يستعرض هذا المقال تفاعل الإسلام مع الموروث الشعبي في جمهورية مالي، كاشفًا عن حالة من الانسجام في بعض القيم كالعفة والصدق والتربية المجتمعية، مقابل تصادم واضح مع ممارسات تتنافى مع تعاليم الدين، كالفوضى في الزواج، وتقديم القرابين، والانتحار المرتبط بالتصورات العرفية. وتناول الكاتب أيضاً جذور مصطلح “الإسلام الأسود” بوصفه خطابًا استعمارياً هدفه فصل المسلمين الأفارقة عن امتدادهم الحضاري. ويدعو المقال إلى قراءة نقدية للتراث الإفريقي، تفرّق بين ما ينسجم مع القيم الإسلامية وما يخلّ بها، في إطار مشروع علمي يسترد للإسلام في غرب إفريقيا مكانته، بعيدًا عن التصنيفات المشوهة والمعايير الاستشراقية.
__________________
مالي، تلك البقعة الجغرافية المتميزة بنهريها النقيّين، وجبالها الشاهقة الصمّاء، كانت، ولا تزال، ملتقى للقبائل والحضارات. حيث تعايش على أرضها الرّحبة، وتحت سمائها الشاسعة، السّود الحضر، والبيض البدو، فكوّنوا مجتمعًا متنوع الأعراق، تمثّل كلُّ مجموعةٍ فيه جماعةً لغويةً مستقلة.
وقبل مجيء الاستعمار، كانت هذه الجماعات العرقية تعيش موزّعةً في مناطق مختلفة، في شكل ممالك وقبائل، تميزت كلُّ منطقة منها بعادات وتقاليد تخصُّها، وتُمايزها عن غيرها. وقد ظلّت تلك الأعراق شديدة الارتباط بموروثها، محافظَةً على أصالته ردحاً من الزمن، بفعل العزلة الطبيعية التي أبقتها بمنأى عن تيارات التغيير، فأنشأ المجتمع المالي بذلك حضارةً أصيلةً في فرادتها، واستثناءً في تنوّع روافدها.
ولقد خلّف هذا التفاعل الثقافي العميق، إرثًا تراثيّاً ثريّاً، بقي صامدًا في وجه عاديات الزمن، وويلات الغزو الثقافي الأوروبي المجحف. فإرثٌ بهذا القدر من العراقة، لجديرٌ أن يُدرَس، ويُدرَج في المناهج التعليمية؛ لربط الجيل المعاصر بجذوره الثقافية والتاريخية، التي بات يعيش في انفصامٍ عنها، وهو في أمسّ الحاجة إليها حاجة السقيم إلى راقٍ، والمسموم إلى ترياق.
وانطلاقًا من ذلك، تسعى هذه المحاولة المتواضعة إلى إبراز بعض القيم الأخلاقية التي كانت سائدة في الأراضي التي تشملها مالي اليوم، قبل احتكاك أهلها بالفاتحين العرب، ومن بعدهم المستعمرين الغربيين.
وستمرّ هذه الدراسة عبر أربع محطات رئيسة، سنتعرّف من خلالها على بعض المجموعات العرقية المالية، مستعرضين ملامح من عاداتها وتقاليدها، بما في ذلك ما تناغم مع روح الإسلام، وأقرّه الشرع، ثم ما تناقض معه لمخالفته تعاليم السماء.
وفي هذه الجولة الاستكشافية، سنتوقف عند مشاهد من الصراع بين الموروث الشعبي، والقيم الإسلامية، أفرزها تمسك الإنسان المالي، والإفريقي عموماً، ببقايا موروثات عقائدية سابقة، حتى بعد اعتناقه الإسلام؛ وهو ما فتح المجال أمام بعضهم لوصم الإسلام في غرب إفريقيا بما يُعرف بـ “الإسلام الأسود“.
وفي نهاية المطاف، سيتّضح لنا بجلاء أنّ مصطلح “الإسلام الأسود” ليس سوى خدعة غربية، موشّاة بالرغائب والمقاصد الخفيّة، هدفها إحكام السيطرة على الشعوب الإفريقية، وإبقاؤها في دائرة العبودية والتبعية للغرب.
جدول المحتويات
أولًا: التركيب السكاني للمجتمع المالي
يعترف الباحثون المختصّون في هذا المجال بأنّ محاولة حصر جميع المكونات العرقية في مالي تُعدّ مغامرة علمية عسيرة، لما تتسم به البلاد من تنوع إثني، ولغوي واسع. وبما أنّ الغرض من هذه الورقة لا يندرج تحت الجرد الإحصائي، أو الإثنوغرافي البحت، فسنكتفي هنا باستعراض أبرز الجماعات العرقية في المجتمع المالي.
1. مجموعة البمبارا
لقد عاش المجتمع المالي، قبل تأثره بالثقافة العربية الإسلامية، ضمن أنساق وثنية تقليدية، وظلّت هذه المكونات تتفاعل وتتعايش حتى بزغ فجر الإسلام، الذي شكّل لاحقًا انقلاباً فكريّاً وروحيّاً عميقاً في هذه البنية العرقية المتنوّعة.
