جدول المحتويات
يشكّل التمدد الإرهابي غرب مالي ملامح مرحلة جديدة من التصعيد؛ ففي صباح يوم الثلاثاء، الأول من يوليو 2025، هزّت مالي تسع هجمات منسّقة غير مسبوقة، استهدفت سبع مدن وبلدات متفرقة في غرب البلاد ووسطها تقريبًا، نفّذتها جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين”، المرتبطة بتنظيم القاعدة، من خلال جناحها المعروف باسم “حركة تحرير مساينا”.
وُصِفت الهجمات بأنها الأوسع من نوعها منذ شهور، طالت مواقع عسكرية في ديبولي، وكاي، ونيورو، وسانديريه، وغوغوي، ومولوذو، ونيوونو، وغيرها مخلّفةً مواجهات عنيفة أسفرت عن مقتل أكثر من 80 من المهاجمين، بحسب بيانات الجيش المالي.
وقد جاءت العملية بتكتيك جديد، يجمع بين التمويه، والتطويق المدفعي، والانتشار الجغرافي الواسع، ما يمنحها طابعاً عملياتيّاً نوعيًا، ويثير مخاوف إقليمية متصاعدة، خاصة مع اقتراب بعض المواقع المستهدفة من الحدود مع السنغال وموريتانيا، الأمر الذي يعكس تحولًا مقلقاً في جغرافيا التهديد الجهادي بمنطقة الساحل.
وتُفيد المؤشرات الأولية بأنّ الهجمات لم تكن ارتجالية؛ بل جاءت ضمن عملية عسكرية محسوبة التوقيت والمسار، نفذتها الجماعة وفق تكتيك “الضربات المتزامنة” التي تهدف إلى إنهاك الرد العسكري، وتشتيت موارد الدولة، وفرض واقع ميداني جديد في غرب مالي، وهي منطقة كانت تُعتبر حتى وقتٍ قريب أكثر استقراراً نسبياً مقارنة بالمثلث الحدودي الملتهب شمالًا.
وفي الوقت ذاته، كشفت القوات المسلحة أنها استخدمت الطيران المسيّر، ووسائل الاستطلاع البري لصدّ الهجوم، وأظهرت الصور الرسمية آليات محترقة، ومقاتلين قتلى وأسلحة مصادرة، في مشهد يعكس شراسة المواجهة وأبعادها غير المسبوقة.
وتمثل هذه الهجمات، في توقيتها واتساع رقعتها، لحظة فارقة في مسار الصراع المسلح بمالي، إذْ إنها تشير إلى تحول نوعي في قدرة التنظيمات الجهادية على اختراق الدفاعات، وتوسيع رقعة نشاطها نحو الغرب، وهو ما يطرح تساؤلات حول جاهزية المنظومة الأمنية، وفعالية الردع العسكري، ومتانة الجدار الحدودي الذي كان يفصل مالي عن تهديدات محتملة لجيرانها.
ويُخشى أنْ يكون هذا الهجوم جُزءاً من استراتيجية أوسع، تهدف إلى نقل المعركة من عمق الصحراء إلى تخوم المحيط، وتوسيع مساحات الاشتباك لتشمل سواحل الأطلسي، الأمر الذي يُنذر بتغيراتٍ استراتيجية في معادلة الأمن الإقليمي في الساحل وغرب إفريقيا.
وتزداد أهمية هذا الحدث في ضوء هشاشة السياق السياسي والأمني لمالي، التي تخضع لحكم عسكري منذ 2020، وتواجه تحدياتٍ مزدوجة تتمثل في التمردات الجهادية من جهة، والانقسامات الداخلية، والضغوط الدولية من جهة أخرى.
وقد جاء هذا التصعيد بعد أسابيع فقط من هجمات مماثلة طالت مطار تمبكتو وقواعد في وسط البلاد، ما يُوحي بتسارع إيقاع الضربات وتزايد قدرتها على التخطيط والتنفيذ، في سياق يعكس ملامح التمدد الإرهابي غرب مالي رغم الحصار الأمني المفترض.
وانطلاقًا من ذلك، يسعى هذا التقرير إلى تقديم تحليل شامل للهجمات الأخيرة من حيث سياقاتها العسكرية والجيوسياسية، واستشراف تداعياتها المحتملة على الداخل المالي وعلى أمن الجوار، خصوصاً السنغال وموريتانيا، اللتين تشكلان بوابة الأطلسي للمجال الساحلي.
