جدول المحتويات
لقد أثارت التوترات الجيوسياسية المتصاعدة القلق في العديد من دول القارة الإفريقية وذلك على خلفية الحرب الإيرانية الإسرائيلية.
وذلك منذ أن قام الكيان الصهيوني بإطلاق ” عملية الأسد الصاعد “، فجر الجمعة الموافق 13 يونيو 2025، وهي حملة عسكرية شاركت فيها أكثر من 200 طائرة مقاتلة استهدفت المنشآت النووية الإيرانية، ومراكز إنتاج الطائرات بدون طيار، ومصافي النفط، ومنصات إطلاق الصواريخ، وغيرها من أهداف عسكرية واقتصادية إيرانية.
وقد أسفرت هذه العملية عن اغتيال العديد من قيادات الحرس الثوري الإيراني وقادة القوات المسلحة الإيرانية، والعديد من علماء الطاقة النووية الإيرانيين، وغيرهم المئات من المدنيين.
وهو ما دفع النظام الإيراني إلى الرد على ذلك العدوان؛ حيث أطلقت إيران “عملية الوعد الصادق 3“، التي استهدفت بعض المدن الإسرائيلية، مثل: تل أبيب والقدس بالصواريخ البالستية، والصواريخ الفرط صوتية، مخلفة أضرارا جسيمة في بعض المنشآت.
وعلى الرغم من أنّ النطاق الجغرافي لذلك الصراع بعيدا عن القارة الإفريقية، إلا أنه سبب مجموعة من التداعيات على بعض القطاعات الإفريقية، وخاصة القطاعات الاقتصادية، وهو ما جعل الكثير من الدول الإفريقية توجه دعواتها لطرفي الحرب بضبط النفس، ووقف التصعيد. وذلك لوقف انعكاسات هذه الحرب على بعض دول القارة.
فمن خلال هذه المقالة، يمكن تسليط الضوء على أبرز المواقف الإفريقية من الحرب الإيرانية الإسرائيلية، فضلا عن عرض التداعيات التي أسفرت عنها هذه الحرب على بعض الدول، إلى جانب تناول مفصل للرؤية المستقبلية المتعلقة بالحضور الإيراني والإسرائيلي في دول القارة في مرحلة ما بعد الحرب، وذلك من خلال النقاط التالية:
أولا: المواقف الرسمية وردود الفعل الإفريقية من اندلاع الحرب الإيرانية الإسرائيلية
نظرا لوصول التوترات بين إيران وإسرائيل إلى مستويات خطيرة وغير مسبوقة منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على إيران، واشتعال نيران الحرب بينهما، اتخذ العديد من زعماء القارة الإفريقية مجموعة من المواقف وردود الفعل الأولية.
حيث دعا بعضهم إلى نبذ العنف، والدعوة إلى السلام وضبط النفس، وتحقيق العدالة في منطقة الشرق الأوسط، والالتزام بقواعد القانون الدولي، وهو ما يعكس رغبة زعماء القارة الإفريقية في الالتزام بالسلام العالمي، والحفاظ على التحالفات الدبلوماسية المتنوعة، وتتمثل أبرز مواقف وردود الفعل الإفريقية فيما يلي:
موقف الإتحاد الإفريقي
من جانب الإتحاد الإفريقي بوصفه المنظمة الدولية القارية التي تضم كل دول القارة الإفريقية فقد أعرب رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي عن قلقه البالغ بعد الضربات الإسرائيلية ضد إيران، وما تلاها من أعمال عدائية وتصعيد خطير في الشرق الأوسط. كما دعا إلى وقف فوري للأعمال العدائية، وحث جميع الأطراف على ممارسة أقصي درجات ضبط النفس، مشيرا إلى أنّ التطورات الراهنة تشكل تهديدا خطيرا للسلم والأمن الدوليين. ([i])
موقف جنوب إفريقيا
لقد كانت جنوب إفريقيا من أوائل الدول التي تفاعلت مع الحرب الإيرانية الإسرائيلية، بوصفها أحد أصدقاء إيران المقربين في القارة. حيث أصدرت إدارة العلاقات الدولية في جنوب إفريقيا يوم 13 يونيو، بيانا أعربت فيها عن قلق حكومة جنوب إفريقيا العميق إزاء الهجمات الاسرائيلية على إيران، وقدمت تعازيها لأسر جميع ضحايا الشعب الإيراني، مؤكدة التزام جنوب إفريقيا الراسخ بالحل السلمي للنزاعات.
كما حثت جنوب إفريقيا جميع الأطراف على ممارسة أقصي درجات ضبط النفس، ودعت إلى تكثيف الجهود الدبلوماسية بشكل عاجل لتهدئة التوترات وتعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط، مضيفة دعمها للمناقشات الثنائية الهادفة لوقف الحرب، مع تأكيد جنوب إفريقيا على الأهمية الحاسمة لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط.
ويوضح بيان جنوب إفريقيا عن موقفها الثابت من إدانة الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني ضد دول الشرق الأوسط ذات السيادة، مع دعم جنوب إفريقيا في ذات الوقت لمسألة إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط، وذلك في محاولة منها للظهور بمظهر الحياد، ومنع إعادة اتهامها من قبل الولايات المتحدة بالتعاون مع النظام الإيراني، ومعاداة الكيان الصهيوني المتحالف مع أمريكا. ([ii])
موقف كينيا
من جانب النظام الكيني فقد جاء رد الفعل متوافقا مع تقاربها من إسرائيل؛ حيث أدانت الحكومة الكينية الهجمات الصاروخية الإيرانية ووصفتها بالانتقامية، ودعت إلى تشكيل قيادة عالمية لنزع فتيل الأزمة، وذلك رغم أن كينيا تعد هي ثاني أكبر شريك تجاري لإيران في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا حتى قبل صعود نظام الثورة الإيرانية للحكم، كما أن كينيا كانت هي المحطة الأولي في جولة الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي في يوليو 2023 التي زار خلالها كينيا وأوغندا وزيمبابوي.
وفي بيان صادر عن وزير الخارجية الكيني فقد أعرب عن قلقه إزاء التصعيد، مشيرا إلى دعم كينيا السابق لقرار الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار في غزة، مؤكدا على متابعة بلاده بقلق عميق للوضع المتصاعد في الشرق الأوسط، مع الخوف من خروجه عن نطاق السيطرة وهو ما يشكل عواقب وخيمة على السلام والأمن الإقليمي والعالمي.
