لم يأتِ الحوار الوطني السنغالي في لحظة سياسية عادية؛ بل في توقيت بالغ الحساسية؛ حيث تعيش منطقة الساحل حالة من الانكشاف الأمني، وتتغذى على تمدد الجماعات المسلحة وتصاعد النزعة العسكرية في الحكم.
وفي هذا السياق المتوتر، تسعى السنغال إلى الحفاظ على استقرارها من خلال ما يبدو في ظاهره مقاربة شاملة تمزج بين السياسات العامة، وخطاب التماسك الوطني.
فبدعوة الرئيس باسيرو جوماي فاي إلى الحوار الوطني السنغالي يوم 28 مايو 2025م المنصرم، بدت البلاد وكأنها تعيد ترتيب أوراقها الداخلية؛ لكن الدعوة نفسها تزامنت مع تصريحات لافتة للجنرال المتقاعد ميسا سيلي انجاي، حين وصف بعض المظاهر الدينية بـ “الإسلام المستورد المتشدد”، ما فتح باباً واسعاً للجدل حول الهوية، والدين، وموقع الخطاب الأمني في أعمال الحوار الوطني.
ومن هذا المنطلق، يحاول هذا المقال تسليط الضوء على هذا المشهد بعيون تراقب التحولات لا تكتفي بتوصيفها؛ حيث إنّ الحوار الوطني السنغالي لم يعد مجرّد مسار تفاوضي؛ بل أضحى مرآة تعكس توتر العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الأمن والسياسات.
وبين طموحات الإصلاح المعلنة وانقسامات الهوية التي تطفو إلى السطح مع كل تصريح مثير أو رد فعل غاضب، تُطرح تساؤلات جوهرية عن قدرة الدولة على إدارة التنوع دون أنْ تَسقط في فخ التوظيف السياسي أو المعالجات الأمنية الضيقة.
وفي هذا السياق، سأناقش في هذا المقال محاور ثلاثة، وهي: الخلفيات السياسية والأمنية التي رافقت إطلاق الحوار الوطني، وإشكاليات جانب من الخطاب الأمني وتأثيره على الهوية الدينية والتماسك المجتمعي،
وأخيرا، السيناريوهات المحتملة لمستقبل السنغال في ضوء هذا الحوار، بين فرص الإصلاح ومخاطر الانقسام.
جدول المحتويات
السياسات العامة والحوار الوطني بين الشمولية والإقصاء
إنّ تحول النقاش من الإصلاح السياسي إلى الجدل حول “الإسلام المستورد” قد يُهدد بإفشال توصيات الحوار، ويستلزم على اللجنة وضع إطار قانوني يجرّم الخطاب التحريضي المهدد للاستقرار المجتمعي.
إن دعوة الرئيس السنغالي باسيرو جوماي فاي للحوار الوطني ليست مجرد خطوة روتينية، بل تعكس رغبة في معالجة إخفاقات مزمنة، أبرزها تعدد الأحزاب (372 حزباً غير قانوني من أصل 386)[1] ، وتفكك الوحدة الوطنية، وتزايد السخط الشعبي (13 ألف مقترح على منصة “جوبانتي”)[2].
لكن القراءة المتعمقة تكشف أن الدوافع تتجاوز الإصلاح إلى إستراتيجية سياسية تهدف إلى الاحتواء، خاصة مع ارتفاع نسبة الشباب العاطل الذين قد يتحولون لوقود للاحتجاجات، وتجنب صدامات التعايش بين السلطات التنفيذية والتشريعية، وتعزيز شرعيته الدولية كزعيم ديمقراطي في منطقة غرب إفريقيا المضطربة بالانقلابات العسكرية وتصاعد الهجومات الإرهابية.
وتعتبر إدارة التنوع الديني والثقافي في السنغال نموذجاً إفريقياً، لكن تصريحات الجنرال المتقاعد ميسا سيلي انجاي حول “الإسلام المستورد”[3] كشفت عن تصدع في النسيج الاجتماعي، ومن هنا تبرز دور السياسات العامة في توازن حرية التعبير مع الحفاظ على التماسك المجتمعي، حيث أن اتهامات الجنرال للجامعات العربية وللمظاهر الإسلامية (مثل اللحى) أثارت ردود فعل عنيفة من التنسيقية الإسلامية، مما يعكس وجود خلل في السياسات الأمنية التقليدية، وعدم قدرتها على التعامل مع التطرف دون إثارة الانقسام.