تمثل مجموعة البمبارا (Bamana) أو (Bambara) حوالي 50% من سكان مالي، وهي بذلك أكبر مجموعة عرقية في البلاد. وتُعد لغتهم، المعروفة بـ”بامانا” (Bamana)، من أكثر اللغات الوطنية استعمالًا، إذْ تُستخدم على نطاق واسع في مختلف الأقاليم دون استثناء، مع نفوذ أقوى في مناطق معينة، مثل: العاصمة باماكو، وأقاليم سيكاسو، وكوليكورو، وكاي، وكوتيالا، وبوغوني، وأخيرًا سيغو، التي تُعدّ معقلهم التاريخي.
ومن الناحية الاجتماعية، ينقسم أفراد هذه المجموعة إلى طبقات، وتُعبّر الألقاب عن الانتماء الطبقي. فألقاب مثل: كوياتي، جاباتي، سيسوكو، داناتي، كوني (Kouyaté، Djabaté، Sissoko، Danaté، Koné) تُطلق على فئة الـ “ياماكالاوا” (Ya makalaw)، أيْ القوّالين، أو المدّاحين التقليديين،(griots) الذين لعبوا أدوارًا بارزة في بلاط الملوك، كسفراء ومصلحين ومُلهِمين للمحاربين.(1)
بينما ألقاب مثل: جارا، وكوليبالي (Diarra، Koulibaly) ترتبط بالطبقة الحاكمة أو البرجوازية. وتشير بعض المصادر إلى أنّ عائلة “كوليبالي” تنحدر من منطقة “أودينيه” في شمال ساحل العاج، وقد هاجرتْ في القرن 16م إلى ضفاف نهر النيجر؛ حيث استقروا لممارسة نشاطاتهم الزراعية التي تُعدّ من أهم مصادر كسبهم، وعلى أكتاف هذه الأسرة قامت “مملكة بمبارا”، التي كانت عاصمتها سيغو، بقيادة الملك “ماماري كوليبالي” الذي دام ملكه من عام 1712 إلى 1755م.
لكن مملكة آل كوليبالي ستنهارفيما بعد؛ لتفسح المجال لعائلة “جارا” diarra التي انتزعت الحكم منهم، وأعلنوا أنفسهم ملوكا لـ “سيغو”؛ لتبلغ المملكة ذروة مجدها في فترة حكمهم بقيادة ملوك، “دَامُوزُو جارا” و “غُولو جارا.(2)
2. مجموعة الفلان
تعدعدّ مجموعة الفلان (Peul) ثاني أكبر مجموعة عرقية في مالي بعد البمبارا، ويُقدّر عددهم بحوالي 11% منْ إجمالي السكان. ويرى عدد من الباحثين أنّ أولى الأسر الفلانية التي استقرت في مالي جاءتْ من منطقة فوتا تورو (شمال السنغال حاليّاً) خلال القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، في عهد إمبراطورية غانا. وقد تنقّلوا آنذاك في مراعي المنطقة بحثًا عن الكلأ، قبل أنْ يستقروا في منطقة ماسنا، التي تُعدّ لاحقًا مركزًا رئيسيًا للفلان في مالي.
غير أنّ الباحث “د. جاكاياتي” يرى أنّ مجموعة فلانية أخرى كانت قد سبقت هؤلاء إلى مالي، ووفدت من جهة موريتانيا، قبل أنْ تلتحق بها المجموعات القادمة من فوتا تورو لاحقًا في ماسنا.
ويتكوّن الفلان في مالي من أربع عشائر رئيسة، وهي:
- يرلابي (YirlaBé): ومن ألقابهم: جالو، وكا، وكان، وديكو (Diallo، Ka، Kane، Dicko).
- أوروبي (OurouBé):ومن ألقابهم Ba، Baldé، M’Backè، Diguayate.
- فيروبي (FéroBé): ومن ألقابهم: سو، وسيديبي (Sow، Sidibé).
- داييبي (DayeBé): ومن ألقابهم: باري، وسانكاري (Bari، Sankaré).
واختار الفلان، الذين يعتمدون في رزقهم على تربية المواشي الاستقرار في مالي، نظراً لخصوبة أرضها، ووفرة مياهها ومراعيها. ومع مرور الوقت، أصبحوا قوة فاعلة في المنطقة، وفرضوا نفوذهم على بعض المجموعات المستقرة مثل البوزو (Bozo) والساراكولي (Sarakollé) في محيط ماسنا.
وقد مكّنهم هذا النفوذ من تأسيس دويلات فلانية صغيرة، خضعت في مراحلها الأولى لإمبراطوريات مالي وسنغاي، ثم للممالك الوثنية لاحقًا في منطقة سيغو (Segou). وقد استمرّ هذا الوجود الفلاني حتى أنْ جاء أحمد لبّو، الذي أسّس مملكة ماسينا الإسلامية، منهياً بذلك الحقبة الوثنية في المنطقة.(3)
3. مجموعة السوننكي
تُعد مجموعة السوننكي (Sarakollé / Soninké) من أكبر المكونات الإثنية في مالي، إذْ تُشكّل نحو 9.8٪ من السكان. وينتمي السوننكي تاريخيّاً إلى إرث مملكة غانا القديمة، التي تُعدّ إحدى أولى التشكيلات الاجتماعية والسياسية الكبرى في غرب إفريقيا.
وتختلف الروايات حول أصلهم، بين من ينسبهم إلى الماندنغ، ومن يرى أنّ جذورهم تعود إلى شمال إفريقيا.(4) وتاريخيًا عُرف السوننكي بنشاطهم التجاري، خصوصاً تجارة الذهب في الصحراء. وفي العصر الحديث لايزال أفراد هذه القبيلة من أنشط قبائل مالي في التجارة بشتى مجالاتها.