كما حث بيان وزير الخارجية طرفي الحرب على ممارسة ضبط النفس وتسوية خلافاتهما بالوسائل السلمية وفقا لميثاق الأمم المتحدة، مضيفا أن هناك حاجة لإصلاح مجلس الأمن بحيث يعمل ويتصرف بما يخدم مصالح الجميع، منتقدا تقاعس الأعضاء الرئيسيين في مجلس الأمن وحث على إجراء إصلاح هيكلي في أنظمة حفظ السلام العالمية. ([iii])
موقف نيجيريا
لقد أصدرت وزارة الخارجية في نيجيريا بيانا حثت فيه الجانبين على السعي إلى حلول دبلوماسية، محذرة من أن الضربة الاستباقية الإسرائيلية قد زادت من حدة التوتر الإقليمي بشكل خطير، مع تهديد الشرق الأوسط بمزيد من عدم الاستقرار وتعريض حياة المدنيين للخطر، كما حثت نيجيريا المجتمع الدولي وخاصة مجلس الأمن على تكثيف الجهود نحو التهدئة الفورية وتوفير منصة للمشاركة البناءة، والالتزام بالقانون الدولي، مع إعلان نيجيريا عن دعمها لجميع الجهود الرامية إلى تهدئة التوترات وتعزيز السلام في المنطقة، من خلال الحوار بدلا من المواجهة العسكرية.
ويتضح من بيان نيجيريا أنها تتخذ موقفا حياديا من الحرب بين إيران وإسرائيل، وهو ما يعكس رغبتها في عدم الميل لأي طرف من إطراف الحرب، وذلك بسبب تواجد الحركة الإسلامية الشيعية النيجيرية (IMN) الموالية لإيران، التي يتزعمها رجل الدين الشيعي إبراهيم الزكزاكي، والتي لها تاريخ تصادمي مع الحكومة في نيجيريا بسبب أنشطتها الغير قانونية التي تتسبب في حدوث حالة من البلبلة وعدم الاستقرار في مناطق نفوذ الحركة، خاصة مع دعوتها إلى إقامة دولة إسلامية شيعية على أراضي نيجيريا، وهو ما جعل الحكومة في نيجيريا تقوم بحظر أنشطتها.
كما يعبر موقف حكومة نيجيريا المحايد من الحرب بين إيران وإسرائيل عن محاولاتها عدم الانخراط والابتعاد عن هذه الحرب بتداعياتها حفاظا على السلم والأمن داخل نيجيريا، ومنع أية محاولات من أعضاء الحركة الشيعية المحظورة لجر نيجيريا للانخراط في أنشطة هذه الحرب من قريب أو من بعيد، خاصة بعد الاحتجاجات التي قامت بها الحركة الشيعية المحظورة في نيجيريا في يوم 28 مارس الماضي، خلال احتفالها بيوم القدس العالمي الذي يتم احيائه في يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان كل عام.
والذي كان الإمام الخميني المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الراحل، هو أول من أقترح الاحتفال بهذا اليوم، وخلال إحياء الحركة الشيعية ليوم القدس هذا العام، اصطدمت بقوات الأمن والشرطة في نيجيريا وحدث تبادل لإطلاق النار خلال المظاهرات، مما أسفر عن سقوط 12 قتيل من بينهم شرطي واحد.
وبسبب تلك الحادثة تحرص نيجيريا على عدم الانخراط في الصراعات الخارجية، وخاصة تلك المتعلقة بإيران منعا لحدوث فوضي داخلية قد تقوم بها جماعة الزكزاكي، والتي من المحتمل أن تحاول تقديم دعم لإيران في ظل الضربات الإسرائيليةالمركزة عليها. سواء كان هذا الدعم مادياً، أو سياسياً، أو حتى عسكرياً عن طريق إرسال المقاتلين من الحركة الشيعية النيجرية لدعم الحرس الثوري والنظام الإيراني. ([iv])
موقف السنغال
من جانبها أصدرت وزارة التكامل الإفريقي والشؤون الخارجية في السنغال بيانا يوم 16 يونيو 2025 أعربت خلاله عن قلقها العميق بسبب التصعيد العسكري في منطقة الشرق الأوسط، مدينة للعدوان الصهيوني على إيران، معتبرة إياه انتهاكا صارخا للقانون الدولي، ويعزز من حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، ويهدد جهود السلام والأمن على المستوي الدولي، داعية إلى وقف فو ري لإطلاق نار، ومؤكدة على أهمية التسوية السلمية للنزاعات، وفي ذات السياق أدان اتحاد النقابات السنغإلى (CSA) يوم 20 يونيو العدوان الإسرائيلي على إيران محذرًا من تداعياته السلبية على الدول الإفريقية ومن بينها السنغال
موقف غانا
حذر رئيس غانا جون ماهاما من التداعيات الاقتصادية للحرب التي تثير قلق بلاده المتزايد، حيث أن غانا مثل غيرها من العديد من الاقتصادات الإفريقية ليست بعيدة عن الصدمات الاقتصادية العالمية الناجمة عن الحرب، وعلى رأسها ارتفاع أسعار النفط الخام بشكل كبير، وهو ما سيكون له تأثير غير مباشر على سبل العيش في الدول الإفريقية وخاصة الدول المستوردة للطاقة.
موقف مصر
من جانبها أدانت مصر الوسيط التقليدي في أزمات الشرق الأوسط تصرفات إسرائيل ووصفتها بأنها تصعيد إقليمي صارخ وخطير للغاية وانتهاك صارخ لقواعد القانون الدولي، حيث قالت وزارة الخارجية المصرية إن غطرسة القوة لن تحقق الأمن لأي دولة في المنطقة بما في ذلك إسرائيل، مضيفة أن الأمن الحقيقي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال احترام السيادة والوحدة والسلامة الإقليمية للدول، مؤكدة أن تسوية الأزمات الإقليمية يكمن في السياسة وليس في الحرب.