كما يحاول التقرير الإجابة عن السؤال الجوهري:
هل تمثل هجمات يوليو تحولًا استراتيجيًا في مسار الجماعات الجهادية نحو الغرب الساحلي؟ وهل نحن أمام نمط جديد من الصراع يتجاوز مالي ويهدد بإعادة رسم خطوط التماس في غرب القارة؟
الطابع النوعي للهجوم والتكتيك الجديد للتنظيم
الهجوم الأخير الذي نفذته جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) يكشف عن نقلة نوعية في أسلوب الاشتباك المتبع من قبل التنظيم، سواء من حيث اتساع النطاق الجغرافي، أو من حيث البنية التكتيكية للهجوم. فخلافًا للهجمات التقليدية التي اتسمتْ بطابعٍ محلي ومحدود من حيث الزمن والموقع، شهدت هجمات 1 يوليو 2025 توظيفًا غير مسبوق لاستراتيجية “الضربات المتزامنة”.
حيث اسْتُهْدِفتْ سبع مناطق متباعدة في وقت واحد، شملت ديبولي، كاي، ساندره، نِيُورو، غوغوي، مولودو، ونيونو، وهي بلدات تمتد من وسط مالي إلى حدودها الغربية مع السنغال وموريتانيا.إذْ يعكس هذا التوسع المكاني والزماني، في سياق التمدد الإرهابي غرب مالي، درجة عالية من التنسيق العملياتي والدقة في التخطيط، ويهدف بالدرجة الأولى إلى تشتيت استجابة القوات المسلحة المالية، واستنزاف قدراتها على التدخل السريع في وقت واحد.
“إنّ طابع هذه الهجمات يوحي بأننا أمام تحول استراتيجي في عقيدة الجماعات الإرهابية القتالية، إذْ لم تَعُدِ الهجمات تقتصر على مناطق محددة؛ بل باتت تسعى لخرق الجغرافيا الأمنية غربًا، وفرض تهديد دائم على الخطوط التجارية والحدودية مع دول الجوار.”
واللافت للنظر في الهجمات التي تسعى إلى التمدد الإرهابي غرب مالي، أنها اعتمدت على تكتيك الإرباك الميداني؛ حيث شنّ المهاجمون ضربات مدفعية على عدة قواعد ومواقع في وقتٍ متقارب، قبل أنْ تبدأ محاولات الاقتحام البري عبر دراجات نارية ومركبات خفيفة.
وقد صرّحت القوات المسلحة المالية بأنها رصدت التحركات مبكرًا، وهو ما يرجح وجود اختراق استخباراتي أو مراقبة ميدانية مكنت الجيش من تفعيل الطيران المسيّر (بيرقدار) الذي لعب دوراً حاسماً في صدّ الهجمات، خاصة في منطقة خاي ونيورو.
وتؤكد مصادر ميدانية على أنّ بعض عناصر المهاجمين انسحبوا في مجموعات صغيرة، وهم يستقلون سيارات عسكرية استولوا عليها خلال الهجوم، مما يشير إلى أنّ الهدف لم يكن بالضرورة السيطرة الدائمة على المواقع؛ بل إحداث صدمة وخلق شعور بعدم الأمان حتى في المناطق الهامشية من مسرح العمليات التقليدي.
وتُظهر هذه العملية بوضوح بصمات جماعة تحرير ماسينا، الجناح الجنوبي ضمن تحالف جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، بقيادة أمادو كوفا، الذي يتمركز تقليديّاً في وسط مالي، خصوصاً في إقليم موبتي.
وقد سعت الجماعة في السنوات الأخيرة إلى توسيع نفوذها غرباً، نحو خط الحدود مع السنغال وموريتانيا، وهو ما ظهر بجلاء في الهجوم على مدينة ديبولي، التي تقع مباشرة على الشريط الحدودي السنغالي، وتشكل معبرًا تجاريًا محوريًا لمالي.
هذا التوجه الجغرافي ليس اعتباطيّاً؛ إذْ تسعى الجماعة إلى نقل مركز الثقل من مناطق السيطرة التقليدية نحو بوابات الساحل الأطلسي، وهو ما قد يمهد لمرحلة جديدة من التوسع، أو محاولة فرض وجود رمزي في المناطق التي كانت تُعد سابقًا مناطق عازلة آمنة نسبيًا.
