الحرب الأوكرانية رغم بعدها عن إفريقيا لكنها قد تكون مختبرا حقيقيا للعلاقات الروسية الإفريقية. خلال السنوات الأخيرة، سعت روسيا على توسيع نفوذها في إفريقيا بشكل ملحوظ بدوافع متعددة تتمثل في بسط النفوذ السياسي، والوصول إلى مصادر الطاقة واستخدام هذا التوسع لأغراض دبلوماسية أحيانا ولكسب أصوات داعمة لقضاياها الدولية مع خصومها في أروقة المنظمات الدولية والمؤسسات الحقوقية.
وبعد غزو أوكرانيا، ستتوقع روسيا من حلفائها الجدد في إفريقيا خاصة تقديم الدعم المعنوي بتأييدها في حربها التي يراها أغلب المتابعين غزوا ظالما لأوكرانيا بينما يراها البعض حقّاً روسيّاً مشروعاً للدفاع عن أمنها القومي، أو على الأقل أن تبقى هذه الدول في منطقة الحياد في الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة.
اتخذت روسيا حُجّة المساعدة في محاربة التمرد وحركات الجهاد ذريعة لها للتوسع داخل إفريقيا، فمن ليبيا إلى مالي والسودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وموزمبيق وأماكن أخرى، أصبحت روسيا أكثر انخراطًا بشكل عسكري في العمق الإفريقي.
هذا الانخراط مهّد له الدبّ الروسي منذ وقت مبكر؛ حيث مثّلت قمة عام 2019م في مدينة سوتشي بجنوب روسيا والتي حضرها وفود أفارقة من أكثر من 50 دولة من بينهم 43 رئيس دولة. أثناء القمة خاطب الرئيس فلاديمير بوتين القادة مدغدغا مشاعرهم مذكرا إياهم بتاريخ دعم حركات التحرير في خمسينيات القرن المنصرم، وتعهد بتعزيز التجارة والاستثمار في إفريقيا.
كما أشار الرئيس بوتين إلى الروابط التاريخية التي تعود إلى أيام الاتحاد السوفيتي عندما كانت إفريقيا تسعى إلى تحقيق هدفا واحدا ألا وهو الاستقلال ونيل الحرية، وروسيا كانت تسعى لكسب المنافسة بينها وبين الولايات المتحدة.
ولكن منذ انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م إلى الجزء الأول من العقد الماضي لم تكن العلاقات مع إفريقيا على رأس جدول الأعمال الرسمي؛ لأن روسيا كانت تمر بفترة انتقالية. لكن الآن، استعادة مكانة روسيا كقوة عظمى أصبحتْ من أولويات السياسة الخارجية للرئيس الروسي.
اجتذبت قمة سوتشي لعام 2019 جميع رؤساء دول إفريقيا تقريبًا
جدول المحتويات
ردود أفعال القادة الأفارقة تجاه الحرب الأوكرانية
في هذا السياق، نجد كينيا، العضو غير الدائم حاليًا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، عبّرتْ عن معارضتها للتدخل الروسي في أوكرانيا. لكن لم تكن هناك حتى الآن نبرة عالية رُفعتْ من دول أخرى تدعم موقف كينيا. بينما اكتفى الاتحاد الإفريقي بالتعبير عن “قلقه البالغ” بشأن ما يجري في أوكرانيا ولكنه لم يوجه انتقادا لروسيا.
موقف جنوب إفريقيا التي تعتبر شريك روسيا في مجموعة بريكس استم أيضا بدبلوماسية عالية؛ حيث دعا روسيا لسحب قواتها من أوكرانيا، وأن جنوب إفريقيا ما زالت تأمل في التوصل إلى حل تفاوضي بين البلدين.
من الناحية الأخرى، جاء تصريح البروفيسور فوستين أركانج تواديريا، رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، صادما للكثيرين؛ حيث أعلن صراحة عن دعمه لقرار روسيا بالاعتراف بمنطقتي دونيتسك ولوهانسك الأوكرانيتين كدولتين مستقلتين. لكنه في الوقت ذاته نسي أو تناسى صرخاته تجاه الانفصاليين السيليكا حين طالبوا بانفصال شمال جمهورية إفريقيا الوسطى عن جنوبها، وبناء عليه تقرب من الروس لينقذوه، فإذا به يصبح رهينة في أيديهم!
نصب تذكاري للجيش الروسي أقيم في بانجي عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى
أحداث جمهورية مالي الأخيرة تعتبر نموذجا حيّاً وشاهداً على كيفية تغيير التحالفات في إفريقيا بين القوى الكبرى المتصارعة فيما بينها، وخاصة الإعلان عن إنهاء المشاركة الفرنسية في محاربة الجهاديين في مالي قبل أسبوع واحد فقط من هجوم روسيا على أوكرانيا يترك علامات استفهام كثيرة.