موقف تونس
اتخذت تونس موقفا قويا مؤيدا لإيران، حيث أعلنت وكالة الأنباء التونسية عن إدانة تونس بشدة للعدوان الصهيوني على إيران، معتبرة أنه خرق صارخ لميثاق الأمم المتحدة وجميع القوانين والأعراف الدولية، ويقوض دعائم الأمن والسلم والاستقرار في العالم، وهو ما يتفق مع موقف كل من الجزائر والسودان والسنغال التي أدانت العدوان الصهيوني على إيران، عكس المغرب التي ترتبط بعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل بعد أن طبعت علاقاتها معها، بجانب اختلاف المغرب مع النظام الإيراني بسبب موقفه من قضية الصحراء ودعمه لجبهة البوليساريو.
وقف ناميبيا
دعت ناميبيا إلى استيقاظ اقتصادي عالمي، محذرة من التأثيرات العالمية المتتالية للحرب، وذلك بسبب ترابط الأسواق الدولية، حيث أن ما يحدث في جزء واحد من العالم يؤثر على جميع دول العالم وخاصة دول إفريقيا التي تتأثر فيها أسعار السلع والخدمات بسبب تداعيات الحروب الدولية.
ورغم وجود حالة من تباين المواقف بشأن الحرب بين إيران وإسرائيل في ظل وجود دول تدين العدوان الإسرائيلي على إيران، ودول أخري تتعاطف مع إسرائيل على حساب إيران وأخري تتبني موقف الحياد، فإنّ الخيوط المشتركة بين جميع الدول الإفريقية تدعو طرفي الحرب لضبط النفس والانخراط في المفاوضات السلمية بدلا من عمليات التدمير المتبادل.
وإجمالا نجد أن هناك 10 دولة إفريقية قد دعتْ إلى خفض التصعيد وعودة اللجوء للدبلوماسية في الشرق الأوسط وذلك من بين 20 دولة عربية وإسلامية كانت قد أصدرت بيانا مشتركا أدانت فيه الهجمات الإسرائيلية على إيران، مع التأكيد على ضرورة إخلاء منطقة الشرق الأوسط بأكملها دون استثناء من الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل في إشارة إلى إسرائيل، والدعوة إلى تسوية الأزمة الراهنة من خلال المفاوضات.
حيث توافقت كل من الدول الإفريقية الآتية مع هذا البيان، وهي: مصر، والجزائر، وليبيا، وموريتانيا، والسودان، وجيبوتي، وتشاد، وجزر القمر، والصومال، وجامبيا، وذلك بجانب تركيا وباكستان ودول الخليج، والذين أعربوا عن أهمية تجنيب المواقع النووية الخاضعة لسيطرة الوكالة الدولية للطاقة الذرية من التعرض للضربات، مع تأكيدهم أيضا على أهمية الحفاظ على حرية الملاحة في المضائق الدولية.([v])
ثانيا: تداعيات الحرب الإيرانية الإسرائيلية على الدول الإفريقية
لقد أسفرت الحرب الإيرانية الإسرائيلية عن العديد من التداعيات على دول القارة الإفريقية وذلك في عدد من المجالات، وعلى رأسها المجالات الاقتصادية والأمنية. ويمكن عرضها فيما يلي:
أ. التداعيات الاقتصادية
تمثل التداعيات الاقتصادية أهم التداعيات الناجمة عن اندلاع الحرب بين إيران وإسرائيل، ولعل أهمها ما يلي:
ارتفاع أسعار النفط وتقويض أمن الطاقة لدول القارة
فعقب الهجمات الإسرائيلية على إيران، ارتفعت العقود الآجلة لخام برنت بأكثر من 4 دولار للبرميل، بزيادة قدرها نحو 5.8%، لتصل إلى 73.38 دولارا للبرميل، مع مخاوف من ارتفاع الأسعار بنسبة تتجاوز 100 دولار للبرميل في حالة تصاعد الصراع بين الطرفين بشكل أكبر، وتعطل مرافق إنتاج النفط الرئيسية أو توقف طرق الشحن.
كما تعطلتْ إمدادات وسلاسل توريد الطاقة، فضلا عن ارتفاع تكاليف الشحن للدول الإفريقية في خضم الحرب، خاصة بعد تهديد إيران بغلق مضيق هرمز أحد أهم المعابر المائية في العالم، حيث يمر من خلاله ربع تجارة النفط العالمي المنقول بحرا، فضلا عن مرور خمس تجارة الغاز العالمي المسال وأغلبه من قطر.([vi])
وقد أدّي ارتفاع أسعار النفط إلى حدوث تداعيات وخيمة على بعض دول القارة، خاصة تلك الدول المستوردة للنفط. ففي غانا مثلاً، أدّي ارتفاع أسعار النفط العالمية إلى زيادة الضغط على بنك غانا للحصول على الدولار من أجل توفير النفط. كما أنه من المحتمل أنْ يحدث ارتفاع في أسعار الوقود في غانا بنسبة تتراوح ما بين 5 إلى 7% خلال الأسابيع المقبلة.
وفي مصر، واجهة الحكومة أزمة جديدة في قطاع الطاقة بعد غلق إسرائيل حقل غاز ليفياثان، أكبر حقولها في البحر المتوسط، والذي يمد مصر بكميات ضخمة من الغاز يوميا تصل إلى 800 مليون قدم مكعب؛ لسد جزء من احتياجاتها، وهو ما دفع الحكومة المصرية إلى وضع خطة بديلة تقوم على وقف إمداد المصانع بالغاز الطبيعي، واستخدام المازوت بجانب الغاز في تشغيل محطات الكهرباء منعا لقطعها على المواطنين.
كما أنّ ارتفاع أسعار النفط يهدد بتفاقم العجز التجاري، وزيادة الصدمات المالية الفورية لبعض دول القارة مثل كينيا وساحل العاج وسيشل وإثيوبيا التي تنفق أكثر من 20% من فواتير وارداتها على النفط.([vii])
ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض قيمة العملات المحلية
في ظل معاناة بعض اقتصادات دول القارة الإفريقية نتيجة للحرب الروسية الأوكرانية، وما تلاها من تصاعد الحرب التجارية بين أمريكا والصين، مع تزايد العبْء المفروض على دول القارة بسب حرب الرسوم التجارية التي شنها ترامب على أغلب دول العالم، تأتي الحرب الإيرانية الإسرائيلية لتزيد الطين بلة، وترفع الأعباء على شعوب القارة الإفريقية.
