جدول المحتويات
تشهد السياسة الأمريكية تجاه إفريقيا تحوّلًا جذريًا في عهد الرئيس دونالد ترامب، حيث تراجعت المساعدات التقليدية والخطابات الديمقراطية لصالح نهج جديد قائم على “المعاملة التجارية” والمصالح المباشرة.
لم تعد واشنطن تسأل عمّا تحتاجه إفريقيا، بل عمّا يمكن أن تقدمه للولايات المتحدة من فرص اقتصادية، موارد استراتيجية، وتعاون أمني يخدم أولوياتها.
في هذا السياق، باتت القارة مطالبة بإثبات جدواها كشريك من خلال تحقيق منافع ملموسة، مثل خلق وظائف أمريكية، وضمان الوصول إلى المعادن الحيوية المستخدمة في الصناعات الدفاعية والتكنولوجية. وتم تهميش الاتفاقات متعددة الأطراف لصالح صفقات ثنائية، بينما خضعت برامج كـ”أغوا” لقيود جمركية صارمة بموجب قوانين الطوارئ الاقتصادية الأمريكية.
وسط هذه البيئة المعقدة، ظهرت شركات الضغط والعلاقات العامة، وعلى رأسها “Gunster Strategies“، كوسيط استراتيجي يدعم القادة الأفارقة في بناء السرديات المناسبة، وتأمين لقاءات رفيعة، وتوجيه السياسات الوطنية لتنسجم مع أولويات البيت الأبيض.
ويقود هذه الجهود فريق متمرّس يجمع بين الخبرة الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية، أبرزهم السفير البنيني السابق عمر أرونا. أمام هذا الواقع، لا يكفي الحضور الرمزي أو الخطاب الإنشائي، بل المطلوب إعداد تقني دقيق، ورسائل محسوبة، وتحالفات مرنة. فالقادة الذين يُجيدون قراءة المزاج السياسي الأمريكي ويعرضون قيمة استراتيجية حقيقية، هم وحدهم من سينجحون في فرض ملفاتهم على طاولة واشنطن.
وقد تجلّى هذا التوجه بوضوح في قمة واشنطن المرتقبة في 9–11 يوليو 2025، والتي دعا فيها ترامب خمسة رؤساء أفارقة من دول تُعد أقل صخبًا سياسيًا وأكثر قابلية للتعامل التجاري. وبدلًا من الحديث عن التنمية أو الديمقراطية، تمحورت أجندة القمة حول “الفرص التجارية“، وتأمين موارد استراتيجية في قطاعات مثل الطاقة والمعادن النادرة، إلى جانب مواءمة المصالح الأمنية.
وبينما يصف البعض هذا التحول بأنه واقعي وعملي، يرى آخرون أنه قد يفاقم هشاشة العلاقة ويقصي دولًا ذات ثقل استراتيجي واقتصادي مثل نيجيريا وجنوب إفريقيا، بسبب تعقيداتها السياسية أو استقلالية قرارها.
يهدف هذا المقال إلى تحليل أبعاد هذا التحول من منظور إفريقي يعيد تعريف أدوات التأثير في واشنطن، ويعرض ثلاث زوايا أساسية لهذا السياق، وهي: شراكة لا معونة، والنفوذ يصنع في الكواليس، وأخيرا إفريقيا التي تقنع العالم.
شراكة لا معونة
السياسة الأمريكية الراهنة تمضي بعيدًا عن المساعدات التقليدية، إلى نموذج يرتكز على الشراكات التجارية القائمة على مصالح مباشرة. فقد تم تقليص صلاحيات برنامج AGOA الذي سمح بإعفاءات جمركية لصادرات أفريقية، وبدت الوجهة واضحة مع فرض الرسوم الجمركية، إذ تحددها الآن قوانين أمريكية مثلIEEPA.
إنّ الدور المطلوب يحتاج إعداد ملفات اقتصادية دقيقة، لا سطحية، تبين ما تقدمه أفريقيا لاقتصاد أمريكا وليس العكس.
وفي ظل هذا التحوّل، لم تعد الدول الأفريقية تتلقى امتيازات تلقائية، بل يُقيّم دورها التجاري بناءً على قدرته على خلق وظائف في الداخل الأمريكي والاستجابة لاحتياجات الصناعة الأمريكية.
قرار زيارة جنوب إفريقيا للبيت الأبيض مع عرضها شراء الغاز الأمريكي جزئيًا جاء كاستراتيجية تفاوضية لخفض هذه الرسوم، فيما تسعى لتنظيم اتفاقيات ثنائية تخدم مصالح الطرفين. أما دول مثل كينيا، فتتوقع تخفيضات نسبية على صادراتها، مثل 10% بدلًا من الرسوم الأكبر، ما يمنحها فرصة للاستفادة من موقعها التنافسي مقارنة بآسيا. لكن هذه الفرصة المشروطة تتطلب من الحكومات الأفريقية تقديم عروض ملموسة، وليس مجرد التمنى بفرص تجارية.
ما يجمع هذه الأمثلة هو أن المنطقة بحاجة لإعادة تشكيل خطابها الدبلوماسي والاقتصادي؛ لتسلط الضوء على القدرة التصديرية، والموارد الاستراتيجية المحلية، وفرص الاستثمار المتبادل.
فالدور المطلوب يحتاج إعداد ملفات اقتصادية دقيقة، لا سطحية، تبين ما تقدمه أفريقيا لاقتصاد أمريكا وليس العكس.