وينتشر السوننكي اليوم في أرجاء مالي؛ لكن حضورهم الأبرز في إقليم كاي. ومن أشهر ألقابهم: ساكو، سيسوكو، كامارا، ديابي، واغي، دوكوري، دياوارا، سيلا، سوماري (Sako، Sissoko، Kamara، Diaby، Wagué، Doucouré، Diawara، Silla، Soumaré) .(5)
4. مجموعة الدوغون
تمثل مجموعة الدوغون (Dogon) حوالي 8.7% من السكان، وسكنت منطقة موبتي وسط مالي منذ القرن الثاني الهجري. وتعيش في بيئة جبلية منعزلة، مليئة بالهضاب والمرتفعات. حيث يمتهنون زراعة الدّخن والقمح، كمصدر للعيش.
وبسبب هذه العزلة، حافظ الدوغون على طقوسهم الوثنية، ونظمهم الاجتماعية القديمة، مما جعلهم محطّ اهتمام الباحثين والسياح على حدّ سواء.(4)
5. جموعة السنغاي
تُعدّ مجموعة السنغاي (Songhaï)، وتكتب الصَُنغاي أو السنغي أحيانًا، إحدى أبرز المكونات العرقية في مالي، وتمثّل نحو 6٪ من إجمالي السكان. وتكتسب هذه المجموعة شهرتها التاريخية من الدور المحوري الذي اضطلع به أبناؤها في تأسيس إمبراطورية السنغاي، التي تُعد من أعظم الإمبراطوريات في تاريخ غرب إفريقيا.
رغم شهرتهم، لا يزال الجدل قائمًا بين المؤرخين حول أصول هذه المجموعة، إذ تتباين الآراء بشأن منشأهم الأول. لكن العديد من الباحثين الماليين يرجّحون أن السنغاي ينحدرون من الجنس الزنجي الإفريقي، وقد كانوا تاريخيّاً منقسمين إلى ثلاث طبقات اجتماعية، أو فئات وظيفية، وهي:
- سوركو (Sorko): وهم سادة المياه وصيادو الأنهار.
- دو (Do): وهم أصحاب الأرض ومزارعوها.
- غاو ((Gow: وهم سادة الغابات والمتمرسون في أسرارها.
ومع مرور الوقت، تلاقت هذه الفئات في مدينة كوكيا (Koukia) التي تحوّلت تدريجيّاً إلى مركز تجاري بارز، وأصبحت لاحقاً نواة الدولة السنغايية المزدهرة.
وينتشر السنغاي اليوم في شمال مالي، وخاصة في منطقتي تنبكتو (Timbuktu)، وغاو ((Gao. ومن أشهر ألقابهم العائلية: ميغاMaiga) )، وتوري (Touré) (6)
6. مجموعتا الطوارق والعرب
تشكل مجموعتا الطوارق والعرب نحو 2.9٪ من سكان مالي، وتتركز غالبية أفرادها في الأقاليم الشمالية، لاسيما في تنبكتو، غاو، وكيدال.
- الطوارق: ينحدرون من أصول أمازيغية (جنوب تونس وليبيا)، وينسبون أنفسهم إلى الشخصية التاريخية تين هين. واستقروا في أقاليم الشمال، مثل: تنبكتو، غاوو، كيدال. واشتهروا تاريخيًا بالسعي وراء الملك، وحب الزعامة. ويتوزعون إلى مجموعات، مثل:
- إمقشرن: المحاربون
- إمراد: الفئة التابعة التي تدفع الضرائب
- بيلا (Bella): فئة العبيد سابقاً.
- العرب: يتركزون في الشمال الشرقي، في غاوو وتنبكتو تحديدا. قد جاءوا مع الفتح الإسلامي في القرن الأول الهجري بقيادة عقبة بن نافع. وكانوا نشطين في تجارة الملح والذهب ونشر العلم، ومن أبرز قبائلهم:
- البرابيش: استقروا شمال تنبكتو وتأثروا بالبربر. الصنهاجيين.
- كونتا: نشطوا في التجارة والتعليم الديني.(7)
لقد عاش المجتمع المالي، قبل تأثره بالثقافة العربية الإسلامية، ضمن أنساق وثنية تقليدية، وظلّت هذه المكونات تتفاعل وتتعايش حتى بزغ فجر الإسلام، الذي شكّل لاحقًا انقلاباً فكريّاً وروحيّاً عميقاً في هذه البنية العرقية المتنوّعة.

ثانياً: وصول الإسلام إلى مالي وتعامله مع عادات السكان
اختلفت آراء المؤرخين حول تاريخ دخول الإسلام إلى مالي، فذهب بعضهم إلى أنه دخل مع وصول القائد عقبة بن نافع إلى السودان الغربي سنة 62 هـ، فيما يرى آخرون أن انتشاره الفعلي لم يبدأ إلا في القرن الخامس الهجري، بعد أن أسقط المرابطون إمبراطورية غانا.