حيث نجد أنّه بسبب ارتفاع أسعار النفط الخام عالميا، فإنّ ذلك سوف ينعكس على زيادة تكاليف الوقود والنقل المحلية، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات وخاصة السلع المستوردة من الخارج نتيجة لارتفاع أسعار النفط عالميا وارتفاع أسعار المحروقات محليا.
كما ارتفعت أسعار الذهب في بعض دول القارة باعتباره ملاذا آمنا وقت الحروب والأزمات بنسبة 1%؛ حيث وصل سعر الأونصة 3420 دولار وهو أعلى مستوي لها منذ قرابة شهرين. وبالتالي، فسوف يؤثر ارتفاع أسعار السلع والخدمات على ارتفاع معدلات التضخم في ظل ارتفاع تكلفة المدخلات الزراعية، وزيادة فواتير استيراد الطاقة، واستنزاف احتياطات النقد الأجنبي.
وهو ما يؤثر أيضا على مسارات التعافي الاقتصادي التي كانت حققتها بعض الدول كغانا التي كان التضخم قد تراجع فيها خلال الفترة الماضية نتيجة لانخفاض أسعار النفط الخام، لدرجة قيام الحكومة الغانية بفرض ضريبة جديدة على الوقود بهدف توجيه المدخرات لدعم قطاع الطاقة المتعثر في البلاد.
ولكن مع تغيير الأوضاع، فقد حدث تغيير في السياسات المالية للبلاد، حيث أجلت الحكومة تطبيق ضريبة الوقود، تفاديا لإثارة الغضب الشعبي في ظل ارتفاع معدلات التضخم بسبب الحرب. ([viii])
وفي ذات السياق، انخفضتْ أسعار بعض العملات المحلية الإفريقية نتيجة لارتفاع سعر صرف الدولار وعدم اليقين الجيوسياسي بسبب الحرب؛ حيث انخفض الراند الجنوب الإفريقي بنسبة 1.6% صبيحة يوم الجمعة مع بداية الحرب، كما ارتفعت عائدات السندات السيادية طويلة الأجل، مع انسحاب بعض المستثمرين من الأسواق الناشئة.
وفي مصر انخفض الجنيه أمام الدولار عدة قروش، ليتراجع من متوسط سعر 49.71 إلى 50.2، وهو ما يضغط على الاقتصاد المصري والعملة المحلية، كما يتوقع أن تتحمل الموازنة العامة 4.5 مليار جنيه، بسبب ارتفاع أسعار النفط الخام العالمية. ([ix])
تراجع أداء البورصة وأسواق المال في بعض دول القارة
في غضون أيام من اندلاع الحرب، تأثرت بعض أسواق المال والبورصة في بعض دول القارة، وفي مقدمتها مصر؛ حيث سجل سوق الأسهم المصري أكبر انخفاض له منذ خمس سنوات، كما خسرت البورصة المصرية في أول جلسة تداول بعد اندلاع الحرب أكثر من 94 مليار جنيه، أيْ ما يعادل 1.9 مليار دولار.
وذلك وفقا لتصريح جريدة الأهرام المصرية، وهو ما يمثل أداء سلبي، وخسائر فادحة لسوق المال المصري بسبب التوترات الجيو-سياسة، وعدم وضوح مستقبل التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل، ووجود حالة من عدم اليقين لدي المستثمرين أفرادا أو شركات، لا سيما بسبب تخوفهم من تعرض مضيق باب المندب، أو مضيق هرمز للغلق، وهو ما يؤثر على حركة التجارة الدولية.([x])
التأثير على قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة
نظراً لوقف إمداد بعض المصانع المصرية بالغاز اللازم لتشغيلها، فقد توقفت عن العمل والإنتاج، ومن بينها مصانع الأسمدة والمبيدات الزراعية، وهو ما ينعكس سلباً على قطاع الزراعة؛ بسبب ارتفاع أسعار الأسمدة، أو حتى عدم توافرها خلال الفترة المقبلة إذا ما طال أمد الحرب، واستمرت المصانع في التوقف عن الإنتاج، مما قد يضر بالأمن الغذائي في إفريقيا، ويزيد الضغط على سلاسل الإمداد الغذائي.
وفي ذات السياق، فقد تضرر قطاع السياحة المصري بشدة؛ حيث أُلْغِيَ نحو 10% من حجوزات الرحلات السياحية الوافدة لمصر بسبب تداعيات الحرب، مع شبه توقف في حجز الرحلات الجديدة. كما أُجّلَ موعد افتتاح المتحف المصري الكبير بسبب الحرب، والذي كان يُعَوّل عليه في زيادة تدفقات السياحة للبلاد.
كما تأثرتْ الملاحة الجوية، وشركات الطيران أيضاً سلباً بعد إلغاء عدد من شركات الطيران لرحلاتها الجوية المتجهة إلى بعض العواصم العربية القريبة من مناطق الصراع. كما قامت أيضا عدة شركات طيران إفريقية بتغيير مسارات رحلاتها الجوية؛ لتجنب مناطق الصراع، وهو ما أدي إلى انخفاض سعة الشحن، وارتفاع تكلفة نقل البضائع على الشركات.([xi])
ب. التداعيات الأمنية
تزايد المخاوف من استهداف المصالح الغربية المعادية لإيران في إفريقيا
مع تصاعد تهديدات الرئيس الأمريكي ترامب بالتدخل في الحرب، والقيام بدعم إسرائيل بصورة مباشرة في عدوانها على إيران عن طريق توجيه ضربة عسكرية أمريكية إلى إيران، ومع استمرار ترامب بمطالبة إيران بالاستسلام غير المشروط، فتخشي العديد من دول القارة الإفريقية من قيام إيران أو وكلائها في المنطقة أو حتى في الداخل الإفريقي باستهداف المصالح الغربية في إفريقيا وعلى رأسها القواعد العسكرية الأمريكية.
وهو ما يتماشى مع التهديدات التي أطلقتها إيران بضرب القواعد الأمريكية في المنطقة في حالة تعرضها لعدوان عسكري أمريكي، ولعل قاعدة دييجو جارسيا الموجودة في المحيط الهندي والتابعة لدولة موريشيوس والتي تستأجرها بريطانيا منها وتقيم عليها قاعدة عسكرية أمريكية مشتركة من بين القواعد الأمريكية التي كانت إيران قد هددت بقصفها سابقا في حالة تعرضها لعدوان أمريكي.
