في تطور سياسي يعيد إلى الأذهان الجدل الذي أثارته قراراته في فترة رئاسته الأولى، أعلن الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الجمهوري الحالي دونالد ترامب، يوم الجمعة الموافق 31 مايو 2024، عن نيته إعادة فرض حظر السفر على مجموعة من الدول، من بينها سبع دول إفريقية.
جاء الإعلان خلال تجمع انتخابي ضمن حملته الرئاسية لعام 2024، وشكل إعادة إحياء لإحدى أكثر السياسات المثيرة للانقسام التي اتبعها ترامب خلال فترته الرئاسية السابقة.
يعيد هذا القرار المطروح تسليط الضوء على إشكالية العلاقة بين الأمن القومي والهجرة من جهة، والسياسة التمييزية والتعامل الانتقائي مع دول الجنوب العالمي من جهة أخرى. فالخطوة لا تقتصر على منع الدخول إلى الأراضي الأمريكية؛ بل تحمل في طياتها دلالات رمزية قوية حول مكانة الدول الإفريقية في التصورات الأمنية الأمريكية، وموقعها في حسابات السياسة الخارجية القادمة.
كما تطرح تساؤلات حول مدى اتساق هذا النوع من السياسات مع المبادئ المعلنة للولايات المتحدة، لاسيما فيما يتعلق بالتعاون مع الدول النامية، وتعزيز العلاقات مع القارة الإفريقية.
يهدف هذا التقرير إلى تقديم قراءة تحليلية سريعة لتداعيات هذا الإعلان، من خلال التطرق إلى قائمة الدول المشمولة، ومناقشة الخلفيات السياسية الداخلية والخارجية، واستعراض الآثار الاجتماعية والاقتصادية المتوقعة، بالإضافة إلى رصد ردود الفعل الرسمية والمجتمعية، وانتهاءً بتحليل الأبعاد الرمزية والاستراتيجية لهذا القرار في سياق التحولات الجيوسياسية التي يشهدها العالم، والقارة الإفريقية على وجه الخصوص.
جدول المحتويات
أولاً: خريطة الحظر وملامح القرار الجديد
شمل الحظر الكامل سبع دول إفريقية هي: تشاد، السودان، ليبيا، الصومال، إريتريا، غينيا الاستوائية، وجمهورية الكونغو. كما فُرضت قيود جزئية على بوروندي، سيراليون، وتوغو. وبذلك، يُعد هذا التوسيع الأكبر لسياسة الحظر المرتبطة بإفريقيا منذ نسخة 2017 من القرار التنفيذي الشهير رقم 13769.
ما يلفت في هذه القائمة هو تنوع الدول جغرافيًا وسياسيًا، إذ تشمل شمال إفريقيا (ليبيا والسودان)، القرن الإفريقي (الصومال وإريتريا)، وسط القارة (تشاد والكونغو)، وساحل غرب إفريقيا (غينيا الاستوائية). يُلاحظ أيضًا أن بعض هذه الدول كانت مشمولة في الحظر السابق، في حين أُضيفت دول أخرى لأول مرة، ما يثير التساؤلات حول الأسس والمعايير التي تم اعتمادها.
التبرير الرسمي لهذا الحظر يستند إلى “دواعٍ أمنية” تتعلق بعدم كفاءة أنظمة التحقق من الهويات، و”احتمال تسلل عناصر متطرفة”، حسب تعبير ترامب. لكن منظمات مستقلة شككت في هذا التبرير، واعتبرته غطاءً لسلوك سياسي انتقائي يخلط الأمن بالتمييز.