ومن ناحية أخرى، فإن الوضع يتطلب مواجهة التطرف عبر الإدماج الاقتصادي لأن 75% من السكان شباب، وغياب فرص العمل يجعلهم عرضة لتجنيد الجماعات المتطرفة المتصاعدة، وتظهر مطالبة تنسيقية الحركات الإسلامية في السنغال بمحاسبة الجنرال قضائياً[4] الحاجة الملحة إلى وضع سياسات واضحة لتنظيم الخطاب الديني والأمني، بدلاً من تركها لتصريحات فردية تزيد الاحتقان.
وعليه؛ يلزم العمل على حماية الحوار الوطني ومنع تحوّله إلى منصة للإقصاء الذي يعتبر خطرا حقيقيا، مع دمج سياسات تحمي التنوع دون تغذية التطرف، وتصريحات الجنرال سيلي اختبار حقيقي للحوار الوطني حتى تتمكن اللجنة “الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان” (برئاسة تيابا سي كامارا) التابعة للجان الحوار[5] على تعزيز ثقة الشعب وسط اتهامات طائفية.
لأن تحول النقاش من الإصلاح السياسي إلى الجدل حول “الإسلام المستورد” قد يُهدد بإفشال توصيات الحوار، ويستلزم على اللجنة وضع إطار قانوني يجرّم الخطاب التحريضي المهدد للاستقرار المجتمعي.
الأمن الوطني وتحديات التطرف
في السنغال، حيث يشكل المسلمون 95% من السكان، تُوظف مصطلحات مثل “التطرف المستورد” أو “الإسلام المتشدد” بشكل انتقائي، غالباً لاستهداف حركات إسلامية إصلاحية لا تتبنى العنف، مثل اتهام جمعيات دعوية بنشر “فكر متطرف” لمجرد تبنيها مظاهر مثل اللحى أو النقاب أو تقصير الثياب[6]، رغم تركيزها على العمل الخيري والتعليمي، وربط خريجي الجامعات العربية بالتشدد دون أدلة على ارتباطهم بالجماعات المسلحة، كما في تصريحات الجنرال سيلي.
ورغم عدم وجود هجمات جهادية داخل السنغال، يطرح تساؤلات عن دوافع “صناعة عدو” داخلي لتحويل الانتباه عن فشل السياسات الاقتصادية. وهذا الخطاب يخدم أجندة أمنية تبرر توسع القمع باسم مكافحة الإرهاب، بينما يُهمل التطرف الحقيقي المتمثل في عدم مكافحة البطالة وتهميش الشباب.
إنّ البيان الرسمي الذي رد فيه تنسيقية الحركات الإسلامية على اتهامات الجنرال سيلي “تمويل الإرهاب بأموال المخدرات” يكشف عن محاولة الحركات الإسلامية حماية شرعيتها عبر آليات قانونية كالمطالبة بمحاسبة الجنرال قضائياً، بدلاً من اللجوء للخطاب العنيف، مما ينفي صفة “التطرف” عنها.
ولها الفرصة في استغلال الحوار الوطني كمنصة للمطالبة بحقوقها، ما يعكس محاولة لتحويل الأزمة إلى فرصة للإدماج السياسي والاجتماعي. بالإضافة إلى مواجهة الاتهامات الأمنية مع الحفاظ على صورة “الوسطية” لتجنب العزلة المجتمعية، في ظل خطاب إعلامي يربط أيّ حركة إسلامية بالإرهاب رغم وجود ما يوثق ذلك في بلاد أخرى. هنا، يصبح الحوار اختباراً لمصداقية الدولة في التعامل مع التنوع الديني دون إقصاء.
ويمكن القول بأن اتهامات الجنرال سيلي بـ “تمويل الإسلاميين عبر أموال المخدرات” ليست جديدة؛ لكنها تكتسب أهمية في سياق التأثير على السياسات الأمنية؛ حيث أنّ مثل هذه الاتهامات قد تُسقِط شرعية الحركات الإسلامية، وتُبرر إجراءات استثنائية كحل الجمعيات وتجميد حساباتها دون محاكمات.
كما أنّ جزءً من الخطاب الأمني السنغالي قد يكون مدفوعا بضغوط دولية (فرنسا، الولايات المتحدة) لـ “محاربة التطرف”، رغم اختلاف السياق السنغالي. وتستخدم الاتهامات المالية (كالإرهاب والمخدرات) كأداة سياسية لأغراض مختلفة، ويلزم على السلطات السنغالية تعزيز السياسات الأمنية للحد من خطر الإرهاب، يشتمل على حلول جذرية كالإصلاح الاقتصادي ومحاربة الفساد.