كما أنّ القاعدة العسكرية الأمريكية في جيبوتي أيضا قد تكون مهددة بسبب قربها من الحوثيين في اليمن الموالين لإيران، والذين قد يقوموا بقصف هذه القاعدة في حال ما طلبت منهم إيران ذلك، أو حتى قصفها بصورة مباشرة من قبل إيران. وهو ما يهدد الأمن والسلم في كل من موريشيوس وجيبوتي، وغيرهما من دول القارة؛ حيث قد تُستّهدف أيضا السفارات والمقرات الدبلوماسية والمصانع والشركات الأمريكية والإسرائيلية الموجودة داخل بعض دول القارة، وهو ما يفرض عبئا أمنيا كبيرا عليها. ([xii])
قلق استهداف طرق الملاحة البحرية (مضيق باب المندب والبحر الأحمر)
سبق وأنّ إيران استخدمت في صراعها مع الغرب حلفائها الحوثيين في اليمن لتعطيل طرق الملاحة البحرية من خلال استهداف السفن الغربية الموالية لإسرائيل؛ بسبب استمرار عدوانها على قطاع غزة. ورغم تراجع الحوثيين في الفترة الماضية بفضل الوساطة العمانية، إلا أنه من المتوقع أن ينخرط الحوثيين مجددا في استهداف السفن الغربية وخاصة الأمريكية والإسرائيلية بسب عدوانهم على إيران.
بل يخشى البعض من وضع إيران لألغام بحرية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر ومضيق هرمز للتضييق على السفن الحربية الأمريكية، وهو ما سيؤدي إلى وقف التجارة العالمية في البحر الأحمر، ويضر بصورة مباشرة بعائدات قناة السويس التي تضررت على مدار الفترة الماضية بسبب العدوان الصهيوني على غزة.
وبسبب تصاعد هذه المخاطر فقد قامت بعض شركات الشحن بتحويل مسار سفنها بعيدا عن البحر الأحمر وقناة السويس واستبدالهما بطريق رأس الرجاء الصالح، وهو ما سيزيد من ارتفاع تكاليف الشحن والنقل على المستوردين والمصدرين، ويؤخر سلاسل الإمداد وخاصة في دول شرق إفريقيا القريبة من منطقة الصراع.
كما ارتفعت أقساط تأمين الشحن مما زاد الضغط على الشركات التي تعتمد على التجارة البحرية، فضلا عن حدوث حالة من الاضطراب في نقاط الاختناق البحري أدت إلى تأخير الشحنات بين آسيا وأوروبا وإفريقيا وهو ما يدفع الشركات إلى البحث عن طرق بديلة، حيث تدرس بعض الشركات الإفريقية خططا بديلة تشمل تنويع الموردين وتعديل استراتيجيات الشراء للحد من المخاطر المحتملة الناجمة عن الحرب. ([xiii])
مصير الطلاب والعمال والدبلوماسيين الأفارقة داخل إيران
إنّ استمرار الحرب، ومطالبة إسرائيل بإجلاء العاصمة طهران، ثم تكرار الرئيس الأمريكي ترامب الدعوة بإجلاء جماعي من طهران، يُنذر بحدوث تدخل أمريكي في الحرب فقد أسرعتْ العديد من الحكومات من شتي دول العالم بالعمل على إجلاء رعاياها من إيران.
وعلى الرغم منْ أنّ ردّ الفعل الإفريقي كان متحفظا بشكل ملحوظ مع عملية التصعيد، ومخاطر تعريض العاصمة الإيرانية طهران للقصف، والتي يقطنها نحو 9.5 مليون شخص من بينهم مئات الأفارقة من الطلاب والعمال والدبلوماسيين، فلم تقم سوي عدة دول إفريقية باتخاذ خطوات رسمية لمحاولة حماية مواطنيهم وإجلائهم من إيران.
فنجد أنّ غانا قد أغلقتْ سفارتها في طهران، وبدأت عملية إجلاء لمواطنيها عبر الحدود البرية لإيران؛ حيث أكد وزير خارجية غانا على إجلاء نحو 300 مواطن غاني من إيران، بجانب مساعي بلاده لإجلاء نحو 922 مواطن غاني موجودين في إسرائيل كذلك في انتظار رفع القيود الإسرائيلية على الحدود. وبالمثل أصدرتْ السودان توجيهات لسفيرها في طهران لتنسيق عملية الإجلاء الكامل للمواطنين السودانيين والعمل مع السلطات المحلية لضمان خروجهم الآمن من إيران.
أمّا جنوب إفريقيا، فقد حثت إدارة العلاقات الدولية جميع مواطني جنوب إفريقيا في إيران على التسجيل لدي السفارة وتقييم سلامتهم رغم عدم البدء في عمليات إجلاء حتى الآن، وبالمثل قامت كل من أوغندا وكينيا بوضع خطط لإجلاء رعاياهم في إيران وإسرائيل لحمايته من تداعيات الحرب. ([xiv])
ورغم وجود علاقات دبلوماسية وتجارية للعديد من دول القارة الإفريقية مع إيران، فإنّ غياب التحذيرات العامة أو خطط الإجلاء من باقي دول القارة أمر لافت للنظر. حيث يسافر عشرات الطلاب ورجال الأعمال ورجال الدين الأفارقة إلى إيران سنويا.
ويعكس هذا الصمت ضعف التنسيق بين الحكومات الإفريقية ومواطنيهم في الشتات في أوقات الأزمات وهو أمر يحتاج إلى مراجعة؛ بل وفي حالة سقوط النظام الحاكم في إيران، يُتوقع أن يلجأ الكثيرين من أبناء الشعب الإيراني إلى الدول الإفريقية كلاجئين، وخاصة في دول غرب إفريقيا الموجود فيها جاليات وجيوب شيعية، مثل: نيجيريا وغانا؛ حيث إن الدول الغربية والعربية ربما لا ترحب باللاجئين الإيرانيين. ولهذا قد تكون الدول الإفريقية هي الملاذ الأقرب لهم.
