مع عودة نهج “أمريكا أولاً” إلى الواجهة في ولاية دونالد ترامب الثانية كرئيس للولايات المتحدة، تستعد إفريقيا لتغيرٍ جديدٍ في السياسة الخارجية الأمريكية؛ حيث ستُعطَى الأولوية للمصالح الأمريكية قبل كل شيء. وتمثل هذه العودة إلى المكتب البيضاوي قطيعة واضحة مع النهج التعاوني متعدد الأطراف الذي اعتمده جو بايدن.
وفي حين أكدتْ إدارة بايدن على المصالح المتبادلة والديمقراطية والتعاون في مجال الصحة والمناخ مع أفريقيا؛ فإنّ تركيز ترامب المحتمل على العائدات الاقتصادية المباشرة، والانخراطات السياسية الانتقائية يمثل تحديًا خاصّاً – وفرصةً – للدول الأفريقية.
جدول المحتويات
ماذا يعني لأفريقيا شعار “أميركا أولا”؟
بالنسبة لأفريقيا، القارة ذات الاحتياجات المعقدة والمتنوعة، من المتوقع أنْ يعيد هذا الموقف المتجدد “أميركا أولاً” تعريف ديناميكيات العلاقات بين الولايات المتحدة وأفريقيا. فتجد القارة نفسها عند تقاطع استراتيجي: قارةٌ ذات موارد طبيعية وفيرة، وسكان شباب ينمون بسرعة، وإمكانات هائلة للنمو الاقتصادي. ولكنها تواجه أيضا تحدياتٍ كبيرة في مجالات مثل البطالة بين الشباب، والاستقرار السياسي، والضعف في مواجهة الاضطرابات الاقتصادية العالمية. ومن الممكن أنْ يوفر نهج ترامب المتوقع لأفريقيا سبل النمو الاقتصادي، وإنْ كان ذلك بشروط معاملاتية قد تُعَرّض استقلال أفريقيا للخطر.
وعليه، ستتناول هذه المقالة ثلاثة جوانب رئيسة لاستراتيجية ترامب “أميركا أولا“، والتي من المرجح أنْ تؤثر على مستقبل أفريقيا، وهي: التحولات في سياسات التجارة والاستثمار، والتغيرات في المشاركة السياسية والأمنية، والنهج البراجماتي في التعامل مع سياسة الصحة والتكيف المناخي. ستشكل هذه العناصر مسار أفريقيا نحو تحقيق الاعتماد على الذات اقتصاديا، والاستقلال السياسي، والتنمية المستدامة – إذا استطاع صناع القرار في القارة لعب أوراقهم بشكل صحيح.
المسارات البراغماتية للتجارة والاستثمار
في عهد بايدن، شهدت أفريقيا دعما متزايدا من خلال المساعدات، والمشاركة المتعددة الأطراف، ونموذج قائم على الشراكة النسبية. ومع ذلك، تميزت فترة ولاية ترامب السابقة بسياسات أكثر معاملاتية، ومركزة على الاستثمار؛ حيث كانت تعطي الأولوية للمصالح التجارية الأميركية، على الرغم من تأكيده على أهمية شعار “أميركا أولا” في أكثر من مكان. إنّ هذا التركيز على الاستثمار، بدلاً من المساعدات، يشير إلى زيادة محتملة في مشاريع البنية الأساسية، وخلق فرص العمل، والشراكات الاقتصادية التي يمكن لأفريقيا الاستفادة منها لبناء اقتصاد أكثر مرونة.
كان أحد البرامج الرئيسة التي أطلقها ترامب سابقًا، Prosper Africa، مصمما لتعزيز الاستثمار الأمريكي في جميع أنحاء القارة من خلال تسهيل نمو القطاع الخاص، وبناء شراكات تجارية، وزيادة قدرة الشركات الأفريقية. لقد قدّمت هذه المبادرة، جنباً إلى جنب مع مؤسسة تمويل التنمية (DFC) لأفريقيا خيارات الاستثمار المباشر، ووضع الاقتصادات الأفريقية كشركاء في النمو الاقتصادي بدلاً من تلقي المساعدات.