ويذهب “الشيخ إبراهيم كمارا،” رئيس الجمعية الإسلامية للإصلاح في مالي، إلى الجمع بين الرأيين، موضحاً أنّ الإسلام دخل البلاد منذ القرن الأول الهجري عبر الأفراد؛ لكنه لم يتحول إلى دين الدولة إلا في القرن الخامس؛ حين اعتنقته السلطنة رسميّاً.(8)
ومهما يكن من أمر، فإنّ الإسلام وُجد في مالي في بيئة ذات خصوصية ثقافية، غنية بالمعتقدات والعادات التي تشكّل جزءًا من منظومة الحياة اليومية. وكان من الطبيعي أن تتلاقى بعض تلك الموروثات مع تعاليم الإسلام، بينما يتعارض بعضها الآخر معه بشكل صريح.
العادات الاجتماعية التي انسجمت مع تعاليم لإسلام
يُعد الحديث عن القيم الأخلاقية في مالي أمرًا معقّدًا نظرًا لتعدد الأعراق والقبائل؛ لذلك قد يميل الطرح إلى شيء من التعميم، مع تركيز خاص على الإثنية البمبارية؛ لكونها الأكثر عدداً، وتوفر المعلومات عنها أكثر من غيرها.
ولاعتبار أنّ معظم الإثنيات المالية الأخرى، باستثناء الفلان والطوارق والعرب والسنغاي، تتقاطع مع البمبارا في العديد من العادات، نظراً لانحدارها من أصل واحد يُعرف بـ “الماندنغ“، بحسب بعض الروايات.
وعلى خلاف الصورة التي رسمها الاستعمار عن إفريقيا، فإنّ الشعوب الإفريقية، ومنها الماندنغ في مالي، كانت تتحلى بقيم حضارية وأخلاقية راقية، انسجمت في كثير من مظاهرها مع مكارم الأخلاق التي جاء الإسلام ليُتممها لالينقضها. وفيما يلي سنستعرض ملامح هذا الإرث الحضاري في ثقافة “شعب الماندنغ“، على النحو الآتي:
- المحافظة على الفطرة: تميّز مجتمع الماندنغ، الذي يشكل جذور العديد من المجموعات المالية، بحسٍّ فطري عميق في ما يتعلّق بالعفة والحياء؛ حيث كانت العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج تُعدّ فضيحة كبرى، تستوجب أحيانًا مغادرة القرية (النفي).
وكان الأطفال يُربَّوْن على هذا المبدأ منذ صغرهم، ما جعل المجتمع الماندني محافظاً نسبيًا. حتى في حال وجود حب بين شاب وفتاة، كان نادراً ما أنْ تتجاوز العلاقة حدودها الأخلاقية، بسبب حرص الفتاة على عذريتها، وخشيتها من العار الذي قد يلاحقها وأسرتها.
ومن طقوس فحص العذرية في ليلة الزفاف، ما أشار إليه المؤرخ “سيدي مختار ديمبيلي“؛ حيث كانت تُجهّز عجوز كبيرة فراش العروسين بغطاء أبيض، يُفحص لاحقاً مع انبلاج الفجر. فإذا تبينت آثار الدماء، تعلو الزغاريد والاحتفالات، وتُكرّم والدة العروس بالهدايا وتاج الشرف، مكافأةً على حسن تربيتها. أمّا إذا فُقد الدليل، فإنّ العار قد يطول الفتاة وأسرتها مدى الحياة.(9) - الصدق وحسن الضيافة: يُعرف المجتمع المالي بقيم الصدق والاستقامة، إذْ يُعدّ الكذب والتلفيق سلوكًا مذمومًا يُنقص من المروءة والمكانة الاجتماعية. أما في الضيافة، فكانوا مثالًا يُحتذى به. يضعون علامات أمام البيوت تشير إلى استعدادهم لاستقبال الضيوف، ويخصّصون وجبة يومية للطوارئ، تُقدَّم للأطفال إنْ لم يحلّ بهم أحد. وعلى مداخل منازلهم تُغرس أشجار كبيرة ليستظل بها المارّة والمسافرون.(10)
- الاهتمام بتربية الأطفال: تبدأ التربية في مجتمعات الماندنغ من مائدة الطعام؛ حيث يتعلم الطفل آداب الأكل، كتناول ما أمامه، وتثبيت الإناء، وخفض البصر أثناء الطعام، ثم مساعدة النساء في رفع الأواني. وتهدف هذه التربية إلى غرس روح المسؤولية مبكرًا، تمهيداً لدوره المستقبلي في الأسرة والمجتمع.
وكانت الفتيات يتعلّمن مبكراً مهارات الطبخ، والتنظيف، والغسل، وغيرها من أدوار المنزل. والمثير أنّ التربية كانت جماعية؛ حيث يُسمح لأي بالغ في القرية بتأديب أيّ طفل يرتكب خطأً علنيّاً، دون الرجوع لأهله. وقد أسهم هذا النظام في ترسيخ السلوك القويم والرقابة المجتمعية.(11)
دور الشيوخ في إنجاح التربية
كان لكل قرية مجلسان، مجلس الشيوخ ومجلس الكهلة:
- مجلس الشيوخ: ويتكوّن من عمدة القرية ونوّابه، ويجتمع تحت الأشجار وسط القرية، لمراقبة الأوضاع وحل النزاعات واتخاذ القرارات.
- مجلس الكهلة: وهم بمنزلة السلطة التنفيذية، يُنفّذون قرارات الشيوخ، ويجلسون قريباً منهم بمقدار ما يُسمع فيه الحديث.