ثالثا: مستقبل الحضور الإيراني والإسرائيلي في إفريقيا
مما لا شك فيه أن نتائج الحرب بين إيران وإسرائيل سيكون لها أثرا مباشرا في رسم خريطة التحالفات الدولية والإقليمية الجديدة في المنطقة، وكذلك على مستقبل العلاقات بين دول القارة الإفريقية والحضور الإسرائيلي والإيراني فيها، وذلك إما إيجابا أو سلبا، وذلك يتضح فيما يلي:
بالنسبة لمستقبل الحضور الإيراني في إفريقيا
نظرا للخسائر العسكرية والاقتصادية التي منيت بها إيران، بعد استهداف العديد من منشآتها النووية والعسكرية فضلا عن اغتيال قياداتها العسكرية والمخابراتية والأمنية من الصف الأول والثاني، ونجاح جهاز الموساد الإسرائيلي في خداع إيران واختراقها من الداخل وتجنيد مئات الجواسيس والعملاء لخدمة أغراض الكيان الصهيوني. فإنّ سمعة إيران العسكرية سوف تتآكل دوليا وإقليميا وخاصة في إفريقيا، التي كان النظام الإيراني يسعي إلى توثيق علاقته مع دولها، للتغلب على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه من الغرب.
حيث إن هذه الخسائر العسكرية الإيرانية أدت إلى انكشاف إيران وإحراجها، وسقوط الدعاية السياسية المحيطة بالنظام الإيراني التي كان يصدرها لدول العالم، بعد عجزه عن الدفاع عن قادته وعلماؤه ونجاح إسرائيل في اختراق مجاله الجوي وهيمنتها الكاملة على سماء إيران، بل وتهديدها باغتيال على خامنئي رأس النظام الإيراني، وهو ما قد يضعف صورة إيران الإقليمية، ونتيجة لذلك فمن المحتمل أن يتراجع الحضور الإيراني في دول القارة الإفريقية وخاصة في النيجر وبوركينا فاسو.
وذلك أولا بسبب انكفأ النظام الإيراني على الداخل ومحاولته الحفاظ على نظام ولاية الفقيه من السقوط، وخاصة في ظل تراجع الدعم الشعبي للنظام بعد هزائمه العسكرية، وفشل منظوماته الدفاعية في صد العدوان الإسرائيلي رغم أنه استثمر ملايين الدولارات في تطويرها على حساب معاناة الشعب الإيراني اقتصاديا وحقوقيا.
وثانيا فإنّ الدول الإفريقية الصديقة أو حتى المقربة من إيران سوف تعيد حساباتها في مشروعات التعاون العسكري مع النظام الإيراني بعد الكشف عن ضعف قدرتها في حماية إيران نفسها، وهو ما يمثل حالة من عدم الثقة في التعاون مع طهران.
كما أن مشروعات التعاون الاقتصادي والأمني بين إيران وإفريقيا باتت هي الأخرى مهددة مستقبليا، وذلك لأنه عقب إضعاف النظام الإيراني الحالي، فمن المحتمل أن تقوم القوي الغربية بحث الدول الإفريقية على تصفية علاقاتها مع هذا النظام، وذلك حتى لا تخضع لعقوبات غربية.
وفي ذات السياق فإنّ الدول الإفريقية المتحالفة مع الولايات المتحدة أو إسرائيل سوف ترفع حالة تأهبها الأمني خوفا من استهداف إيران للمصالح الأمريكية أو الإسرائيلية في دول القارة الإفريقية، كالقواعد العسكرية الأمريكية في إفريقيا، والسفارات والمصانع والشركات أو غيرها من أهداف.
فضلا عن مراقبة سلوك الجماعات والحركات الموالية لإيران في إفريقيا كالحركة الشيعية في نيجيريا التابعة للزكزاكي، ومنعها من الانخراط في الصراع للحفاظ على السلم والأمن في دول القارة، بل من المحتمل تصفية هذه الجماعات الموالية لإيران في إفريقيا، إذا ما ضعف النظام الإيراني، وتوقف الدعم المالى المقدم منه لوكلائه، وهو ما يؤثر على مستقبل الحضور الإيراني بصورة عامة في دول القارة الإفريقية.
ولربما تستفيد القوي الإقليمية في المنطقة كتركيا والإمارات والسعودية من تراجع الحضور الإيراني في إفريقيا، وتحل محلها، وهو خيار آمن بالنسبة للدول الإفريقية الباحثة عن شراكات وعلاقات مصالح لا تسبب لها الضرر في توازناتها الدولية مثل علاقاتها مع إيران.
وعلى النقيض من ذلك، في حالة صمود النظام الإيراني ونجاحه في الاستمرارية والبقاء، يمكن أن يسعي إلى عقد تحالفات جديدة مع بعض دول القارة الإفريقية التي أدانت العدوان الإسرائيلي على إيران ومن قبلها غزة، خاصة في ظل وجود حالة من القلق الإفريقي بسبب سلوك إسرائيل العدواني وتبنيها لمبدأ القوة والبطش في تنفيذ سياستها الخارجية، ومحاولة استعراض قواها لردع دول وشعوب منطقة الشرق الأوسط.
وهذا يشمل توجيه رسالة إليهم مفادها أنها أصبحت هي القوة الإقليمية المتصاعدة في المنطقة والتي تستطيع اختراق دفاعات أي دولة إذا ما أرادت بفضل الدعم الغربي والأمريكي المقدم لها، وهو ما قد يشجع بعض الدول الإفريقية على الاصطفاف مع إيران لمواجهة نفوذ الكيان الصهيوني المتصاعد في المنطقة والذي بات يهدد الأمن والسلم في منطقة الشرق الأوسط وفي القارة الإفريقية التي ليست ببعيدة عن منطقة الأحداث.
مستقبل الحضور الإسرائيلي في إفريقيا
في ظل المكاسب العسكرية التي حققتها إسرائيل في عدوانها على إيران، ونجاح أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وعلى رأسها الموساد في اختراق إيران من على بعد نحو ألفين كيلو متر، وبالتالي إظهار قدرة الموساد وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تنفيذ عمليات نوعية واسعة النطاق، واستعادة مكانتهم المخابراتية بعدما تعرضت لاختراق مفاجئ على يد حركة التحرر الوطني الفلسطينية حماس في 7 أكتوبر 2023.
