئيس سوكارنو؛ حيث قال عندئذ: «هذا أول مؤتمرٍ دولي للشعوب المُلوَّنة في تاريخ البشر. إن الروابط التي تُوحِّدنا أهمُّ بكثيرٍ من الفوارق السَّطحية التي تُفرِّق بيننا … والذي يُوحِّدنا هو اتفاقُنا جميعًا على مقتِ التفرقة العُنصرية.»
إذاً، فالثورة الآسيوية الإفريقية المُشتركة هي في أعماقِها ثورة على ما كان الغرب قد أرادَه لبني الإنسان من عدَم المساواة. لقد كان المُجتمِعون في باندونج يُمثِّلون شعوبًا احتُقرت في قلب بلادها، وزُحزِحت إلى الصفوف الخلفية من الجماعة البشرية، وصُبَّ عليها الاستغلال ونزل بها الاضطِهاد، لا من الوجهة السياسية وحدَها،
بل من الوجهة العُنصرية كذلك؛ فجُمِع أهل اليابان وأهل الصين وأهل إندونيسيا وأهل الهند وأهل الشرق الأوسط وأهل أفريقيا، جُمعوا كلهم في عَين الغربيِّ في مجموعةٍ واحدة، قوامها اللَّون اللاأبيض؛ فما كان من هذه الشعوب كلها اليوم إلَّا أن تقبَل هذا التحدِّي، وتجعل من نفسها مجموعةً واحدة بالفعل.
على هذا الأساس العُنصري نفسه، وبهذا اجتمعت اجتماعها التاريخي في باندونج، اجتمعَتْ تِسعٌ وعشرون دولة اختلفت مذهبًا، لكنَّها اتَّحدَتْ عنصرًا؛ وكان لهذا مَغزاه السياسي العميق؛ فقد كانت سياسة الدول الغربية مدى سبعةِ قُرون استقرَّت على أساس أنَّ التفاوُتَ العُنصري بين الغرب والشرق قد انحسَمَتْ فيه الكلمة إلى الأبد، وأن تفوُّق الغربي لن يُصبِح موضعًا لنزاع، وعلى هذا الأساس حِيكَتْ خيوط العلاقات الدولية طوال هذا الأمَدِ الطويل، وها هي ذي الدول الآسيوية والإفريقية قد اجتمعت كلُّها معًا في باندونج لتمحوَ من سجلِّ السياسة الدولية آيةً وتُثبِتَ مكانها آية.
ثمَّ تلا ذلك الاجتماع اجتماعاتٌ تضامُنية أخرى بين دول آسيا وأفريقيا؛ ففي القاهرة عام ١٩٥٧م اجتمعت أربعٌ وعشرون دولة إفريقية آسيوية، وأيَّدت فيما أيَّدتْه مبادئ باندونج.
وفي أكرا عاصمة غانا عام ١٩٥٨م اجتمعت ثماني دولٍ إفريقية مُستقلَّة، فأكَّدت التعاوُن فيما بينها عند النَّظر إلى المُشكلات الدولية عامَّة وإلى مُشكلات القارة الإفريقية بصفةٍ خاصَّة. وفي أديس أبابا عام ١٩٦٠م انعقد مرةً أخرى مؤتمر للدول الإفريقية المُستقلَّة، لتؤكِّد فيه هذه الدول من جديدٍ تضامُنها ومؤازَرَتها لقرارات باندونج. وفي الدار البيضاء بالمغرب عام ١٩٦١م اجتمع أقطاب أفريقيا وتناوَلوا الموقِف في الكونجو وغيره من الأحداث العالمية الكبرى. فهذه كلها اجتماعات تدلُّ على أن الشخصية الآسيوية الإفريقية قد أخذت ملامحُها تظهر واضحة، وعلى أنَّ هذه الشخصية المُوحَّدة ستتولَّى توجيه العالَم إلى المُساواة وإلى العدْل وإلي الحُرِّية بمعناها الصحيح.
لقد أوضحْنا كيف تتَّفِق آسيا وأفريقيا في ماضٍ واحدٍ وكيف تتلاقَيَان في حاضرٍ واحد، وبَقِيَ أن نُكمِل الصورة ببيانٍ يُوضِّح التقاءهما في مصيرٍ واحد.