لقد كان لهذا النظام المجتمعي دور كبير في استقرار القرى، وتعزيز التربية والعدالة المحلية.(12)
وكان كبار السنّ خزائنَ للمعرفة، لا يُورثون علمهم إلا لمن يثبت أهليته وكتمان سره. ومن طرائقهم لاختبار الثقة، أنْ يضعوا فأرًا حيًّا في إناء مغلق، ويكلفوا شخصاً بإيصاله. فإنْ فتَح الإناء بدافع الفضول، تنكشف حقيقته عند الوصول، ويُحرم من الثقة.(13)
فضلا عن ذلك، فقد امتلكوا معارف واسعة في الطب والفراسة وعلوم النجوم، وكان كثير من علمهم شفهيّاً غير مكتوب. ولذلك قال الأديب المالي أمادو هامباتي با:
« La mort d’un vieillard en Afrique équivaut à l’incendie d’une bibliothèque. »
“وفاة مسنّ في إفريقيا، تُعادل احتراق مكتبة.”
ورغم أنّ الكثير من هذه العادات تناغمت مع الفطرة وتعاليم الإسلام، فإنّ هناك عادات أخرى بلغت من الانحطاط حدًا يُصادم الفطرة السليمة وتعاليم الشريعة، وستكون موضع حديثنا في القسم التالي.

ثالثًا: الطقوس والمعتقدات التي اصطدمت مع التعاليم الإسلامية
رغم تأثير الإسلام العميق في المجتمع المالي، ظلّت بعض الممارسات الشعبية متجذّرة، واصطدمت في جوهرها مع التعاليم الإسلامية، خاصة في قضايا الزواج، والنسب، وكرامة الإنسان. يستعرض هذا القسم أبرز تلك الطقوس، ويوضّح أوجه تعارضها مع القيم الشرعية.
الفوضى في نظام الزواج وبناء االأسرة
يرى الدكتور جاكاياتي أنّ الزواج، في بدايات مجتمع الفلان بمالي، لم يكن مستقرًّا أو واضح المعالم؛ بل كان أشبه بعلاقات معاشرة غير مؤطّرة؛ حيث يعاشر الرجل من تستهويه من النساء، دون مراعاة لعقد شرعي أو ارتباط رسمي. بل بلغ الأمر حدّ اختطاف النساء المتزوجات دون حرج، كما كانت النسبة في الأبناء تُسند إلى الأم، كما هو حال بعض الشعوب الإفريقية الأخرى. (14)
أما في أوساط البمبارا، فعلى الرغم من احترامهم لعرف الزواج عمومًا، إلا أنّ بعض الممارسات الفردية كانت تخرج عن نطاق المقبول، وتصل إلى مستوى من الفوضى يصعب تصديقه. ومن أشهرها:
أنه إذا ثبت عقم أحد الأزواج عبر فحوصات طبية، تُعقد جلسة عائلية داخل الأسرة، ويُتفق فيها على السماح لأحد إخوة الرجل العقيم بمجامعة زوجته بهدف الإنجاب.
ويضع الأخ الداخل على الزوجة “علامة” عند الباب، وحين يراها الزوج ينسحب، إلى أن يُنجز أخوه مهمته، فيخرج دون أن يُسأل، ثم يُنسب الطفل لاحقاً إلى الزوج العقيم، وتبقى القصة طيّ الكتمان داخل الأسرة.
ورغم أنّ هذه العادة اتُّبعت من أجل الحفاظ على استمرارية النسل، ومنع التفكك الأسري، إلا أنها من وجهة نظر دينية وأخلاقية تُعدّ:
- تعدّيّاً صارخاً على حرمة الزواج وكرامة الأسرة.
- زوراً في نسب الأولاد، وما قد ينشأ عنه من فتن لاحقًا.
- جريمة شرعية واجتماعية تمسّ صلب القيم الدينية (الزنا المموّه).(15)
الانتحار كوسيلة لغسل العار
تفشّت ظاهرة الانتحار بأشكال متعددة في بعض المجتمعات، مثل: الإلقاء في الآبار، والشنق العلني، وتعمّد الخروج إلى أماكن الخطر، وكانت الأسباب غالباً ترتبط بمفاهيم عرفية ساذجة، من قبيل:
- الهزيمة في مسابقة أمام الأقران.
- الوقوع في فضيحة اجتماعية، حتى لو كانت تافهة.
- اكتشاف خيانة، أو اتهام بالعار يمسّ سمعة الأسرة.
انتهاك حرمة المرأة
وتجسّدت مظاهر الانتهاك في مستويات متعددة، منها:
- التعري العام: في بعض المجتمعات، لم يكن من الغريب أنْ تتعرّى النساء في الأماكن العامة، أو أمام الغرباء، دون أنْ يُعتبر ذلك عيباً. وكانت المرأة أحيانًا تؤدّي أعمالًا شاقة تفوق طاقتها، في ظل تجاهل تام لإنسانيتها وأنوثتها.
- تقديم الفتيات كقرابين: في قبيلة السوننكي، كما ورد في “موسوعة تاريخ مالي”، كانت العادة أنْ تُقام طقوس كل سنة (أو كل سبع سنوات) تُقدّم فيها أجمل فتاة عذراء في القرية قربانًا لصنمهم الأكبر (واغادو بيد، أو قونبا بيد).ويزداد المشهد مأساوية حين نعلم أنّ الفتاة المختارة وأسرتها كانوا يشعرون بالفخر والغبطة لاختيارها! (16)
- الزواج القسري: مارستْ بعض المجتمعات الزواج القسري على الفتيات دون موافقتهن، وكان شائعًا في أوساط السوننكي والبمبارا، وهو تقليد يتعارض صراحة مع مقاصد الزواج الشرعي القائم على الرضا.