وعند مقارنة هذه الهجمات مع عمليات سابقة، خصوصاً تلك التي وقعت في الشمال والوسط خلال العامين الماضيين، نلاحظ أنّ الجماعة بدأتْ بالتحول من تكتيك الكر والفر إلى عمليات اقتحام مركبة ذات طابع هجومي عالي التنظيم.
فقد سبق لها في يونيو 2024م أنْ هاجمتْ قاعدة تمبكتو ومطارها، وفي فبراير 2025 نفذتْ عملية خاطفة في منطقة سيغو شملت مهاجمة أكثر من نقطة أمنية في توقيت متقارب؛ لكنها لم تبلغ هذا المستوى من الاتساع الجغرافي والتنسيق الزمني.
من الناحية السياسة، تعكس هذه الهجمات، في سياق التمدد الإرهابي غرب مالي، رغبة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في استعراض القدرة والجاهزية أمام خصومها المحليين والدوليين، في وقت تزداد فيه الضغوط على التنظيم في مناطق نفوذه التقليدية بسبب الضربات الجوية الروسية والدوريات المشتركة التي ينفذها الجيش المالي.
كما تأتي هذه الهجمات في سياق إعادة ترتيب الحضور الجهادي في الساحل بعد انسحاب القوات الفرنسية وتضاؤل حضور قوات الأمم المتحدة، وهو ما يفتح المجال أمام الجماعة لتعزيز موقعها كأقوى فاعل مسلح غير دولتي في مالي.
وفي المجمل، فإنّ طابع هذه الهجمات يوحي بأننا أمام تحول استراتيجي في عقيدة الجماعات الإرهابية القتالية، إذْ لم تَعُدِ الهجمات تقتصر على مناطق محددة؛ بل باتت تسعى لخرق الجغرافيا الأمنية غربًا، وفرض تهديد دائم على الخطوط التجارية والحدودية مع دول الجوار، ما يثير مخاوف من امتداد الصراع إلى فضاءات أوسع قد تشمل مناطق نفوذ حيوية لدول مثل السنغال وموريتانيا.
أداء الجيش المالي واستجابته العملياتية والاستخباراتية
لقد أثار أداء الجيش المالي خلال الهجمات الأخيرة نقاشاً واسعاً حول مدى جاهزيته العملياتية، وقدرته على مواجهة تكتيكات متطورة تُوظّف عنصر المفاجأة، وتنتشر عبر جغرافيا مترامية الأطراف، خصوصًا في ظل تصاعد التمدد الإرهابي غرب مالي.
فمنذ الساعات الأولى للهجوم صباح يوم الثلاثاء 1 يوليو، بدا أنّ السلطات العسكرية كانت على علم مسبق بدرجة ما، بوجود تحركات غير طبيعية في المناطق الغربية والوسطى، ما دفع البعض إلى التساؤل: هل كانت الاستجابة العسكرية استباقية نتيجة لاختراق استخباراتي ناجح؟ أم أنها كانت مجرد رد فعل سريع لحظة بدء الاشتباكات؟
فالإجابة قد تكمن في تناغم العناصر الثلاثة التالية:
- أولًا، يبدو أنّ القدرات الاستخباراتية للجيش قد شهدت تطورًا لافتًا، بدليل أنّ بعض الوحدات كانت في وضع استعداد قبيل انطلاق الهجوم، خاصة في خاي ونيورو. مصادر إعلامية محلية أكدت أن وحدات الرصد قد التقطت تحركات لسيارات ودراجات نارية في محاور غير معتادة، وهو ما يرجّح وجود مراقبة ميدانية دقيقة. كما لا يُستبعد وجود دعم استخباراتي خارجي أو شراكات أمنية ثنائية لم يُعلن عنها رسميًا.
- ثانيًا، تضطلع المسيرات القتالية بدور حاسم في قلب موازين المواجهات، وقد تحدثت منشورات محلية عديدة (غير رسمية) عن استخدام طائرات بدون طيار من طراز بيرقدار التركية في التصدي لهجوم خاي ونيورو، ما أدى إلى تعطيل خط تقدم المهاجمين وتكبيدهم خسائر فادحة. وعلى الرغم من أن الجيش لم يشر صراحة إلى نوعية المعدات المستخدمة، فإن طبيعة الرد السريع والدقيق تفتح الباب أمام تساؤلات جدية حول مدى تدخل “الفيلق الإفريقي“ (أو ما يسمى بالتدخلات متعددة الجنسيات) في دعم الجيش المالي خلال هذا النوع من العمليات.
