جدول المحتويات
في السادس والعشرين من يونيو 2025م، تحوّل امتحان رسمي في ثانوية بارتيليمي بوغاندا بالعاصمة بانغي إلى أحد أكثر الأحداث المدرسية دموية في تاريخ جمهورية إفريقيا الوسطى. بالقرب من أكثر من خمسة آلاف تلميذ اجتمعوا لأداء شهادة البكالوريا (الثانوية العامة)، وقع انفجار في محوّل كهربائي داخل ساحة المدرسة، تبعه تدافع جماعي مروّع، خلّف 29 قتيلًا – معظمهم من الفتيات – وأكثر من 260 جريحًا، بينهم عشرات في حالات حرجة.
في غضون دقائق، غصّت المستشفيات بموجات متلاحقة من التلاميذ، بعضهم نُقل دون نبض، والبعض الآخر كان يتشبّث بالحياة وسط نقص في الموارد، ومشهد يفيض بالذهول والصمت.
واستُنفِرتْ فرق الطوارئ، وعائلاتٌ هرعت في هلع إلى المشافي، بين رجاءٍ ثقيل، ويأسٍ صامت. لم تكن الحادثة مجرد فشل في البنية التحتية فحسب؛ بل انهيارًا مؤلمًا لمعنى المدرسة بوصفها مساحة للنجاة والأمل، المدرسة الآمنة.
وفي مساء اليوم ذاته، أعلن رئيس الجمهورية، البروفيسور فوستين أركانج تواديرا الحداد الوطني لثلاثة أيام، كخطوة رسمية تحمل بعداً رمزيّاً مهمّاً؛ لكنها لا تلامس عمق الأسئلة التي فاضتْ بها هذه الفاجعة.
لقد فقدت بانغي أبناءها في لحظة كان يُفترض أنْ تمثّل ذروة اجتهادهم، لا نهايته. والصدمة لم تخلخل العائلات وحدها؛ بل زعزعت إيمان مجتمع كامل بأنّ المدرسة مكان آمن، وأنّ الامتحان ليس امتحانًا للحياة والموت.
وبناء عليه، لا يأتي هذا المقال تأبيناً عاطفيّاً، بقدر ما هو شهادة تُكتب من قلب الجرح، ومن موقع المواطن الذي يعرف مدارس بلاده جيداً، والمغترب الذي ما زالت جذوره ترتجف هناك، في باحات الطباشير، وأزقة المدينة التي لا تهدأ غالباً.
بانغي في حداد…؛ لكن الحداد لا يكفي.
ومن هنا، نقف عند ثلاث محطات متداخلة لفهم ما وراء الكارثة، ألا وهي: مأزق شهادة البكالوريا في الدول الفرنكوفونية، وهشاشة المدارس الوطنية، ومغزى الحداد في غياب الإصلاح
ولأنّ الصدمة أكبر من أنْ تُختزل في الخبر، يتوقّف هذا المقال عند ثلاث محطات متشابكة، وهي: شهادة البكالوريا بين الطموح والتحديات، والمدارس الوطنية بين الحاجة للأمان وتحديات البنية، وأخيرا الحداد كمناسبة للتفكير والإصلاح.
شهادة البكالوريا بين الطموح والتحديات
في مجتمعاتنا الفرنكوفونية، تُعدّ شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) أكثر من اختبار أكاديمي؛ إنها الجسر الذي يعبر به الطالب نحو التعليم العالي، والآمال المشروعة بالفرصة والتحول الاجتماعي.
ففي جمهورية إفريقيا الوسطى، اجتاز الآلاف سنة بعد عام هذه المرحلة المصيرية، ففي مدرسة بارتيليمي بوغاندا وحدها، اجتمع حوالي 5,300 تلميذ لأداء امتحانات البكالوريا في يوم المأساة. لكن عدد الناجحين في السنوات السباقة لا يعكس هذا الجهد الجبار، فوفق بيانات رسمية من الدول المجاورة مثل الكاميرون، تراجع معدل النجاح من نحو 75% في 2023م إلى أقل من 40% في 2024م. بينما شهدت دول مثل الغابون والكونغو نسب نجاح متواضعة في حدود 40–50%.
فلا يمكن فَهْم مأساة بانغي بمعزل عن الضغط الذي تعرض له التلاميذ والأسر منذ شهور، إذْ تتحوّل فترة البكالوريا إلى “حرب صامتة” على أكثر من صعيد، نفسي، ومادي، واجتماعي. حيث تُنفق الأسر الموارد القليلة على الدروس الخصوصية والكتب والمقررات التي قد تحسم مستقبل أولادها، في ظل واقع يرفض فيه التعليم البديل أو يضعف في البنى الممكنة له.
والسؤال المؤلم هنا، هو: لماذا يجب أنْ نأخذ ما هو ضروري للكثيرين كـ “تفريح” بينما تبقى البكالوريا “تذكرة الحياة”؟
ولا يخْلُ الأمر من التساؤلات حول مدى حيادية توزيع النتائج، ففي دول عديدة رفع البعض أصواتهم باتهامات لتسييس البكالوريا، إذْ يمكن أنْ تتبدل نسب النجاح بشكل كبير من عام إلى عام، من دون تفسير مقنع، كما حدث في الكاميرون وتشاد.