- الأعمال الشاقة: يشير الباحث “سيدي مختار ديمبيلي” إلى أنّ المرأة البمبرية، حتى قبل خمسين سنة، كانت تذهب بمفردها إلى آبار عمقها أكثر من ستين ذراعاً، لجلب الماء لأهلها ومواشيهم. (17)
وهذا دليل على أنّ انتهاك حرمة المرأة كان مستمراً، حتى بعد ظهور المؤثرات الإسلامية في المجتمع.
هذه الممارسات، وغيرها، تمثل الوجه المظلم من الموروث الشعبي الذي اصطدم بقوة مع التعاليم الإسلامية، سواء في مسألة النسب، أو حرمة الجسد، أو كرامة الإنسان.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى معرفة التوتر التاريخي الذي نشأ بين بعض الموروثات الشعبية وقيم الإسلام، وهو ما سنناقشه في القسم التالي.
رابعًا: صراع بين العادات المحليّة والمؤثّرات الإسلامية
لم يكن الإسلام يومًا قوة قهر ثقافي، لا في إفريقيا ولا في غيرها من مناطق العالم التي بلغها الفاتحون. بل على العكس، فقد تعامل مع عادات الشعوب – ومنها عادات الأفارقة – بمرونة واحترام، فهذّب منها ما وافق الفطرة، وتسامح مع ما لا يناقض الشريعة، وواجه ما يصطدم معها بشكل مباشر.
وقد شهد بذلك حتى بعض الباحثين غير المسلمين؛ إذْ يقول بليدن (W. Bleyden): “إن سرّ قدرة العرب المسلمين على التأثير في عادات وتقاليد الأفارقة، هو أنهم احترموها ولم يحتقروها.” (18)
وبفعل هذه المرونة، أصبحت العناصر الثقافية الإسلامية أكثر انتشارًا في منطقة السودان الغربي، لما لبّت من حاجات اجتماعية وروحية للسكان.
لكن ذلك لم يؤدّ إلى اختفاء كامل للموروث المحلي، إذْ ظلّت بعض التقاليد حاضرة بقوة؛ بل اعتُبرت جزءًا من الدين نفسه في نظر العامة.
أمثلة على امتزاج العرف بالدين
- طقوس الأضاحي: من الاعتقادات الشائعة في بعض المجتمعات الأفريقية، بما فيها مالي، أنّ الإنسان يوم القيامة سيجوز الصراط على أضحيته، ولذلك يُولون عناية خاصة لها؛ فيعزلونها عن القطيع، ويُطعمونها الأعلاف الخاصة، ويُسمنونها لعدة أشهر، وأحياناً لعام كامل. فبقدر ضخامة الأضحية وسمنها، يعتقدون أنّ سرعة عبور الصراط ستكون. (19)
طقوس الجنازة والحداد لدى السننكي
رغم انتشار الإسلام، ما زالت بعض الطقوس الجنائزية تُمارَس عند السننكي، ومنها ما لا أصل له في الدين؛ بل هو إرث ثقافي قديم. ويرى المؤرخ “عبد القادر بن تيجان كجيري” أنّ هذه الطقوس كانت قائمة قبل دخول الإسلام، وما تزال تُمارس في مناطق سونينكارا، باستثناء مناطق التي يغلب عليها أتباع التيار السني، ومن هذه الطقوس، مثل:
- جمع نساء الميت: إذا كانت للمتوفى زوجات عدة، يُجمَعن في بيت الزوجة الأولى، وينَمْنَ على سرير واحد طوال الأسبوع الأول، قبل أنْ تعود كل واحدة منهن لبيتها لإتمام العدة.
- سكين المعتدّة: توضع بجانب الأرملة سكين صغيرة طيلة فترة عدتها، دون تفسير شرعي واضح لذلك.
- شراب العلقم: في بعض المناطق، تُجبر المعتدّة على شرب ماء ممزوج بورق الحنظل، أو عصارة شجرة مُرّة تسمى جيالاجي (Dialadji) في مشهد لا يخلو من القسوة.
- الامتناع عن التأمين: لا يُسمح للأرامل بالتأمين على دعاء المعزّين؛ بل يردّ بدلًا عنهن الحضور، سواء في الأسبوع الأول أو طيلة العدة، بحسب المنطقة.
- تقييد الرؤية: لا يُسمح لأيّ امرأة برؤية الأرملة خلال الأسبوع الأول إلا إذا كانت قد ذاقت مرارة الترمّل، أو فقدت أبناءها. وإذا همّت الأرملة بالخروج، تُنَبَّهُ الموجودات حتى تنسحب من لا يحق لهن رؤيتها. (20)
هذا الامتزاج بين العادات المحلية وتعاليم الدين، يطرح تساؤلًا جوهريًا، ألا وهو: هل يُعدّ هذا التداخل مبررًا لانتقاص الإسلام الإفريقي وتقزيمه بوصفه “إسلاماً أسودا”؟ ذلك ما سنناقشه في القسم التالي.