- ثالثًا، من الناحية الاتصالية، أصدر الجيش بيانًا مقتضبًا أكد فيه “تحييد أكثر من 80 مهاجمًا” دون التطرق إلى أي تفاصيل عن خسائره البشرية أو المادية، ما يثير علامات استفهام حول درجة الشفافية في التعامل مع الرأي العام. هذه المسألة ليست جديدة؛ فالبيانات العسكرية المالية غالبًا ما تتجنب الإفصاح عن الخسائر الداخلية، وهو ما يفتح الباب لتأويلات متعددة، خاصة في بيئة أمنية مشحونة وفاقدة للثقة بين السكان والدولة.
وفي سياقٍ أوسع، تجدر الإشارة إلى أنّ نجاح الجيش في صدّ هذا الهجوم واسع النطاق يعكس تحسنًا ملحوظًا في التنسيق بين وحداته التقليدية والمتقدمة، وربما يشير أيضًا إلى تحوّل في العقيدة الأمنية من نمط الدفاع الثابت إلى نمط الردع المتحرك باستخدام التكنولوجيا والاستشعار عن بعد.
إلا أنّ هذا النجاح، في حال تأكده، لا يُخفي هشاشة البنية الأمنية في المناطق الحدودية، ولا يُنهي التساؤلات حول استدامة هذا النمط من الاستجابة في ظل اتساع رقعة التهديدات وتطور التكتيكات الجهادية.
لذلك، يمكن القول إنّ استجابة الجيش المالي حملت مؤشرات إيجابية من حيث السرعة والفعالية؛ لكنها في الوقت ذاته سلطت الضوء على فجوات تتعلق بالشفافية، والدور الفعلي للتكنولوجيا العسكرية، وحدود القدرات الذاتية للجيش في ظل تصاعد التمدد الإرهابي غرب مالي، وغياب الدعم الخارجي المؤكد أو غير المعلن.
تصاعد عمليات النصرة وردود الجيش المالي: تعقيدات ميدانية واجتماعية
من جهة أخرى تشير المعطيات الميدانية الأخيرة إلى تصاعد خطير في نشاط جماعة نصرة الإسلام والمسلمين؛ حيث أكدت الجماعة عبر ذراعها الإعلامي مؤسسة الزلاقة نجاح هجماتها على مدن وبلدات نيونو، ديبولي، ساندري، غوغي، كاي، ونيورو، فضلا عن السيطرة النوعية على ثكنة مولودو العسكرية.
هذه العمليات، التي شملت كذلك كمينا لرتل مشترك من الجيش المالي والفيلق الإفريقي شرق مدينة بير على ضفة نهر النيجر الشمالية، تكشف عن مستوى متقدم من القدرة التكتيكية للتنظيم في استهداف أهداف عسكرية متحركة، مما يعكس تطورا واضحا في أساليب المواجهة، وجرأة أكبر في تحدي القوات الرسمية والرد على عمليات الجيش.
وفي السياق نفسه، أعلنت هيئة الأركان المالية القضاء على القيادي المغربي في تنظيم الدولة الإسلامية فرع الساحل “أبو الدحداح“، في عملية مشتركة شمال مدينة ميناكا على الحدود مع النيجر وقرب تمبكتو، ما يؤكد استمرار المواجهات متعددة الجبهات مع التنظيمات المسلحة المختلفة.
كذلك، فإنّ إعلان النصرة عن احتوائها لرتل من السيارات رباعية الدفع تحمل شعارات زعماء تقليديين محليين، يشير إلى احتمالية نجاح التنظيم في اختراق أو استغلال شبكات اجتماعية وقبلية محلية، ما يمثل خطراً إضافيّاً على تماسك الجبهة الداخلية، ويزيد من التعقيد الأمني والاجتماعي في المنطقة.
ورغم تمكن الجيش المالي من نصب كمين لمقاتلي النصرة، وتكبدهم خسائر بشرية، وعلى حسب ما أكدت الجماعة تمكنت من تنفيذ تسع عمليات هجومية واسعة ومتزامنة، مستهدفة خمسة مواقع عسكرية، من بينها بوابة غوغي الحدودية مع موريتانيا، والتي تُستهدف للمرة الأولى.