ثانيًا: أبعاد سياسية داخلية وخارجية
في الداخل الأمريكي، يُعد قرار إعادة الحظر جزءًا من استراتيجية انتخابية واضحة يتبعها دونالد ترامب منذ بداية حملته لعام 2024. فهو يخاطب مباشرة القاعدة الانتخابية اليمينية المحافظة التي ترى في تشديد إجراءات الهجرة مسألة تتجاوز الأمن لتصل إلى الهوية القومية. تعبير “استعادة السيطرة على الحدود” يُستخدم ليس فقط في سياق الهجرة من أمريكا اللاتينية، بل يُسقط أيضًا على القادمين من مناطق تُصنّف بأنها “غير مستقرة” أو “مصدر تهديد محتمل”، مثل أجزاء من إفريقيا. كما أن خطاب ترامب يتماهى مع اتجاهات شعبوية يمينية عالمية، ترى في سياسات الإقصاء والهوياتية وسيلة لحشد الدعم السياسي.
خارجيًا، يعكس القرار تحولًا في أولويات السياسة الأمريكية تجاه القارة الإفريقية، ويؤشر على عودة المقاربة الأمنية الضيقة بدل الشراكات التنموية طويلة الأمد. ففي وقت تتجه فيه الصين إلى تعميق حضورها الاقتصادي، وروسيا إلى توسيع نفوذها عبر التعاون الأمني والعسكري، يأتي الحظر كمؤشر انكفاء أمريكي عن التفاعل الإيجابي مع القارة، ويفتح المجال أمام قوى بديلة. وهو ما يُعد مخاطرة استراتيجية، خاصة في ظل تطور البنية الدفاعية لدول مثل تشاد وليبيا والقرن الإفريقي، التي تُعد ممرات رئيسية في ملفات مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية.
من الزاوية العسكرية، فإن العديد من الدول المستهدفة بالحظر تُشكّل مواقع حساسة في الجغرافيا الأمنية الأمريكية في إفريقيا، سواء من حيث قواعد الانتشار، أو مراكز المراقبة والاستخبارات، أو الشراكات التدريبية مع الجيوش المحلية. تشاد، على سبيل المثال، تُعد حليفًا رئيسيًا للولايات المتحدة في منطقة الساحل، وتحتضن عمليات مشتركة في مكافحة الجماعات المتطرفة. في حين تُستخدم قواعد في جيبوتي وليبيا لمراقبة تحركات الجماعات المسلحة وممرات التهريب. اتخاذ قرار بعزل هذه الدول على المستوى الدبلوماسي والهجري قد يُربك هذه الحسابات، ويُضعف النفوذ العملياتي للولايات المتحدة في مواجهة التهديدات العابرة للحدود في إفريقيا.
ثالثًا: الآثار الاجتماعية والاقتصادية المتوقعة
على المستوى الاجتماعي، يهدد هذا القرار بتمزيق روابط عائلية تمتد عبر الأطلسي، حيث يعتمد آلاف المواطنين في هذه الدول على تأشيرات لمّ الشمل العائلي، والتعليم، والعلاج في الولايات المتحدة. كما سيُعطّل فرص الطلاب في متابعة دراستهم في الجامعات الأمريكية، ويؤثر على شبكة من التبادلات الثقافية والمهنية.
اقتصاديًا، يُتوقع أن يؤثر القرار على التحويلات المالية التي يرسلها المهاجرون إلى ذويهم، وهي أحد أعمدة اقتصادات عدة دول إفريقية. فبحسب البنك الدولي، تمثل هذه التحويلات في بعض الحالات أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي، كما هو الحال في الصومال وإريتريا.
من ناحية أخرى، قد يؤدي القرار إلى إرباك العلاقات التجارية والاستثمارية بين الولايات المتحدة وهذه الدول. في ظل التوجه العالمي نحو تنويع الشركاء، فإن القرارات العقابية قد تُفهم كمخاطر جيوسياسية، ما يُضعف جاذبية الولايات المتحدة كمركز اقتصادي واستثماري مستقر.