خامسًا: “الإسلام الأسود”.. أكذوبة ومصطلح مضلّل
استُعمل مصطلح “الإسلام الأسود” خلال الحقبة الاستعمارية الأوروبية؛ لنعت الإسلام في مناطق إفريقيا جنوب الصحراء، بزعم اختلافه عن الإسلام في باقي المناطق. وكان الهدف وراء هذا التوصيف فصل المسلمين الزنوج عن جوارهم العربي الإسلامي، خصوصاً في لحظة تاريخية بدأتْ فيها حركات المقاومة الإسلامية تشتدّ، مستندة إلى الدين في مواجهة الاستعمار.(..)
وقد صيغ هذا المصطلح بعناية استعمارية للتشويش على المسلمين الأفارقة، والتقليل من شأن إسلامهم، ومنعهم من التماهي مع الصحوة الإسلامية الشاملة.
ويرى الكاتب، من خلال تتبعه للسياق الذي وُلد فيه هذا الوصف، أنه لم يكن توصيفًا بريئًا، بل محاولة مقصودة لفصل المسلمين الأفارقة عن عمقهم الإسلامي، تمهيدا لإحكام السيطرة عليهم، وإبقائهم تحت تبعية للمستعمر.
مع أن هذا المصطلح، قد حظي براوج واسع في كتابات عدد من فلاسفة الغرب، وانساق خلفه بعض المنظّرين من دعاة “الزُّنوجة“؛ بل حتى بعض غلاة القومية العربية. لكنّ أقلامًا حرّة، إفريقية وعربية، تصدّت لهذا المفهوم بقوة ووضوح.كما فعل الأديب المالي أمادو هامباتي با (Hampâté Ba) حين قال: “لا يمكن أنْ يكون هناك إسلام أسود، كما أنه لا توجد مسيحية سوداء أو يهودية سوداء؛ قبل كل شيء هناك فقط الإسلام الأصيل النقي، وهو الجدير وحده بالدراسة.” (22)
ومن اللافت أنّ معظم الدراسات التي نادتْ بخصوصية “إسلام إفريقيا“، لم تعتمد على أيّ أدلة موضوعية تبرّر توصيف “الإسلام الأسود”، سوى مشاهد من عادات قديمة أو طقوس صوفية منحرفة، ما زالت تمارس في بعض المناطق. لكن، هل وجود هذه الممارسات يبرّر وسم إسلام القارة بهذا اللقب المضلّل؟ ثم ماذا عن مجتمعات المشرق والمغرب؟ هل كانت طاهرة تمامًا من البدع والخرافات؟
في هذا الصدد، يجيب الدكتور هارون المهدي ميغا قائلا: “لو سلّمنا برأي هؤلاء المزوّرين للحقائق، فلن يبقى للإسلام تاريخ ناصع في أيّ منطقة بعد القرون الثلاثة الأولى؛ لأنّ البِدَع والمخالفات وُجدت في كل المجتمعات، منْ غير أنْ يُفصّل الإسلام على مقاسها كما يُراد له في إفريقيا.(23)
كما أنّ الكاتب “محمد شقرون” يؤكد بشكل صريح على أنّ ما قيل عن الإسلام في غرب إفريقيا، ينطبق تمامًا على المنطقة الشرقية أيضًا.
فـ “ليون الإفريقي” (الحسن الوزان) مثلًا، سجّل في مدينة فاس المغربية مظاهر عديدة من الموروثات السابقة على الإسلام، كاحتفال بعض السكان بأعياد مجهولة الأصل، وترديدهم لعبارات لا يعرفون معناها، فضلًا عن مظاهر انحراف أخرى، مثل التكهن بالغيب، ووجود بيوت دعارة تمارس نشاطها تحت حماية السلطات.
ورغم هذه المشاهد، لم يُخْرِج الوزان أهل فاس من دائرة الإسلام، ولم يتحدث عن “إسلام مغربي” أو “إسلام فاسي“، فلماذا اختُرع مصطلح “الإسلام الأسود” إذًا؟!(24)
الخاتمة
في ختام هذه المحاولة المتواضعة، التي سعتْ لاكتشاف بعض ملامح الهوية الإفريقية الأصيلة، نستحضر، بِأَسًى، جانبًا من الصور التشويهية التي ألصقها المستعمر بالإنسان الزنجي؛ لتقزيم دوره التاريخي، وتزوير صورته في ذاكرة الإنسانية.
ففي مقدمة كتاب ما بعد الاستعمار: إفريقيا والبحث عن الهوية، يُصوَّر الزنجي بأنه: “آكل للحوم البشر، ويذبح السجناء ليبيع لحومهم، وعارٍ ذو شَعر أجعد، ووجه مليء بالشقوق، ورائحته كريهة، ولا يتحكم في غرائزه، وكسول لا يعمل، وكذّاب لا يُؤتمن”. فهل كانت هذه الصور الوضيعة حقيقةً تاريخية، أم أنها نتاج خيال استعماري مشحون بالحقد والجهل؟
لسنا هنا بصدد دحض هذه الافتراءات بالتفصيل، وإنما الهدف أنْ نوقظ ضمير الإنسان الإفريقي، ونحثّه على إعادة كتابة تاريخه، وتنقية تراثه، واسترداد هويته. إنّ الدفاع عن الهوية لا يكون بالتمنّي؛ بل بالبحث والتأصيل والتحرير. ولن تنهض تلك الهوية منْ تحت أنقاض التشويه، إلا بأقلام إفريقية حرة، تُنقّب في تراث الأجداد، وتُعيد الاعتبار للإنسان الزنجي، الذي ظُلم مرتين: مرة حين استُعبد، ومرة حين شُوّه تاريخه.