تُؤشر هذه العمليات على تحول استراتيجي واضح، يهدف إلى تمهيد الطريق نحو العاصمة باماكو، في محاولة لتقويض قدرة الدولة على حماية مراكزها الحيوية وتعزيز نفوذ التنظيم في المناطق المحاذية للحدود، ما يرفع مستوى التهديد إلى مرحلة حرجة، تفرض إعادة تقييم شاملة للاستراتيجية الأمنية المالية والإقليمية لمواجهة التهديد المتصاعد.
التمدد الإرهابي غرب مالي: تداعياته على السنغال وموريتانيا
لا يمكن عزل هجمات 1 يوليو عن تداعياتها الإقليمية المتصاعدة، لا سيما على الحدود الغربية لمالي، حيث يتقاطع التمدد الإرهابي غرب مالي مع خطوط التجارة البرية والسيادة الأمنية لكل من السنغال وموريتانيا.
المناطق المستهدفة – ديبولي، كاي، ونيورو – ليست مجرد نقاط تماس عسكري، بل تمثل عقدًا استراتيجية في شبكة النقل التي تربط العاصمة باماكو بميناء داكار عبر السنغال، وبميناء نواكشوط عبر موريتانيا. هذا الشريط الحدودي الطويل يشكّل الشريان الاقتصادي الأساسي للدولة المالية، بل وللمنطقة بأكملها.
من هنا، فإنّ استهداف هذه المدن لم يكن فقط ضربة للهيبة العسكرية، بل هزّ لبنية حيوية من البنى اللوجستية والاقتصادية. وقد انعكس ذلك في حالة الذعر التي اجتاحت كاي وديبولي، وفي ردود الفعل الميدانية على الجانب الموريتاني، حيث دعت السلطات المواطنين إلى تجنب المناطق الحدودية.
في ديبولي، الواقعة على بعد كيلومترات قليلة من السنغال، بات الأمن الحدودي على المحك. وفي نيورو، التي تشكل معبرًا اجتماعيًا واقتصاديًا مع موريتانيا، اكتسب الهجوم بعدًا رمزيًا يتجاوز مجرد التوغل العسكري.
إقليميًّا، يُنظر إلى السنغال وموريتانيا كمرتكزين لاستقرار الساحل الغربي. وحتى وقت قريب، بقيتا بمنأى عن التوغلات الجهادية واسعة النطاق، لكن هجوم ديبولي – المحاذي للحدود السنغالية – غيّر هذه المعادلة. فـ”كتيبة ماسينا” لم تُخفِ نيتها تمديد جغرافيا الاشتباك نحو الغرب، ما يفتح الباب لتساؤلات جدية حول أمن المجتمعات الحدودية ومسارات تهريب السلاح والتجنيد.
في مواجهة هذا التحدي، أطلقت مالي والسنغال في فبراير 2025 دوريات عسكرية مشتركة بإشراف وزيري الدفاع، بهدف تعزيز الأمن في المناطق الحساسة، خاصة ديبولي. وجاء ذلك بعد لقاء ثنائي جمع الرئيس المالي ووزير الدفاع السنغالي، عقب عودته من بوركينا فاسو، وتركزت المباحثات على سبل التنسيق الحدودي.
بالمثل، دخلت موريتانيا على خط الأزمة عبر مباحثات أمنية متبادلة مع باماكو، في وقت يزداد فيه القلق من تمدد العنف نحو أراضيها. ومع ذلك، يظل غياب التحالفات الإقليمية المنظمة نقطة ضعف هيكلية، تجعل من الاستجابة الثنائية رمزية أكثر منها ردعًا فعليًا.
وقد أعلن “الفيلق الإفريقي” أنه، بالتعاون مع الجيش المالي، تمكن من صدّ الهجمات على سبعة مواقع عسكرية، وقتل 80 مسلحًا وأسر عدد غير محدد، ما يشير إلى تنامي الاعتماد على الشراكات العسكرية المتحركة كبديل مرحلي للتحالفات الرسمية الغائبة.
في المحصلة، فإنّ التمدد الإرهابي غرب مالي لم يعُد شأناً داخلياً، بل يهدد بتحويل الحدود المالية إلى خطوط تماس إقليمية. وإذا لم يُستثمر زخم التنسيق الأمني الحالي في بناء مظلة مؤسسية أكثر مرونة وعمقًا، فإنّ احتمالات الانفلات الأمني ستتجاوز ديبولي ونيورو لتبلغ العواصم الساحلية نفسها.