في حين ترفض تنسيقية الحركات الإسلامية في السنغال اتهامات الجنرال سيلي للمتدينين باعتبارها استهدافاً غير عادل، فإن بعض تحذيراته قد تستند إلى مخاوف أمنية حقيقية في ظل انتشار التطرف في منطقة الساحل، خاصة في جمهورية مالي. فقد تستغل جماعات مسلحة المظاهر الدينية، أو تتسلل إلى التجمعات الإسلامية لتنفيذ أجنداتها، مستفيدةً من تمويل مشبوه كغسيل الأموال.
لذلك، يتطلب الأمر موازنةً بين ضمان الحريات الدينية، ومراقبة التمويلات المشبوهة، مع تجنب التعميم. وتعزيز الشفافية المالية للجمعيات الإسلامية وبناء الثقة معها، دون المساس بشرعيتها، يُعد نهجاً ضرورياً للحفاظ على الأمن والسلام الاجتماعي في السنغال
الحوار الوطني السنغالي والتماسك الاجتماعي بين آفاق البناء ومخاطر الانقسام
يشكل الحوار الوطني في السنغال فرصة ذهبية لتعزيز التماسك الاجتماعي، ونجاحه في ظل سياق الأحداث الراهنة مرهون بإشراك ممثلي التيارات الإسلامية في لجان الإصلاح (كاللجنة القانونية برئاسة أميت انجاي)[7]، دون المشاركة الشكلية فقط.
فضلاً عن معالجة اتهامات الجنرال سيلي لبعض منتسبي الحركات الإسلامية في السنغال بـ “التمويل المشبوه”، عبر آليات قضائية تحفظ حقوق الجميع دون تمييز، مع تعزيز الحركات الإسلامية آليات مشاركاتها في الحوار عبر منصات مثل “جوبانتي” لضمان التوصل إلى التطلعات الإصلاحية.
وقد استغل الرئيس “بشيرو فاي” مناسبة عيد الأضحى بتاريخ 7 يونيو 2025م لإلقاء خطاب يجمع بين البُعدين الديني والسياسي[8]؛ حيث ركّز على قيم التضحية والتضامن، محاولاً توحيد الصفوف في ظل انقسامات طائفية متفاقمة مع إشارة ضمنية إلى رفض “التطرف” من جميع الأطراف دون استهداف، وقد وظّف المناسبة للتذكير على ضرورة دعم الإصلاحات السياسية وتعايش الأطياف الدينية.
وبهذا، يمكن القول إن السنغال تتجه نحو أحد السيناريوهين التاليين:
- أولا: اتجاه التعزيز والبناء المؤسسي: نجاح الحوار في إنتاج إصلاحات شاملة (دستورية، اقتصادية، أمنية) تُرضي الأغلبية، وتطويق الخطاب الطائفي عبر قوانين تجرّم التحريض، مع دمج التيارات الإسلامية في العملية السياسية، والاستثمار في الرمزيات الجامعة (كالأعياد الدينية) لتعزيز الانتماء الوطني فوق الانقسامات.
- ثانيا: مسار التراجع والتراخي المؤسسي: تحوّل الحوار إلى منصة للإقصاء، خاصة بعض منتسبي الحركات الإسلامية في السنغال، تحت ذريعة “مكافحة التطرف“؛ نظرا لعدم ورود أيّ ردّ فعل رسمي من الحكومة في تنديد تصريحات الجنرال وخطورتها، مما يمكن أن يؤدي إلى تزايد الخطاب العدائي من بعض الأجهزة الأمنية (كما في حالة الجنرال سيلي)، ويدفع الحركات الدينية للعزلة أو التصعيد، الأمر الذي يمكن أن يسبب استغلال الدين كسلاح سياسي عبر خطابات تبرر القمع أو تُحرض على فئات معينة.
الخلاصة والتوصيات
في ظل تعقيدات المشهد السياسي، يبرز الحوار الوطني السنغالي كآلية مركزية لإعادة هندسة العلاقة بين الدولة والمجتمع، ضمن بيئة إقليمية مضطربة، ومناخ داخلي يتأرجح بين التطلعات المدنية والانزلاقات الأمنية. لقد مثّلت تصريحات الجنرال المتقاعد حول ما سُمِّي بـ “الإسلام المستورد” لحظة كاشفة، لا لأنها صادرة عن موقع رسمي، بل لأنها أطلقت من داخل بنية أمنية سابقة ما زالت تُلقي بظلالها على المزاج العام، وتكشف عن حساسية التوازن الهوياتي في السياق السنغالي.