وبفضل هذه المكاسب الأولية، فربما تعزز من فرص الحضور الإسرائيلي في دول القارة الإفريقية مجددا، وخاصة في المجالات العسكرية والمخابراتية، وبالأخص في الدول الإفريقية التي تشهد حروبا وصراعات عسكرية مسلحة مثل إثيوبيا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية في صراعها مع رواندا، والسودان ، وجنوب السودان، وليبيا، والصومال، ودول الساحل الإفريقي التي تشهد صراعات أمنية مع الجماعات الإرهابية المسلحة.
ونظرا لوجود علاقات دبلوماسية لإسرائيل مع العديد من الدول الإفريقية، وإقامتها للعديد من مشروعات التعاون الاقتصادي وخاصة في المجالات الزراعية والتجارية، بجانب مشروعات التعاون الأمني والعسكري والسيبراني، فمن المحتمل أن تلجأ بعض دول القارة التي تعيش أزمات وجودية إلى إسرائيل وتطلب دعمها للحفاظ على بقاء أنظمتها السياسية، من خلال الحصول على صفقات سلاح إسرائيلية متطورة بعدما أثبتت جدواها وخاصة الطائرات الحربية والمسيرة في حربها مع إيران.
فضلا عن احتمالية طلب خدمات لوجستية وأمنية من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وعلى رأسها الموساد، بهدف حسم المعارك المشتعلة في الداخل الإفريقي لصالح أحد طرفي الصراع بدعم إسرائيل، وخاصة أن هناك اتهامات منذ سنوات لبعض الحكومات الإفريقية بشرائها برامج تجسس من إسرائيل ومن بينها برنامج بيجاسوس للتجسس على زعماء المعارضة، وغيرهم ممن يعتبرون أعداء لبعض الحكومات الإفريقية. ([xv])
وفي ذات السياق فإنّ دول الساحل الإفريقي التي تشهد معارك مستمرة مع الجماعات الإرهابية ربما قد تلجأ لإسرائيل من أجل دعمها في حربها على الإرهاب والتعاون معها أمنيا، بعد ظهورها بمظهر القوة الإقليمية الأكثر تفوقا عسكريا في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما قد يجعل بعض دول الساحل التي كانت قد تقاربت مع إيران في السنوات القليلة الماضية، مثل النيجر وبوركينا فاسو في القيام بمراجعة نفسها بما يتفق مع تحقيق مصالحها الأمنية.
وذلك رغم أنها دولا ذات أغلبية مسلمة، وتنظر لإسرائيل على أنها دمية للغرب، حيث تمتعض كل من مإلى والنيجر وبوركينا فاسو من التعاون مع الغرب بدافع التحرر والاستقلال والخروج من تحت الهيمنة الغربية، لكن المعطيات الإقليمية الجديدة في المنطقة قد تغير خريطة التحالفات وتجعل إسرائيل تلعب دورا أكبر في المعادلة السياسية مستقبلا.
وهو ما سيزيد من عملية الحضور الإسرائيلي في دول القارة الإفريقية، ويسمح لها بالتدخل في ملفات إفريقية وعربية حساسة من بينها ملف سد النهضة، والصراع بين مصر وإثيوبيا المتعلق بالهيمنة على البحر الأحمر، أو حتى الصراعات في منطقة القرن الإفريقي، وخاصة الصراع في السودان وجنوب السودان، والكونغو الديمقراطية وغيرها من صراعات وحروب إفريقية، قد تراجع الإهتمام الإعلامي والدولي بمجرياتها بعد اندلاع الحرب بين إيران وإسرائيل.
وفضلا عما سبق فإنّ إسرائيل قد تستمر في تعقب وكلاء إيران في إفريقيا مثل أنشطة حزب الله اللبناني في غرب إفريقيا، حيث تتهمهم إسرائيل باستخدام موانئ غرب إفريقيا الهشة في تصدير المخدرات وخاصة الكوكايين إلى أوروبا، وجمع الأموال الناتجة عن عمليات التهريب في تمويل إيران وأنشطة حزب الله المعادية لإسرائيل، حيث تسعي إسرائيل إلى تعقب وتصفية الأنشطة العسكرية وكذلك الأنشطة الاقتصادية لإيران وحزب الله وأعوانهم في إفريقيا.
وبالتالي سوف يؤثر ذلك على الحضور الإيراني في القارة بسبب احتمالات زيادة التعقب الإسرائيلي لأنشطتهم. وربما تطلق إسرائيل حملة دبلوماسية لكبح النفوذ الإيراني في إفريقيا، مع حشد الدعم الإفريقي ضد النظام القائم في طهران.
ولربما قد تستجيب بعض الدول الإفريقية المقربة من إسرائيل لهذا الحشد مثل إثيوبيا ورواندا وأوغندا وكينيا وغانا وزامبيا ونيجيريا التي ترتبط بعلاقات تعاون أمني وعسكري وتكنولوجي مع إسرائيل في ظل مساعيها لتحقيق مصالحها الاقتصادية بغض النظر عن توجهاتها الأيديولوجية.
كما يمكن أن يتغير التوازن الدبلوماسي بين الدول المؤيدة لإيران وتلك المؤيدة لإسرائيل في القارة الإفريقية نتيجة لتلك الحرب كذلك، مما يمهد الطريق لمرحلة جديدة من التنافس الجيوسياسي.
وعلى النقيض مما سبق، فقد يحدث نوع من الاصطفاف العربي والإفريقي مع إيران لمنع إسرائيل من تعزيز مكانتها المستقبلية كقوة إقليمية مهيمنة في المنطقة وخاصة لأنها هي من بدأت العدوان على إيران بجانب صورتها السلبية في إفريقيا بسبب عدوانها الغاشم على قطاع غزة المستمر حتى الآن.
وبالتالي قد تحدث مقاومة لعمليات الحضور الإسرائيلي في إفريقيا، منعا لممارسة أنشطتها الخبيثة في القارة الإفريقية وعلى رأسها عمليات التجسس على زعماء القارة الإفريقية سواء في الحكومة أو في المعارضة أو قيام الشركات الصهيونية المملوكة لرجال الأعمال اليهود في نهب المعادن الإفريقية كالذهب والماس وخاصة في مناطق الصراع مثل الكونغو الديمقراطية.