تداعيات استراتيجية على الأمن الساحلي ومسارات المواجهة
لا تُعد هجمات 1 يوليو مجرد تصعيد تكتيكي في ساحة المواجهة بين الجيش المالي وتنظيم “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”؛ بل تمثل لحظة مفصلية ضمن مسار التمدد الإرهابي غرب مالي، تكشف عن تحولات جيو-أمنية أعمق في معادلة التوازن العسكري غرب الساحل.
إنّ اختيار الجبهة الغربية، المحاذية للسنغال وموريتانيا، يشير بوضوح إلى نوايا استراتيجية تستهدف إعادة رسم خريطة الانتشار الجهادي، بعيداً عن المناطق المستهلكة ميدانيّاً في وسط مالي وشمالها. فبدلًا من الاستنزاف في جبهات تقليدية، يبدو أنّ التنظيم يسعى لفتح ثغرات جديدة في مناطق أكثر رخاوة أمنية، وأقل كثافة انتشار للقوات الدولية أو الحلفاء المحليين.
هذا التمدد نحو الغرب ليس عشوائيّاً؛ بل يُقرأ في سياق التكيف الاستراتيجي للجماعات المسلحة بعد التحولات الجيوسياسية الكبرى التي شهدتها المنطقة، وعلى رأسها انسحاب القوات الفرنسية (برخان وتاكوبا) من مالي، والانكفاء الأوروبي المتدرج، وتفكك التحالفات الأمنية الإقليمية مثل “G5 الساحل”.
وقد جاء هذا الفراغ مصحوباً بصعود تدريجي لنفوذ الشراكة الروسية المالية، خصوصاً عبر “الفيلق الإفريقي” فاغنر سابقا، وإنْ كانت هذه الشراكة تركز حتى الآن على تمركزات محددة في الشمال والوسط، مما يترك الحزام الغربي عرضة للاختراق العملياتي.
وعلى الرغم من أنّ الحكومة المالية، بقيادة المجلس العسكري، تحاول إعادة تشكيل عقيدتها الأمنية عبر تركيز أكبر على الاستقلالية السيادية، إلا أنّ الهجمات الأخيرة تضع هذا التوجه أمام اختبار صعب. فمحدودية الموارد، وعدم توازن الانتشار الجغرافي، وغياب منظومة إنذار مبكر متكاملة، كلها عوامل تحدّ من القدرة على تغطية جبهة تمتد من حدود النيجر شرقًا إلى ضفاف نهر السنغال غربًا.
وفي المقابل، تُظهر بيانات الهجوم أنّ الجماعات المسلحة قد طورت قدراتها من حيث التنظيم واللوجستيات والاستخبارات، وبدأت تتبنى نماذج متقدمة من “الضربات المنسقة“، التي تتطلب مستوى عالٍ من التحكم الزمني والعملياتي.
هذا لا يعكس فقط نضجًا عملياتيًا فحسب؛ بل يشير أيضًا إلى وجود شبكات دعم عابرة للحدود قد تشمل مجندين محليين، ومتعاطفين، أو خلايا نائمة على أطراف السنغال وموريتانيا، في سياقٍ يعزّز مفاعيل التمدد الإرهابي غرب مالي، ويعقّد بيئة المواجهة الأمنية ويدفع نحو مراجعة شاملة للاستراتيجيات الحالية.
وفي ضوء ذلك، يبدو أنّ أحد أهم دروس هذه الهجمات هو الحاجة الملحّة لإعادة التفكير في شكل التعاون الأمني الإقليمي. فخيار الاتكال على محور أحادي (فرنسي أو روسي أو غيره) أثبت محدوديته.
والمطلوب اليوم، أكثر منْ أيّ وقت مضى، هو بلورة تحالف أمني غرب ساحلي جديد، أكثر مرونة وانفتاحًا على الخبرات المحلية والمقاربات غير التقليدية. تحالف يُراعي الخصوصيات الاجتماعية والسياسية لكل دولة، ويُبنى على الثقة المتبادلة لا على التبعية السياسية أو العداء الأيديولوجي.
ولا يعني ذلك بالضرورة عودة إلى النماذج القديمة للتدخل الأجنبي؛ بل البحث عن صيغ جديدة للتنسيق المشترك تشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية، توحيد جهود المراقبة الجوية، دعم التنمية الحدودية المتكاملة، وتحقيق تكامل أمني اقتصادي يُضعف جذور التجنيد الجهادي بدلاً من مطاردته فقط على الأرض.
