جدول المحتويات
لم تكن وفاة الرئيس الزامبي السابق إدغار لونغو مجرد حدث بيولوجي عابر في سِجلّ الحياة السياسية لبلد يعاني أصلاً من انقسامات عميقة، بل تحولت سريعًا إلى محطة جديدة في الصراع الرمزي بين الماضي والحاضر، بين شرعية الدولة الحديثة وذاكرة الحكم السابق. فبعد إعلان وفاته في جنوب إفريقيا عن عمر يناهز 68 عامًا، خرجت عائلته بتصريحات فجّرت جدلاً واسعًا: “لونغو أوصى بعدم السماح للرئيس الحالي هاكايندي هيشيلما بالاقتراب من جثمانه”.
لم تمرّ الكلمات مرور الكرام، إذ فتحت الباب على مصراعيه لطرح أسئلة حول مصير المصالحة السياسية في البلاد، وحدود الاحتكام إلى مؤسسات الدولة في لحظات الفقد.
خلفية عن حياة إدغار لونغو
وُلد إدغار شاجوا لونغو عام 1956، وبرز في الحياة السياسية بعد وفاة الرئيس مايكل ساتا في عام 2014، حيث تولى الرئاسة بشكل مؤقت، ثم فاز في انتخابات 2015، قبل أن يُعاد انتخابه في 2016. مثّل لونغو، المحامي الذي دخل عالم السياسة من بوابة الجبهة الوطنية، نموذجًا للزعيم المحافظ الذي يعتمد على تحالفات تقليدية، ويُحكم قبضته على مؤسسات الدولة، لكنه لم يسلم من انتقادات حادة تتعلق بالفساد وسوء الإدارة.
الخصومة الشخصية والسياسية مع هاكايندي هيشيلما، زعيم حزب التنمية المتحد (UPND)، بدأت مبكرًا. فقد نافسه الأخير في أكثر من خمس جولات انتخابية، قبل أن يفوز عليه في انتخابات 2021 بهامش كبير، وهو ما اعتُبر لحظة مفصلية في الانتقال السياسي السلمي في زامبيا، لكنها لم تُنهِ التوتر بين الرجلين.
تفاصيل أزمة الجنازة
بعد وفاته في أحد مستشفيات جنوب إفريقيا، أعلنت عائلة الرئيس الراحل أن إدغار لونغو ترك وصية صريحة بعدم إشراك الرئيس الحالي في جنازته، وهو ما رفضت الحكومة التعليق عليه رسميًا في البداية، مكتفية بالإعلان عن استعدادها لتقديم جنازة رسمية تليق برئيس سابق.
لكن الجبهة الوطنية، الحزب الذي ينتمي إليه لونغو، رفض العرض الحكومي، متهمًا السلطات بمحاولة “اختطاف الحدث” وتحويله إلى استعراض سياسي، بدلًا من احترام رغبة العائلة. وأعلنت العائلة أنها ستتولى مراسم الدفن بنفسها، بعيدًا عن أي تمثيل حكومي، وهو ما أثار تساؤلات حول ما إذا كانت الدولة ستتراجع عن تنظيم جنازة رسمية، أم ستفرض حضورها الرمزي كما تنص الأعراف السياسية في زامبيا.
الجنازة بين رمز الدولة وإرادة العائلة
في معظم الدول الإفريقية، لا تُفصل الجنازات السياسية عن السياقات الوطنية؛ فهي مناسبة لتكريم الرؤساء السابقين، وترسيخ سردية الدولة الحديثة. غير أن ما يجري في زامبيا يعكس انزياحًا عن هذا التصور، حيث اصطدمت الرمزية الوطنية برغبة شخصية مُعلنة، دفعت السلطات إلى زاوية حرجة.
العديد من المحللين يرون أن الحكومة، رغم تمسّكها بخطاب التصالح، تُدرك تمامًا أن لحظة الوداع تحمل قوة رمزية هائلة، وأن استبعاد الرئيس الحالي من الجنازة قد يُقرأ على أنه دليل حيّ على استمرار الانقسام السياسي، وعجز السلطة عن إعادة بناء الثقة مع مناصري النظام السابق.
وفي المقابل، تتمسك العائلة بقراءة شخصية – وربما إنسانية – للوداع، ترى أن لحظة الدفن يجب أن تُجرّد من الحسابات السياسية، وأنها تعبير عن الكرامة والوصية الشخصية قبل أي اعتبارات وطنية. هذا الموقف العاطفي لا يخلو من بعد سياسي، خاصة في ظل التوقيت الحرج الذي تمر به زامبيا.
القضاء والسياسة: تداخل أم استقلال؟
الخلاف لم يبدأ مع وفاة لونغو، بل يعود إلى العام الماضي، حين أعلنت المحكمة الدستورية أن فترة ولايته بين 2015 و2016 تُحسب ولاية كاملة، ما يجعله غير مؤهل للترشح مجددًا في الانتخابات المقبلة. القرار أثار حفيظة لونغو، الذي اتهم القضاء بالخضوع لتأثيرات سياسية، معتبرًا أن النظام يمنعه من العودة إلى الحياة السياسية عبر أدوات قانونية مضلّلة.