ومع استئناف ترامب لمنصبه كرئئيس أمريكا السابع والأربعين، قد يعزز من فاعلية شعاره “أميركا أولا”، ويُكثّف مثل هذه المبادرات، مع التركيز على خلق فرص العمل الأمريكية وزيادة النفوذ الاقتصادي الأمريكي في أفريقيا كمضاد للوجود الصيني المتنامي.
كان موطئ قدم الصين في أفريقيا من خلال تطوير البنية الأساسية، والقروض الميسرة عامل جذبٍ قويّ للدول الأفريقية التي تحتاج إلى الاستثمار. ومن المتوقع أنْ تتصدى إدارة ترامب لهذا النفوذ من خلال تقديم الاستثمار الأمريكي كبديل.
في الوقت الذي يتميز فيه نهج الصين بالمشاريع المدعومة من الدولة والتدخل السياسي الضئيل؛ فإنّ نهج ترامب قد يكون أكثر شَرطية؛ حيث يربط الدعم الأمريكي بالحوكمة والإصلاحات السياسية. وفي حين أنّ هذا قد يردع الدول الأفريقية التي تسعى إلى استثمارات غير مقيدة، فإنه قد يمكّن أيضاً البلدان الملتزمة بالشفافية والمساءلة من جذب الدعم الأمريكي المتاح.
ومع ذلك، فإنّ موقف ترامب بشأن قانون النمو والفرص في أفريقيا (AGOA) يظل نقطة حرجة. كان قانون النمو والفرص في أفريقيا، الذي يمنح الصادرات الأفريقية حق الوصول إلى الأسواق الأمريكية بدون رسوم جمركية، حجر الزاوية في العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة وأفريقيا منذ عام 2000.
وعلى الرغم من تفكير ترامب السابق في إنهاء قانون النمو والفرص في أفريقيا في عام 2025، فإنّ رغبته في الحدّ من النفوذ الاقتصادي للصين قد تجبره على الاحتفاظ بقانون النمو والفرص في أفريقيا، والاعتراف به كأداة حاسمة لنمو الصادرات الأفريقية وتنويع الاقتصاد.
ولكن ينبغي للدول الأفريقية أن تستعد للتحولات المحتملة من خلال تعزيز التحالفات التجارية الإقليمية، مثل: منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، والتي من شأنها أنْ تخفف من الاعتماد على سياسات التجارة الأميركية.
وأخيرا، قد تعمل إدارة ترامب على تعزيز دور الشتات الأفريقي في التنمية الاقتصادية. ومع مساهمة الشتات الأفريقي بمليارات الدولارات سنويا من خلال التحويلات المالية، فإنّ دعم ترامب للاستثمارات التي يقودها الشتات من شأنه أنْ يعزز فرص العمل، ويزيد من الاتصال بين المنطقتين. إنّ تمكين الشتات الأفريقي من الاستثمار مباشرة في اقتصاد القارة من شأنه أنْ يحفز خلق فرص العمل وريادة الأعمال والتنمية المستدامة، مما يجعل أفريقيا أقل اعتمادا على هياكل المساعدات التقليدية.
السيادة في العلاقات السياسية والأمنية
من المرجح أنْ يتبنى انخراط ترامب السياسي مع أفريقيا نهجاً عمليّاً، مدفوعاً بمخاوف الاستقرار والأمن أكثر من الترويج الإيديولوجي للديمقراطية. ومن المتوقع أنْ تركز إدارته على المجالات التي تتوافق فيها المصالح الأمريكية مع أهداف الحكم الأفريقي، مما يمنح القادة الأفارقة فائدة الدعم الأقل تدخلاً واحتراماً للسيادة.