على الرغم من نفي جمهورية مالي استيراد المرتزقة الروس “فاغنر”، إلا أنّ الحكومات الأوروبية وصحافتها ما زالت تتهمها بأنها استعانة بهم. وأكدّ رئيس وزراء مالي، تشوجويل مايغا، على أنّ بلاده وقّعت اتفاقيات تعاون عسكري مع روسيا، ونفى تورط الشركة العسكرية الروسية الخاصة المثيرة للجدل، مجموعة فاغنر في قضية مالي.
هناك أيضًا نوع آخر من الوجود الروسي غير العسكري في إفريقيا؛ حيث تزعُم روسيا بتوفير الأمن المنشود للحكومات الإفريقية في عدد من الدول الإفريقية في شكل تدريب واستخبارات وتقديم معدات عسكرية وأمنية، وأحيانا يكون الدعم مرتبطا بالمرتزقة الروس لحلّ النزاعات المحلية.
آثار العقوبات الغربية ورحلة البحث عن أسواق جديدة
بعد ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية في عام 2014م، عاشت الأولى ويلات العقوبات الدولية، ونتيجة لذلك حدث تدهور حاد في العلاقات الروسية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وكتكتيكات لمواجهة خطر العزلة الدولية، بدأتْ موسكو في البحث عن حلفاء جدد. وهذا ما أكدّته “إيرينا أبراموفا” مديرة معهد إفريقيا بالأكاديمية الوطنية الروسية للعلوم؛ حيث قالت: إنه نتيجة للعقوبات، احتاجت روسيا للبحث عن أسواق جديدة لصادراتها”.
ولكن في واقع الأمر، لم تكن روسيا تبحث عن أسواق جديدة فحسب؛ بل كانت تسعى لتوسيع نفوذها السياسي وتعيد تموقعها الاستراتيجي حول الجغرافية العالمية. ففي عام 2014م، تدخّلت في الحرب الأهلية في سوريا، ودعمت الرئيس بشار الأسد بشكل مستميت؛ لتسلط الضوء على الفوضى التي كان الغرب يتسبب بها وإظهار كيف يمكن لروسيا إصلاحها وأن تكون حليفا يمكن الوثوق فيه.
محدّدات العلاقات الروسية الإفريقية
بعد سوريا، يمَّمَتْ روسيا وجهها نحو القارة الإفريقية، وانخرطت في الحرب الليبية فما لبثت إلى أن توسعت لتشمل دولا أخرى مثل السودان، وجمهورية إفريقيا الوسطى، ومالي، وموزمبيق وغيرها. في هذه المهمات، هناك محددات أساسية لطبيعة العلاقة بين روسيا والدول الإفريقية،وكانت لروسيا استراتيجيات محددة تتبعها، منها:
- شنّ حرب إعلامية وتضليل الرأي العام كجزء من تشويه سمعة خصومها الغربيين.
- دعم حلفائها بكل ما أوتيت من قوة، ولا يهمها كونهم مجرمون أم مصلحون، وطنيون أو عملاء وخونة.
- بيع أسلحتها وتعزيز صادراتها من المنتجات المختلفة وتوفيرها للاستهلاك المحلي.
- الوصول إلى مصادر الطاقة (النفط واليورانيوم) والمعادن الثمينة (الذهب والألماس).
- تعزيز العلاقات الدبلوماسية وفتح آفاق تقارب أكثر ديناميكية وذات بعد استراتيجي.
- نقل الثقافة الروسية والعمل على نشر اللغة الروسية وإدخالها ضمن المناهج التعليمية وفتح مراكز ثقافية.
- تقديم منح دراسية لطلاب تلك الدول لدراسة التخصصات المختلفة في المؤسسات التعليمية الروسية.
- تقديم خدمات تدريب وتأهيل لأفراد الأمن والجيش وإرسال النابغين منهم إلى روسيا لتقلي التدريبات المتقدمة.
- احتضان مؤتمرات وقمم وورش عمل تجمع القادة الأفارقة والدبلوماسيين في روسيا.
- الدفاع عن حلفائها في القاعات المغلقة وقاعات التصويت في الهيئات الدولية واستخدام حق الفيتو إذا لزم الامر.
وفي هذا الصدد، تقول إيرينا فيلاتوفا، الأستاذة الفخرية في جامعة كوازولو ناتال في جنوب إفريقيا: إنّ المهمة الرئيسة لروسيا في إفريقيا كانت تشويه سمعة النفوذ الغربي، كما هو الحال في سوريا. خاصة أن روسيا تريد أن تُظهر دائما أنّ الأوروبيين، على سبيل المثال، فشلوا في احتواء التهديد الجهادي في منطقة الساحل.
السلوك الروسي في إفريقيا يتبع سياسة مزدوجة تجمع بين إرسال مدربين عسكريين رسميين يعملون في بعض الدول، كما تنشئ وكالات غير رسمية، مثل مجموعة فاغنر، التي تقاتل في عدد من الدول الأخرى.