رابعًا: ردود الفعل الرسمية والمجتمعية
لاقى القرار موجة من الرفض والإدانة من منظمات حقوقية دولية بارزة، على رأسها منظمة العفو الدولية (Amnesty International) وهيومن رايتس ووتش (Human Rights Watch)، اللتان وصفتا الحظر الجديد بأنه تمييزي وعنصري، ويمثل امتدادًا لما أسمتاه “نظام الحظر الإسلامي” الذي طُعن فيه قضائيًا عام 2017، قبل أن يلغيه الرئيس جو بايدن في عام 2021. المنظمتان اعتبرتا القرار عودة إلى سياسة تستهدف شعوبًا بأكملها بناءً على معايير دينية أو جغرافية، وتتنافى مع المبادئ الأمريكية المعلنة.
إفريقيًا، عبّرت عدة حكومات عن رفضها الصريح أو الضمني للقرار. فقد أصدرت وزارة الخارجية السودانية بيانًا أعربت فيه عن “أسفها العميق” ووصفت الخطوة بأنها “ضارة بالعلاقات التاريخية بين الخرطوم وواشنطن”. وفي السياق ذاته، قال وزير الخارجية التشادي محمد صالح النظيف إن القرار “غير مبرر ويعاقب الشعب التشادي بسبب خلل إداري كان يمكن معالجته بالتعاون”. كما أبدى الاتحاد الإفريقي عبر متحدثه الرسمي قلقه من الخطوة، داعيًا الولايات المتحدة إلى انتهاج سياسة أكثر توازنًا في التعامل مع الهجرة والأمن، بعيدًا عما وصفه بـ“الانتقائية السياسية”.
أما على مستوى الجاليات الإفريقية في الولايات المتحدة، فقد اندلعت احتجاجات سلمية في عدة ولايات تضم جاليات كبيرة، مثل مينيسوتا، نيويورك، وكاليفورنيا. وقادت هذه التحركات منظمات مجتمع مدني مثل تحالف الجالية الصومالية في أمريكا، ورابطة السودانيين في الشتات، وشبكة النيجيريين الأمريكيين من أجل العدالة.
وصرّحت النائبة الديمقراطية في الكونغرس الأمريكي إلهان عمر، المنحدرة من أصول صومالية، بأن القرار “صفعة في وجه العدالة، وعودة إلى خطاب الكراهية والإقصاء الذي رفضه الشعب الأمريكي سابقًا”. كما أصدر مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (CAIR) بيانًا قوي اللهجة، اعتبر فيه الحظر “خيارًا سياسيا خاليًا من الاعتبارات الأخلاقية أو الأمنية الحقيقية”.
خامسًا: بين الرمز والواقع… ما الذي يريده ترامب؟
ينطوي القرار على أبعاد رمزية تتجاوز الجانب التنفيذي. فإعادة إحياء الحظر تعكس رغبة ترامب في ترسيخ صورته كقائد حازم في ملف الهجرة، وهو ملف حساس في السياسة الداخلية الأمريكية، يتقاطع فيه الأمن مع الهوية.
لكن، من الناحية الواقعية، فإن فعالية هذا الحظر تبقى محدودة في تحقيق الأهداف المعلنة، لا سيما وأن معظم منفذي العمليات المتطرفة في الولايات المتحدة لم يكونوا من الدول المحظورة. بالتالي، يصبح الحظر إجراءً رمزيًا أكثر منه أمنيًا فعّالًا.
كما أن هذه العودة إلى نهج الإقصاء قد تؤثر على مستقبل العلاقات الأمريكية مع إفريقيا، خاصة في ظل موجة جديدة من التغيير الجيوسياسي تشهدها القارة، تتسم بارتفاع سقف التوقعات من الشركاء الدوليين في ما يخص العدالة والاحترام المتبادل.
خاتمة
يمثل إعلان ترامب عن إعادة الحظر على دول إفريقية لحظة سياسية فاصلة تُعيد النقاش حول التوازن بين الأمن القومي وحقوق الإنسان، وبين الواقعية السياسية والرمزية الانتخابية. ورغم أن القرار لم يُفعّل رسميًا بعد، إلا أن تأثيره على المزاج الإفريقي والأمريكي قد بدأ بالفعل، في انتظار ما ستؤول إليه ملامح السياسة الأمريكية تجاه القارة في حال عاد ترامب إلى البيت الأبيض.