رابعا: الخاتمة
لقد أثبتت المعطيات السياسية أن الحرب بين إيران وإسرائيل أدت إلى تداعيات عديدة سلبية على دول القارة الإفريقية، وهو ما سينعكس على مستقبل الحضور الإيراني والإسرائيلي في القارة مما يجعل إفريقيا تدخل في مرحلة جديدة من الاستقطاب الدولي والإقليمي.
كما أنه من المهم أن تتعاون دول القارة الإفريقية مع الدول العربية للتصدي للتغلغل الإسرائيلي في إفريقيا وذلك نظرا لخطورته على أمن القارة، وخاصة في ظل مساعي إسرائيل لتقويض مسارات التعاون العربي الإفريقي بما يضمن الحفاظ على تغلغلها في القارة مع سعيها للعب دور أكبر في قيادة النظام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط بما يضمن تحقيق أهدافها الاستعمارية والتوسعية
وفي النهاية فإنّ نجاح إسرائيل في قيادة نظام أمني إقليمي تفرض بموجبه رؤيتها على دول المنطقة بقوة السلاح، من أخطر ما يكون سواء على الدول العربية أو الدول الإفريقية التي لا تتوافق في كثير من الأحيان مع الرؤي الإسرائيلية التي تقوم على العنصرية ونهب مقدرات وحقوق الشعب.
وهو ما يتطلب مزيد من التعاون العربي الإفريقي خلال المرحلة المقبلة من أجل تبني رؤية متوازنة تعمل من خلالها على الوقوف في وجه الكيان الصهيوني ومنع التصاعد الإقليمي له في المنطقة، والحد في نفس الوقت من احتمالات تطوير إيران لأسلحتها النووية، والتي يمكن أن تسعي إلى تطويره بأقصى سرعة في أعقاب توقف الحرب، رغم إضعاف نظام ولاية الفقيه نتيجة للعدوان الصهيوني ضده، والذي يبدو أن شمسه قد بدأت تغيب بعد تصاعد أخطائه الداخلية والخارجية.
_______________________
الإحالات والهوامش
([i])-” African Union says Israel’s attacks on Iran a ‘serious threat to international peace” , at , https://trt.global/afrika-english/article/be8cc8058ac5 , 13/6/2025.
([ii])-” African countries’ response to the escalating Iran-Israel conflict ” , at , https://africa.businessinsider.com/local/lifestyle/african-countries-response-to-the-escalating-iran-israel-conflict/ezg17m4 , 15/6/2025.
([iii])-” PS Sing’oei Speaks on Israel-Iran Conflict, Calls for Unified UN Security Council ” ,at , https://www.kenyans.co.ke/news/113089-ps-singoei-speaks-israel-iran-conflict-calls-unified-un-security-council , 13/6/2025.
([iv])-Camillus Eboh ; ” Shi’ite protesters clash with Nigerian military, police in Abuja ” , at , https://www.reuters.com/world/africa/shiite-protesters-clash-with-nigerian-military-police-abuja-2025-03-29 , 29/3/2025.
([v])-” Guerre Israël-Iran: 21 pays dont 11 africains appellent à une désescalade ” , at , https://www.rfi.fr/fr/moyen-orient/20250617-guerre-isra%C3%ABl-iran-21-pays-dont-11-africains-appellent-%C3%A0-une-d%C3%A9sescalade , 17/6/2025.
([vi])-Sheriff Bojang Jnr ; ” As Israel bombs Iran, Africa feels the blowback ” , at , https://www.theafricareport.com/386095/as-israel-bombs-iran-africa-feels-the-blowback , 13/6/2025.
([vii])-” Israël-Iran : les pays arabes redoutent une extension du conflit” , at , https://www.lesechos.fr/monde/afrique-moyen-orient/israel-iran-les-pays-arabes-redoutent-une-extension-du-conflit-2171117 , 17/6/2025.
([viii])-” Guerre Israël-Iran: le Ghana reporte l’instauration d’une taxe décriée sur le prix du carburant ” , at , https://www.rfi.fr/fr/afrique/20250616-guerre-isra%C3%ABl-iran-le-ghana-reporte-l-instauration-d-une-taxe-d%C3%A9cri%C3%A9e-sur-le-prix-du-carburant , 16/6/2025 .
([ix])-” South African assets slump in risk-off trade, snapping weeks of gains ” , at , https://www.reuters.com/world/africa/south-african-assets-sink-risk-aversion-after-israels-strike-iran-2025-06-13 , 13/6/2025.
([x])-” Israel-Iran conflict raises new threats for global shipping and oil trade” , at , https://www.ecofinagency.com/news-industry/1606-47276-israel-iran-conflict-raises-new-threats-for-global-shipping-and-oil-trade , 16/6/2025 .
([xi])-” Israel-Iran Conflict Disrupts East Africa’s Supply Chains, Driving Up Costs ” , at , https://somalimagazine.so/israel-iran-conflict-disrupts-east-africas-supply-chains-driving-up-costs , 14/6/2025.
([xii])-” Guerre Israël – Iran : L’Afrique toujours dans l’expectative, attend d’en subir les conséquenceshttps ” , at , https://lesechos-congobrazza.com/le-monde/11386-guerre-israel-iran-l-afrique-toujours-dans-l-expectative-attend-d-en-subir-les-consequences , 16/6.2025.
([xiii])-” Israeli-Iranian Escalation Disrupts Africa: Spike in Energy Prices and Erosion of Iranian Influence ” , at , https://www.arabprogress.org/en/israeli-iranian-escalation-disrupts-africa-spike-in-energy-prices-and-erosion-of-iranian-influence , 17/6/2025.
([xiv])-Sheriff Bojang Jnr ; ” Most African nations hold back as Trump urges mass exodus from Tehran ” , at , https://www.theafricareport.com/386245/most-african-nations-hold-back-as-trump-urges-mass-exodus-from-tehran , 17/6/2025 .
([xv])-” Guerre Israël-Iran: «Cette opération montre la capacité du Mossad à mener des actions à grande échelle ” , at , https://www.rfi.fr/fr/moyen-orient/20250618-guerre-isra%C3%ABl-iran-cette-op%C3%A9ration-montre-la-capacit%C3%A9-du-mossad-%C3%A0-mener-des-actions-%C3%A0-grande-%C3%A9chelle , 18/6/2025.