إنَّ من أهمِّ الظواهر المُشتركة بين هاتَين القارَّتَين ما يقوم به المُثقَّفون من قيادةٍ فكرية نحوَ مُستقبلٍ منشود. نعم إنَّ المُستنيرين في كلِّ بلاد الأرض يتولَّون زمام القيادة الفكرية، لكن موقِفَهم في قارَّتَيْنا يلفتُ النظر ببعض الخصائص المُميزة؛ بسبب الفجوة التي كانت — وما تزال إلى حدٍّ ما — تفصل جماهير الشعب من جهة، والطبقات العُليا من جهةٍ أخرى؛ فحيث لا تكون هنالك فجوة بين هذين الطرفين، تكون مهمَّة المُستنيرين هي التنوير العقلي والتهذيب الوجداني بطريقةٍ لا يكون الدور القيادي فيها واضحًا. أما حين يكون هناك مِثل هذه الفجوة، فإنَّ المُستنيرين يكونون مركز الحساسية أولًا ثُمَّ مكان القيادة الظاهرة ثانيًا، هادفين إلى سدِّ الفجوة الفاصلة بين طرَفَي الشعب الواحد.
وأمام المُستنيرين في شعوبنا الآسيوية الإفريقية فَجوتان من نَوعَين مُختلفين؛ فالمسافة بعيدة داخل البلد الواحد بين العِلْيةِ والجماهير، والمسافة بعيدة كذلك بين البلد كلِّه من ناحية والعالَم العِلمي الصناعي الفني المُتسلِّط من جهةٍ أخرى، فلا مندوحةَ لها عن قيادَتَين في آنٍ واحد: إحداهما تَرمي إلى التَّسوية بين المُرتفِع والمُنخفض في الداخل، والأخرى نهوض عامٌّ ليلحَقَ البلدُ كله ببلادٍ سَبقَتْه فسيطرَتْ عليه بِسبْقِها.
وليس بدٌّ أمام المُستنيرين منَّا — لكي يُحقِّقوا أهدافهم — من إشعال الرُّوح القومية بشتَّى الوسائل. ومن هذه الوسائل تركيزهم على إحياء التراث القومي، ليظهَر لكلِّ شعبٍ مجدُه القديم فيستحثَّه هذا على استرداد شخصيَّتِهِ وكرامته، ليَصِل طارفًا بتليد.
وتلك نظرةٌ إلى المُستقبل تنظُرها القارَّتان كأنما هما تنظُران نظرةً واحدة. وحين يتحقَّق لها أملُها يتحقَّق للإنسانية كلُّها أملٌ أخفَقَ الغربُ في بلوغه، ألا وهو العدالة والسلام؛ لأنَّ فوارق كثيرةً؛ ممَّا يُسبب الظلم. والحروب ستزول؛ فستزول الفوارق العُنصرية، وفوارق الثروة بين قارات العالم، وفوارق العِلم، وفوارق القوَّة بشتَّى ضروبها.
ولقد أراد الله للقارَّتَين أن يظهر بين أبنائهما قادة يُحسنون التعبير عن آمال شعوبهم، ويُحسنون القيادة نحوَ تحقيق تلك الآمال، فرأيْنا رجالًا في مستوى أبطال التاريخ ينبُغون هنا وهناك دفعةً واحدة كأنما هم والقدَر على ميعاد.
هؤلاء الهُداة البُناة العمالقة يشتركون معًا في بناء آسيا وأفريقيا بناءً جديدًا، يُعيد لها قيادة الحضارة. فمن بين سبعين قرنًا من قرون التاريخ الحضاري، لبِثَ زمام القيادة في أيدي هاتَين القارَّتَين العظيمتَين ما يقرُب من خمسةٍ وستِّين، ولم يُفلت منهما الزمام إلَّا مدى الخمسة القرون الأخيرة. أيكون حلمًا بعيدَ التحقيق — إذن — أن تعود القارَّتان من جديد، وهما اللَّتان عَلَّمَتا الإنسان أصول الحضارة وفروعها، فتُعلِّمانِه مرَّةً أخرى درسًا نَسِيَه فجلب عليه الكوارث بنِسيانه، وهو أنَّ المساواة بين البشر أساسٌ لا بُدَّ من إقامته أوَّلًا قبل أن يذوق العالم طعمًا للسلام؟
المصدر: موقع هنداوي
_____________________________
*كلمة تقدَّم بها الوفد العربي في المؤتمر الثاني للكتَّاب الإفريقيِّين والآسيويِّين، الذي انعقد في القاهرة في يناير من سنة ١٩٦٢م.