في هذا السياق، اتّهمت العائلة وأعضاء في حزب الجبهة الوطنية الحكومة بتقييد حريته في السفر وتحرّكاته داخل البلاد، بل إن البعض وصف الوضع بـ”الإقامة الجبرية غير المعلنة”، وهو ما نفته السلطات، مؤكدة أن مراقبة الرؤساء السابقين إجراءٌ أمني روتيني.
الأمر اللافت أن لونغو نفسه كان قد بدأ في العام الأخير من حياته تحركات توحي برغبته في العودة إلى المشهد السياسي، رغم القيود القانونية، مما زاد من حدّة التوتر مع الحكومة. وقد استثمرت بعض الأوساط المؤيدة له هذه المؤشرات للترويج لفكرة استبعاده قسرًا من الحقل السياسي.
أبعاد ثقافية وإعلامية أعمق
تحمل الجنازات الرئاسية في إفريقيا بعدًا ثقافيًا لا يقل أهمية عن بعدها السياسي. فهي لحظات رمزية يتجلّى فيها مفهوم الدولة أمام الشعب، عبر الطقوس، الحضور الرسمي، والمشهد البصري الكامل. لذلك، فإن غياب رئيس الدولة عن وداع سلفه يُعد أمرًا غير مألوف، وقد يُضعف من رسائل الاستمرارية والوحدة الوطنية.
الإعلام المحلي الزمبي تفاعل مع الحدث بتغطيات واسعة، انقسمت بين مواقف مؤيدة لاحترام وصية الرئيس الراحل، وأخرى ناقدة لاختزال الجنازة في حسابات الخصومة. كما شهدت منصات التواصل تفاعلات حادة، استخدمت فيها رموز من الحقبة الماضية لاستحضار الجدل التاريخي بين الجبهة الوطنية وحزب التنمية المتحد.
في المقابل، سعت بعض الأصوات في المجتمع المدني إلى التهدئة، مطالبةً بإيجاد صيغة تحفظ كرامة الفقيد، دون أن تُفقد الدولة سيادتها الرمزية على مثل هذه المناسبات.
السيناريوهات المحتملة: قراءة تحليلية
أمام هذا المشهد المتداخل، يمكن تخيّل ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
- سيناريو التهدئة والتسوية: حيث تتفهم الحكومة حساسية الموقف، وتحترم رغبة العائلة في تسيير جنازة خاصة بعيدًا عن التمثيل الرسمي، مع توجيه الرئيس خطابًا محترمًا ومتزنًا يُشيد فيه بإرث سلفه دون حضور جسدي. هذا السيناريو يعكس نضجًا سياسيًا ويعيد بعض الثقة إلى المؤسسات.
- سيناريو الصدام الرمزي: في حال قررت الدولة تنظيم جنازة رسمية موازية أو فرض حضورها رغماً عن العائلة، فقد يؤدي ذلك إلى تكرار مشهد الانقسام داخل الشارع، وإلى مزيد من التوتر بين أنصار الطرفين. وهو خيار يحمل مخاطرة، وإن كان مشروعًا من الناحية الدستورية.
- سيناريو التجاوز المؤقت: يتم فيه تجاوز الخلاف بتعليق أي إجراء رسمي، وترك المسألة تأخذ بعدها العائلي، على أن يُعاد تكريم لونغو في مناسبة وطنية لاحقة أكثر توازنًا، بعد خفوت التوتر.
أي السيناريوهات أرجح؟
بالنظر إلى المعطيات الحالية، يُرجّح أن تتجه الحكومة نحو سيناريو التهدئة والتسوية، لأسباب متعددة. أولها، أن الرئيس هيشيلما قدّم نفسه منذ انتخابه كصوت للاعتدال والانتقال الديمقراطي، وثانيها أن تصعيد النزاع حول جنازة قد يضعف موقفه أمام المجتمع الدولي، خاصة في ظل الحاجة لتعزيز الاستقرار السياسي لجذب الاستثمارات والدعم الدولي.
كما أن استبعاد المشاركة الرسمية لا يعني غياب الدولة عن المشهد الرمزي كليًا، بل قد يعاد بناء هذا الحضور من خلال التكريم السياسي والإعلامي في وقت لاحق، بما يحفظ التوازن بين احترام الوصية وضرورة الدولة في تثبيت سرديتها.
خاتمة
ليست الجنازة هنا مجرد وداع جسدي لرئيس سابق، بل اختبار سياسي وأخلاقي لنضج المؤسسات في زامبيا، ومدى قدرتها على التعامل مع الإرث الثقيل للماضي دون أن تقع في فخّ التسييس. وبين رغبة عائلة تسعى لحماية وصية فقيدها، ودولة تُدرك أن للرمزية ثمنًا في الذاكرة الوطنية، يبقى المشهد مفتوحًا على كل الاحتمالات.
إن اللحظة الزمبية اليوم تتطلب ما هو أكثر من احترام البروتوكول، إنها بحاجة إلى خطاب هادئ لا يعظّم الخلاف، بل يوسّع أفق الدولة على فكرة أعمق: أن وحدة الوطن لا تُبنى فقط في صناديق الاقتراع، بل في وداع رجالاته أيضًا.