هذه التصرفات يعمّق شعورًا عامًا بعدم الثقة بالمنظومة التعليمية، خصوصا حين يُفترض أنها “قائمة على الاختبار”، وتتعاطى بنوع من الحزم مع الفشل، دون أنْ تعالج جذوره في البنية التعليمية أو تكسب تأييد الطلاب أنفسهم.
وحين انفجر محوّل كهربائي داخل مدرسة تجمع فيها الآلاف، لم يكن هذا عطلًا تقنيًا وحده؛ بل لحظة فُقدان السيطرة على عبْء تراكم سنوات من عدم الاستعداد، من عدم الأمان، من عدم وجود حلول لامتصاص الضغوط.
إنّ بانغي لم تكن استثناء؛ بل نقطة تبتلع هشاشات النظام التعليمي الإقليمي، وتفضح كيف يمكن لعبء مركزي واحد أنْ يتحول إلى مأساة جماعية.
وفي ظل الحزن، ينبغي الوقوف معًا أمام الحقيقة واضحة، ألا وهي: أنّ ما حدث في بانغي لا يرحمه مجرد حداد؛ بل يتطلب إصلاحات جذرية تعيد النظر في كل ما تحمله البكالوريا من رمزية وعبق اجتماعي.
المدارس الوطنية بين الحاجة للأمان وتحديات البنية
في قلب العاصمة بانغي، تقف مدرسة بارثليمي بوغاندا الثانوية كإحدى أقدم وأكبر المؤسسات التعليمية في البلاد. تأسستْ هذه المدرسة في خمسينيات القرن الماضي، وتحمل اسم الأب المؤسس للجمهورية، ما يمنحها رمزية وطنية خاصة.
لكن خلف هذه الرمزية، يقبع واقع أكثر هشاشة؛ حيث تآكلت بنيتها التحتية على مدى عقود من الإهمال، من دون أن تحظى بصيانة جذرية تليق بحجم أعداد التلاميذ الذين تستقبلهم سنويًا. ففي يوم الحادثة، كانت المدرسة تحتضن أكثر من 5,000 طالب يؤدون امتحانات البكالوريا، أيْ ما يفوق بكثير قدرتها الاستيعابية العادية، سواء من حيث المرافق أو المخارج أو وسائل التهوية والسلامة.
لقد كشف الانفجار العرضي لمحول كهربائي – نتيجة عملية إعادة ربط غير مؤمنة بالكامل – عن فجوة عميقة في منظومة الأمان داخل المدرسة. ليس فقط من حيث جاهزية البنية؛ بل أيضاً من غياب خطط الطوارئ والإخلاء.
لم يكن هناك تدريب مسبق، ولا ممرات مخصصة للطوارئ، ولا حتى إشراف فعّال يوجّه حركة الطلاب في لحظة الذعر. تدافعٌ واحد في فضاء مكتظ كفيل بتحويل الامتحان إلى مأساة، كما حصل للأسف. في مجتمع لم يعتد على الكوارث الطبيعية أو الأزمات المفاجئة، مثل الزلازل أو الفيضانات، فإنّ غياب ثقافة الاستعداد والتخطيط الوقائي يُعد ثغرةً حرجة ينبغي معالجتها.
ورغم أنّ جمهورية إفريقيا الوسطى لم تعرف سابقاً حوادث مدرسية بهذا الحجم، إلا أنّ مؤشرات الخطر لم تكن غائبة. مدارس كثيرة، لا في بانغي وحدها؛ بل في عموم البلاد، تعاني من تآكل المرافق، وتعطّل شبكات الكهرباء، ونقص فرق الصيانة.
وهذا واقع تشترك فيه عدة دول مجاورة مثل تشاد، والكونغو برازافيل، والنيجر؛ حيث لا تزال مدارس عديدة قائمة في مبانٍ متهالكة، بلا تجهيزات وقائية، وغالبا ما تُستخدم لغايات أخرى في أوقات النزاعات أو الطوارئ.
إنّ المدرسة في مثل هذا السياق لم تعد فضاءً للتعلّم؛ بل باتت في نظر كثير من الأسر مكانًا محفوفًا بالمخاطر. وهذا الانقلاب في المعنى – من الأمان إلى الخطر – يُعَدّ من أخطر ما يمكن أنْ يواجه أيّ نظام تعليمي.
فرهبة الامتحان لا يجب أنْ تُضاف إليها رهبة المكان. وما لم يُعاد النظر في تعريف المدرسة بوصفها “فضاءً آمنًا قبل أن يكون تربويًا“، فإننا نخاطر بأنْ نخسر ليس فقط أبناءنا وبناتنا؛ بل ثقة المجتمع ذاته في مؤسسة التعليم.