وإذا لم يُتَدارك الموقف الآن، فإنّ شظايا اشتباكات ديبولي وكاي ونيورو، باعتبارها تجليات ميدانية لـالتمدد الجهادي غرب مالي، لن تبقى داخل حدود مالي، بل ستمتد – على المدى المتوسط – إلى كل غرب إفريقيا لا قدّر الله.
الخاتمة والتقدير الاستراتيجي
إنّ التمدد الإرهابي غرب مالي، كما ظهر في الهجمات المتزامنة التي شهدتها البلاد في فاتحة يوليو 2025م، كشف عن تحوّل مقلق في نمط التهديدات الجهادية بمنطقة الساحل الغربي. فلم تعُد الجماعات المسلحة، وعلى رأسها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، تكتفي بعمليات استنزافية محدودة في الشمال والوسط؛ بل باتت تختبر قدراتها على توسيع نطاق الاشتباك نحو المناطق المحاذية للسنغال وموريتانيا، مدفوعة باعتبارات استراتيجية وأهداف دعائية في آن واحد.
ولقد نجحت القوات المسلحة المالية، رغم التحديات اللوجستية، في امتصاص الصدمة الأولى، والرد الميداني بسرعة فائقة ولافتة، بما يوحي بتحسّن في منظومتها الاستخباراتية والعملياتية، خاصة فيما يتعلق باستخدام الوسائط الجوية والاستطلاعية الحديثة.
غير أنّ هذه الاستجابة، مهما بلغت من الكفاءة التكتيكية، لن تكون كافية وحدها للتصدي للتمدد الجهادي غرب مالي ما لم تُستكمل بإصلاحات هيكلية في مقاربة الدولة للأمن الحدودي، ومزيد من الشراكات التنسيقية العابرة للحدود.
فالسؤال الذي يفرض نفسه بعد هذا التصعيد هو:
هل نحن أمام بداية لمرحلة جديدة من التمدد الإرهابي غرب مالي بوصفه تحولاً استراتيجيًا في الجغرافيا القتالية نحو الغرب، أم أن ما جرى يندرج في إطار تصعيد ظرفي يستهدف اختبار جاهزية الجيش ومرونة الحاضنة الأمنية؟
الإجابة على هكذا تساؤلات لا تزال مرهونة بما ستشهده الأسابيع المقبلة من تحركات ميدانية، إلا أنّ المؤشرات الأولية توحي بأنّ التنظيمات المسلحة أصبحت أكثر جرأة في تغيير معادلات الصراع، ومراكمة الخبرات في تنويع ساحات الاشتباك.
وبناءً عليه، يمكن تقديم ثلاث توصيات محورية لمجتمع السياسات والمجال الأمني:
- تعزيز البنية الاستخباراتية التكاملية: عبر مزج التقنيات الحديثة (كالطيران المسيّر) بالعمل الميداني البشري طويل النفس، مع تطوير آليات الإنذار المبكر في المناطق المتاخمة لمراكز الخطر.
- تمكين المجتمعات الحدودية كشركاء أمنيين: من خلال دعم مبادرات التبليغ المجتمعي، وتوفير الحماية التشريعية والإدارية للمبلّغين، وضمان ألا تُترك هذه المناطق كمساحات رخوة خارج التغطية المؤسسية.
- بناء مظلة تنسيق إقليمي مرنة ومؤسسية: تشمل السنغال وموريتانيا، دون ارتهان للمنظومات الأمنية التقليدية. فالمطلوب هنا ليس بالضرورة تحالفًا جديدًا؛ بل منصة وظيفية للاستجابة التشاركية، قائمة على المصالح المتبادلة والتحديات المشتركة.
وفي النهاية، فإنّ أمن مالي لا يُفهم اليوم إلا كجزء من منظومة أوسع تمتد من خليج غينيا إلى الأطلسي، ومن وسط الساحل إلى شواطئ الأطلس.
ومع توالي التحولات في المشهد الجيوأمني للمنطقة، خصوصًا في ظل التمدد الإرهابي غرب مالي، تبرز الحاجة إلى قراءة جديدة، أكثر هدوءًا وواقعية، وأكثر انفتاحًا على الحلول المستدامة التي تبدأ من الداخل، ولا تكتفي بالتدخلات الظرفية.
________________________