وفي ظلّ هذا السياق، لم يعد ممكنا عزل مسار الحوار الوطني السنغالي عن أسئلة أعمق تتعلق بمآلات الإصلاح، وحدود الشراكة المجتمعية، ومستقبل التماسك الوطني.
فقد أظهر مسار الأحداث أنّ نجاح الحوار الوطني السنغالي لن يتحقق ما لم يُعاد تعريف أولوياته ضمن منطق إصلاحي يشمل الجميع، ويتجاوز منطق التهدئة الظرفية أو المعالجات الخطابية لبعض التصريحات المثيرة للجدل.
إنّ التحديات الأمنية وحدها لا تُختزل في تهديد خارجي؛ بل تكمن في هشاشة الداخل، وفي خطابات رسمية وتصريحات من بعض منتسبي الأجهزة الأمنية (السابقة) قد يفاقم الانقسام بدلًا من تطويقه. ومن هنا، يصبح دمج الحركات الإسلامية، وتحصين التعددية، وضمان عدالة المشاركة، ليس خياراً سياسيًا فحسب؛ بل ضرورة للاستقرار.
وفي ضوء هذه المعطيات، يمكنني تقديم توصيات قد تكون مجدية على الأقل في الوقت الراهن، وهي:
- ربط مخرجات الحوار الوطني السنغالي مباشرة بسياسات إصلاحية ملموسة، تشمل تعديل الإطار القانوني، وتطوير آليات الرقابة المدنية، وليس الاكتفاء بمخرجات رمزية أو شكلية.
- إعادة توجيه الخطاب الأمني نحو مقاربات شاملة تعالج جذور التهميش، خاصة لدى فئة الشباب، عبر خلق فرص اقتصادية وتنموية مستدامة.
- فتح المجال أمام التيارات الإسلامية للاشتراك الفعّال والمؤسسي في مسار الإصلاح، على قاعدة الشراكة لا الإقصاء، بما يعزز شرعية الدولة التمثيلية.
- إصدار تشريعات واضحة تجرّم الخطاب التحريضي ذي الطابع الديني أو الطائفي، مع ضمان حماية حرية التعبير في إطار السلم الأهلي.
- إنشاء لجنة مستقلة لرصد وتقييم تنفيذ توصيات الحوار الوطني السنغالي، وضمان التزام مؤسسات الدولة بها، بعيدًا عن الحسابات السياسية الظرفية.
- تفادي الاستجابة غير المشروطة للضغوط الدولية في قضايا “مكافحة التطرف”، واعتماد استراتيجية أمنية تتناسب مع الخصوصية السنغالية، لا مع أجندات خارجية.
- تعزيز دور المجتمع المدني والفاعلين الدينيين الوسطيين كشركاء في إدارة التعدد وبناء الثقة، بما يرسخ مرجعية وطنية مستقلة للتماسك الاجتماعي.
وفي نهاية المطاف، لا يُقاس نجاح الحوار الوطني السنغالي بمدى حضور الفاعلين فيه؛ بل بقدرته على معالجة ما لم يُقل، وما يُدار في الهامش، وتحويله إلى مساحات إصلاح فعلية، تحفظ السنغال من الوقوع في دوامة الانقسام
_______________
الإحالات
[1] Au Sénégal, seuls quatorze partis politiques sont en règle, selon Bassirou Diomaye Faye – APS
[2] Treize mille propositions soumises à la plateforme dédiée au dialogue national, selon le président Faye – APS
[3] Sortie du Général Maissa Sélé : Le Rassemblement islamique du Sénégal invite le procureur à s’autosaisir
[4] Sénégal : La CAMIS dénonce avec fermeté les propos du Général Meïssa Sélé Ndiaye
[5] Birame Sène dévoile les noms des membres des trois commissions du dialogue national – APS
[6] Sortie du Général Maissa Sélé : Le Rassemblement islamique du Sénégal invite le procureur à s’autosaisir
[7] Birame Sène dévoile les noms des membres des trois commissions du dialogue national – APS
[8] Tabaski 2025 : À la Grande Mosquée de Dakar, le Président lance un vibrant appel à l’unité nationale