الحداد كمناسبة للتفكير والإصلاح
في مواجهة الفاجعة، اختارت جمهورية إفريقيا الوسطى أنْ تعلن الحداد، كما يليق بدولة تحترم آلام شعبها. ثلاثة أيام من الصمت الرسمي، خُفِضتْ فيها الأعلام، وتوقفت فيها البرامج الاحتفالية، وتوحدت فيها المشاعر.
لكن الحِداد، وإن كان فعلًا رمزيًا راقيًا، لا يمكن أنْ يكون نهاية الاستجابة. فالمأساة التي وقعتْ في مدرسة بارتيليمي بوغاندا لا تخص عائلات الضحايا وحدها؛ بل تُلزم الدولة بكامل مؤسساتها بأن تتجاوز واجب المواساة إلى فعل المحاسبة والإصلاح.
في مشهد بانغي، كان الغياب لافتًا، لا خطط طوارئ، لا جاهزية للمرافق، ولا طواقم مدربة على الاستجابة للأزمات. ومع ذلك، ما زلنا نرى في كثير من التجارب الإفريقية، ولا سيما في دول الجوار مثل تشاد والنيجر والكونغو، أنّ البيانات الرسمية تقتصر غالباً على إعلان الأسباب الأولية، وزيارات ميدانية محدودة، في حين تغيب المساءلة الفعلية، ويتكرر الإهمال بصور مختلفة.
ما تحتاجه بلادنا اليوم هو تحقيق مستقل وشفاف، لا يكتفي بإحصاء الضحايا؛ بل يسأل: كيف، ولماذا حدث، وما حدث بالضبط؟ ومَنِ المسؤول المباشر وغير المباشر؟ وما الإصلاحات العاجلة التي يمكن الشروع فيها فورًا؟
قد يتجاوز الإصلاح المطلوب مستوى الإنشاءات والإسمنت، إنّه مشروع بنيوي يمس فلسفة التعليم نفسه. نحتاج إلى مراجعة نظام الامتحانات، وتوزيع أعداد الممتحنين، ومعايير السلامة، ومفهوم “المدرسة الآمنة” بوصفها مرفقًا سياديًا، لا مرفقًا هامشيًا. كما أنّ تدريب الكوادر الإدارية والتربوية على إدارة المخاطر لم يعد ترفًا؛ بل ضرورة عاجلة في مدارس تستقبل آلاف التلاميذ في بيئات غير مستقرة.
وفي هذا السياق، لا يفوتنا أن نثمّن استجابة الرئيس فوستين أركانج تواديرا، وإعلانه الحداد الوطني في توقيت حساس. فالرئيس، قبل أنْ يكون رجل دولة، هو أكاديمي ومثقف، يحمل شهادتي دكتوراه في الرياضيات (في فرنسا والكاميرون)، وتدرّج في سلك التعليم الجامعي. وكونه ثمرة للتعليم العام في بلاده، يدرك من موقعه أنّ إصلاح المدرسة اليوم هو استثمار في الدولة غدًا، وأنّ المكانة التي منحته إياها مدرسته الأولى تُلزمُه بأنْ يرد لها الجميل بالرعاية والنهضة.
إنّ اللحظة التي نعيشها ليست مناسبة للاتهام؛ بل للاستنهاض. والحكمة لا تقتضي اللوم؛ بل البناء على ما تبقى. ما خسرناه لا يمكن استعادته؛ لكن يمكننا أنْ نمنع الخسارة القادمة، وأنْ نمنح المدرسة ما تستحقه من مكانة لائقة في قلب الدولة ووجدان المجتمع.
الخاتمة
في النهاية، لا يمكن النظر إلى ما حدث في بانغي كحادثة معزولة أو استثناء مؤلم في سياق وطني محدود. إنها مرآة مكشوفة تعكس واقعًا هشًّا تعانيه نظم التعليم في أجزاء واسعة من إفريقيا الناطقة بالفرنسية؛ حيث تتآكل البنى التحتية، وتُثقل كواهل الأسر، ويتقدّم التلاميذ في مسار محفوف بالمخاطر، بحثًا عن شهادة قد لا يبلغونها أحياء.
لقد آن الأوان لوقفة جماعية تتجاوز التضامن العاطفي، نحو التزام قاري يضع أمن التلاميذ وسلامتهم على رأس أولويات السياسة العامة. فالتعليم لا يُقاس فقط بمحتواه ومناهجه؛ بل بقدرته على توفير بيئة إنسانية آمنة، تحفظ الحياة قبل أن تمنح الشهادة.
ما وقع في بانغي يجب أنْ يحرّك ضمائر المسؤولين من داكار إلى أنجامينا، ومن برازافيل إلى باماكو. فلا مستقبل لقارة يُزَفّ فيها أبناؤها إلى قاعات الامتحان كما يُزفّ العرسان… ثم يُنقل بعضهم بنعوش إلى القبور والبعض إل المستشفيات. كفى موتًا صامتًا في طريق النجاح. كفى مدارس تنقلب من منبعٍ للحياة إلى مصائد للمأساة.