ولهذا، فإنّ مسؤولية الباحثين الأفارقة تفرض مقاربة الموروث الشعبي، لا بوصفه بقايا خرافية، أو عوائق للتقدم؛ بل باعتباره وعاءً حيًّا للذاكرة الثقافية، يستحق قراءة نقدية تُميّز بين ما هو إنساني راقٍ، وما يناقض القيم الدينية، أو الكونية.
وفي سبيل استعادة مكانة “الإسلام في غرب إفريقيا“، لا بُد من إنتاج دراسات مقارنة تُبرز خصوصيته لا باعتباره انحرافا عن النموذج الأصلي؛ بل كتجسيد حيّ للإسلام في بيئة ثقافية غنيّة، بعيدًا عن المقاربات الخارجية التي تنظر إلى التجربة الإفريقية بنظرة دونية أو معيارية.
وأخيرًا، فإنّ التعامل مع التداخل الديني بالعُرف يتطلب خطابًا متوازنًا، يفرّق بين ما يُعارض جوهر الدين، وما يمكن احتواؤه ضمن مقاصده، مع إفساح المجال لحوارٍ مفتوح بين علماء الدين والأنثروبولوجيا، يضع الإنسان الإفريقي في مركز الفهم، لا في هامش الاتهام.
وما طُرح في هذه الورقة المتواضعة من قيم أخلاقية ليس إلا غيضاً من فيضٍ، يمكن للتراث المالي أنْ يجود بأضعافه لو استُنطق. وعسى أنْ تكون هذه المحاولة لبنة صغيرة في بناء دراسات أوسع في المستقبل القريب.
——————————— انتهى ———————————
____________________
الإحالات والهوامش
____________________
[1] بتصرف:”كتاب بعض العادات والتقاليد في السّودان الفرنسي القديم-مالي-“لسيدي مختار ديمبيلي،الجزأ الأول، ط3/2023/ص: 54.
[2] بتصرف: المرجع السابق، ص:41.
[3] راجع: د. محمد جاكاياتي “الفلانيّون وإسهامهم في الحضارة الإسلامية بمالي”، بحث قدّم لنيل شهادة الدّكتورة، عام 2007, جامعة الزّيتونة(تونس)، ص: 31.
–أحمد لبّو(ولد سنة 1775 وقيل 1776م): فقيه وقائد سياسي فلاني خلال القرن التاسع عشر ميلادي، أسس دولة ماسينا الإسلامية في وسط مالي، واشتهر بتطبيق الشريعة الإسلامية ونظام إداري صارم، وكان من أبرز دعاة الإصلاح الديني في غرب إفريقيا.
[4] راجع: د. محمد جاكاياتي، المرجع السابق، ص:18.
[5] راجع: “موسوعة تاريخ مالي “لعبد القادر كجيري، ص: 14.وكتاب”بعض العادات والتقاليد في السّودان الفرنسي القديم، الجزأ الثاني، ص:.67
[6] راجع: د. جاكاياتي، المرجع السابق، ص: 18.
[7] نفس المرجع، ص: 19-20.
[8] راجع:”جهود العلماء الأفارقة في نشر الثقافة الإسلامية” غرب إفريقيا نموذجا، مجلّة قراءات إفريقيّة، العدد الثالث/ ديسمبر 2008.ص: 57
[9] بتصرف:”كتاب بعض العادات والتقاليد”الجزأ الأول، ص،17.
[10] بتصرّف: “تربية أجدادنا السابقة وتذكرة أجيالنا القادمة”، سيدي مختار ديمبيلي، ص:19.
[11] بتصرف: “كتاب بعض العادات والتقاليد “الجزأ الأول، ص،24 وما بعدها. وصفحة 31.
[12] بتصرف: المرجع السابق ص: 27 وما بعدها.
[13] بتصرف: “تربية أجدادنا السابقة”، سبق ذكره، ص:19.
[14] راجع: “الفلانيّون وإسهامهم في الحضارة الإسلامية” ص: 50.
[15] بتصرف:” بعض العادات والتقاليد” الجزأ الثالث:24.
[16] راجع: “موسوعة تاريخ مالي “،ص:30
[17] بتصرف: “بعض العادات والتقاليد “الجزأ الأول، ص: 49.
[18] د.مطير سعد الغيث أحمد”الثقافة الإسلامية العربية وأثرها في المجتمع السودان الغربي، ط المدار الإسلاميّ،ص،79.
[19] انظر: د.آدم بمبا “عيد الأضحى في المجتمعات الإفريقية”..رصد لمضامينه الحضارية/موقع قراءات إفريقيّة/13يونيو 2024.
[20] راجع : “موسوعة تاريخ مالي”ص:69 فما بعدها
[21] انظر: محمد شقرون “الإسلام الأسود”،ط1,دار الطليعة بيروت/2007،ص:13.
[22] انظر: محمد شقرون، المرجع السابق، ص:24.
[23]انظر:د.هارون المهدي ميغا “تاريخ الإسلام في غرب إفريقيا تحت مطارق الباحثين”، مجلة قراءات إفريقيّة، العدد1 ديسمبر 2004،ص:15
[24]محمد شقرون، المرجع السابق، ص،24.