النفوذ يُصْنَع في الكواليس
بعيداً عن القنوات الرسمية، ظهرت الكيانات الخاصة كـ (Gunster Strategies) التي تعني “استراتيجيات مواتية”؛ لتكون حلقة وصل رابطة بين الحكومات الأفريقية وإدارة ترامب؛ حيث تعمل على استراتيجية مدمجة تجمع ما بين العلاقات العامة، والتواصل الحكومي، وتحليل القضايا الجيوسياسية.
و يتولى السفير عمر أروينا تحديد السردية المناسبة للقادة الأفارقة، وضمان توافق المصالح عبر التواصل برؤى سياسية اقتصادية وأمنية، ما يتيح فسح المجال أمام مواضيع مثل الموارد الحيوية وأمن سلاسل التوريد.
حيث يفيد ذلك نظريّاً في تحويل الاهتمام من الكلام إلى النفوذ، من خلال نقاشات خاصة، لقاءات مع أعضاء الكونغرس أو البيت الأبيض، وجهوزية حملات إعلامية مخصصة. فالرسالة لا تنْشَر في الصحف فحسب؛ بل تُبنى داخل الأروقة السياسية والإعلامية الأمريكية، وتُترجم إلى فرص ملموسة.
هذا الدور الخفي يتبع منطقاً واضحاً، ألا وهو: لا تتحدث فقط؛ بل استثمر في النفوذ الخلفي. فشركات مثل (Gunster) لا تقدّم خدمات استشارية فقط؛ بل تشكّل المصالح وتبني شبكة من التحالفات المتأنية، تسهل الوصول للقمة القادمة في نيويورك 2026.
إفريقيا التي تقنع العالم
في هذا السياق، الفصل الحاسم يقع على عاتق القادة الأفارقة لصياغة رؤية استراتيجية واضحة تتجاوز شعار “شراكة” لتثبت قيمة الاقتصاد الأفريقي في القضايا الأمريكية الملحة. فإذا ما برزت قدرتهم على تقديم المعادن النادرة مثل النيكل والليثيوم، واستعرضوا قدرتهم على إحداث توظيف فعلي في محيط الولايات المتحدة، فإن عروضهم تحوّل من مجرد رغبات إلى ملفات قابلة للتنفيذ.
الواقعية، هنا، لا تسمح بالغياب؛ فالغموض السياسي، أو الالتزامات غير المترابطة يمكن أنْ تفضي إلى تراجع الانتباه الأمريكي عن القارات. ولتلافى هذا، يحتاج القادة إلى توظيف بيانات التصدير، ودراسات الجدوى التخصصية، وخطط للإصلاح المؤسسي تضمن الوفاء بالعقود والأهداف الاقتصادية المشتركة.
فالمعادلة لم تعد مجرد من يكون في المشهد فحسب؛ بل من يُحسن كتابة شروط وجوده فيه.
وفي اللحظة التي تدرك فيها القيادة الأفريقية أن مصالح أطراف مثل أمريكا تعبر عبر الوظائف والموارد والأمان، تصبح الرسالة عالمية، وتُعرض في جلسات الكونغرس ومؤتمرات الطاقة والزراعة فحسب، بل تُحول إلى أدوات للتأثير الاستراتيجي، وضبط العلاقات بتوازن رفيع.
خلاصة
مع هذا التحوّل في منطق التعامل الأمريكي مع القارة الإفريقية، لم تعد العلاقات تُبنى على النوايا الحسنة أو التزامات تنموية مفتوحة؛ بل على قدرة الأطراف على صياغة مصالح مشتركة بوضوح واحتراف. ولمواجهة هذا النسق الجديد، تحتاج إفريقيا إلى هندسة حضورها الدولي على نحوٍ يُبرز وزنها الحقيقي في قضايا التجارة العالمية، وأمن الطاقة، وسلاسل الإمداد الاستراتيجية، بدل أن تظل حبيسة ردود الفعل أو السرديات الرمزية.
ومن هنا، تبرز لحظة سياسية مناسبة أمام شركاء إفريقيا من خارج المنظومة الغربية، مثل الصين، وتركيا، والاتحاد الأوروبي، ودول الخليج، لإعادة تشكيل علاقتهم بالقارة على قاعدة الإنتاج لا التنافس.
فعوضاً عن سباق النفوذ التقليدي، يمكن لهؤلاء الشركاء أنْ يدعموا التمكين المؤسساتي، والتكنولوجي داخل الاقتصادات الإفريقية، وأنْ يُسهموا في بناء قدرة القارة على التفاوض ككتلة صلبة في ملفات حيوية مثل العدالة التجارية، وإصلاح الديون، وتمويل التحول المناخي.
أما على المستوى الإفريقي، فإن الاستفادة من هذا التعدد في الشراكات يجب ألا تكون عشوائية أو ظرفية، بل نابعة من استراتيجية خارجية مرنة تحافظ على الاستقلالية وتعزز القدرة التفاوضية. فالقادة الذين يُديرون هذا التعدد بذكاء، عبر تنويع الحلفاء، وإتقان لغات المصالح، واستثمار الأدوات الاتصالية والدبلوماسية الحديثة، هم من سيحجزون مقاعدهم في خرائط التأثير الجديدة.
فالمعادلة لم تعد مجرد من يكون في المشهد فحسب؛ بل من يُحسن كتابة شروط وجوده فيه.