وكانت جمهورية إفريقيا الوسطى أول دولة إفريقية ظهر فيها مرتزقة روس من مجموعة فاغنر في عام 2017م في وقت متزامن مع إرسال خبراء ومدربين روس، ثم أتبعوهم بفرقة رسمية من المستشارين العسكريين الروس، كان هدفهم مساعدة الرئيس تواديرا على البقاء في السلطة والقضاء على خصومه، وقد تم ذلك بالفعل ولو بشكل نسبي.
كان لمرتزقة فاغنر سمعة سيئة بسبب الفظائع التي يرتكبونها ضد المدنيين وغيرهم؛ لكن روسيا تنفي باستمرار تورط مواطنيها في جرائم حرب، أو أعمال عنف ضد المدنيين. وكان المرتزقة الروس ينشطون في ليبيا والسودان وموزمبيق وجمهورية إفريقيا الوسطى بمستويات مختلفة من تحقيق نجاح وعدمه.
نظرا للأهمية المتزايدة للقارة الإفريقية، وبسبب انتشار أعمال العنف وازدياد حدت التوترات السياسية والتهديدات الأمنية؛ أصبحت إفريقيا سوقًا رئيساً لصناع الأسلحة خاصة الروس؛ إذْ تُقدّر، وفقًا لوكالة تصدير الأسلحة، بأنه حوالي نصف جميع الأسلحة الواردة إلى إفريقيا تأتي من روسيا. أكبر مستوردي الأسلحة الروسية هما الجزائر ومصر، ثم تليهما نيجيريا وتنزانيا والكاميرون.
في العام 2019م، أصدر البرلمان الأوروربي تقريرا بعنوان: “روسيا في إفريقيا: ساحة جديدة للمنافسة الجيوسياسية” ورصد فيه الحضور الروسي في إفريقيا بشكل مفصل (انظر الخريطة أدناه)
الحضور الروسي العسكري في إفريقيا
الدبلوماسية في العلاقات الروسية الإفريقية
كانت روسيا تدرك تماما أن الدول الإفريقية تمتلك أكثر من ربع الأصوات في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وقد تشكل صوتا قويا في جمعيات دولية أخرى إذا ما اتحدت؛ لذا حرص بوتين أن ينمي العلاقات الدبلوماسية بين بلده وهذه الدول ويطورها بأي شكل من الأشكال. قد يكون التقارب من خلال تبادل بعثات دبلوماسية رسمية أو تمثيل دبلوماسي ولو منخفض المستوى، فضلا عن احتضان قمم ومؤتمرات مختلفة.
في العام 2021م، نشرت المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو تقريراً عن آفاق التعاون بين إفريقيا وروسيا، وأكدّ التقرير إلى أن الدول الإفريقية تميل إلى أن تكون محايدة عندما يتعلق الأمر بإجراءات روسيا في الماضي. وبرهن التقرير على أنّه لم تفرض أيّ دولة إفريقية أيّ عقوبات ضد روسيا خاصة بعد عام 2014م. وفي قاعات التصويت في الأمم المتحدة حول القضايا المتعلقة بأوكرانيا، اتخذت معظم دول القارة الإفريقية موقف الحياد، وهذا بلا شك يخدم المصالح الروسية.
وختاما، يمكنا أن نخلص إلى أنّ روسيا لديها خطط مدروسة مسبقا لكيفية انتشارها في القارة الإفريقية لتعزيز علاقاتها الدبلوماسية، وفتح أسواق جديدة لشركاتها ومنتجاتها العسكرية والمدنية، وطرق وصولها إلى مصادر الطاقة والمعادن الثمينة، ومناكفة خصومها وأعدائها الغربيين، وكسب أصوات الأفارقة في قاعات التصويت في الجمعيات والمنظمات الدولية والإقليمية.
هذه الاستراتيجيات مجتمعة أو متفرقة، بكل تأكيد، تخدم الأجندة الروسية، وتكسبها أوراق ضغط متعددة الأغراض تستخدمها ضدّ أعدائها الأمريكان والأوروبيين في الدرجة الأولى، وليس لصالح الدول الإفريقية كما يحلم الكثيرون.
في الوقت ذاته، قد يرى بعض القادة الأفارقة الذين اكْتَوَوْ بنيران المستعمر التاريخي، خاصة فرنسا، أنّ التقارب الروسي هو الفرصة الوحيدة التي يمكن أن تخلّصهم من فرنسا وأعوانها، وأنّ روسيا وإن كانت تمثل خطرا على المصالح القومية، أو يراها البعض مستعمرا جديدا؛ فإنها تُعتبر أخف ضررا من فرنسا!
الأزمة الأوكرانية الجارية، قد لا تكون الفيصل في تقييم كثير من المعادلات في السياسة الدولية فحسب؛ بل ستكون معيارا لقياس مدى التغلغل الروسي في إفريقيا. فإذا ما استمر الموقف الإفريقي المحايد، أو إذا تطوّر أكثر وأصبح دعمٌ أكثر صراحة، فقد يُنظر إلى جهود روسيا على مدى السنوات القليلة الماضية على أنها قد آتت أكلها في الوقت المناسب!