في فترة ولاية ترامب السابقة، أظهر تفضيلاً للمشاركة الانتقائية، كما يتضح من تعامله مع جمهورية الكونغو الديمقراطية والسودان. ففي جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ حثّتْ إدارة ترامب الرئيس السابق جوزيف كابيلا على احترام حدود الولاية الدستورية، وممارسة الضغوط الدبلوماسية دون تدخل قاسٍ. لقد أدّت هذه الخطوة في نهاية المطاف إلى أوّل انتقال سلمي للسلطة في تاريخ البلاد، مما وضع سابقةً للحكم الذي يركز على الاستقرار والذي لاقى صدى جيدًا لدى القادة الأفارقة الحذرين من التدخل الأجنبي.
وبالمثل، في السودان، لعبتْ إدارة ترامب دورا محوريّاً في تشجيع الحكم المدني بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير. فمن خلال إزالة السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، مكنتْ إدارة ترامب السودان من الوصول إلى الدعم المالي الدولي المهم للتعافي الاقتصادي. ومع ذلك، جاء هذا الدعم الدبلوماسي بشرط تطبيع السودان للعلاقات مع إسرائيل، مما يؤكد نهج ترامب القائم على المعاملات غير التقليدية.
وقد يجذب هذا النموذج (تحت شعار “أميركا أولا”) من “الشراكة القائمة على السيادة” القادة الأفارقة الذين يعطون الأولوية للاستقرار على التفويضات الإيديولوجية الغربية. إنّ إحجام ترامب عن إشراك الولايات المتحدة في جهود بناء الأمة الموسعة، يتماشى مع رغبات العديد من الحكومات الأفريقية التي تسعى إلى الحكم الذاتي.
ومع ذلك، فإنّ هذا النهج غير التدخلي قد يؤدي أيضاً إلى تحدياتٍ في الحالات التي يستغل فيها القادة الاستبداديون هذا التساهل لتقويض العمليات الديمقراطية. وقد يحتاج القادة الأفارقة وجماعات المجتمع المدني التي تدافع عن الإصلاحات الديمقراطية إلى الاعتماد بشكل أكبر على التحالفات الإقليمية، مثل: الاتحاد الأفريقي؛ لتحقيق التوازن بين الاستقرار وحقوق الإنسان في إطار خطط ترامب البسيطة.
في حين أنّ مشاركة ترامب الانتقائية يمكن أنْ تعزز السيادة لبعض الدول الأفريقية؛ إلا أنها قد تقلل أيضاً منْ مشاركة الولايات المتحدة في مجالات حقوق الإنسان. لذلك، يتعين على الدول الأفريقية الملتزمة بالإصلاحات الديمقراطية أنْ تعزز الآليات الداخلية، وشبكات الدعم؛ للحفاظ على القيم الديمقراطية دون الاعتماد بشكل كبير على التدخل الأمريكي.
وأولوية برامج الصحة على المناخي
من المتوقع أنْ ينحرف موقف ترامب بشأن السياسة الصحية والمناخية بشكل كبير عن النهج الشامل الذي تبناه بايدن. لقد أعطى بايدن الأولوية لمقاومة المناخ والطاقة المتجددة والتعاون الصحي العالمي؛ لكنَّ النهج البراجماتي لترامب المتمثل في شعاره “أميركا أولا”، من المرجح أنْ يعطي الأولوية للاحتياجات الصحية المباشرة، ويقدم المساعدة الفورية في حالات الطوارئ الصحية العامة على الالتزامات الطويلة الأجل بالعمل المناخي.
حيث ركزت إدارة ترامب، خلال جائحة كوفيد-19، على إرسال أجهزة التنفس الصناعي وغيرها من المعدات الطبية إلى الدول الأفريقية بدلاً من الانضمام إلى التحالفات الصحية العالمية. فبالنسبة للدول الأفريقية التي تواجه نقصاً حادّاً في موارد الرعاية الصحية، قدّم دعم ترامب المستهدف الإغاثة التي تشتد الحاجة إليها دون التعقيدات البيروقراطية للأطر المتعددة الأطراف. قد يفيد هذا النهج الدول الأفريقية التي تكافح لتلبية متطلبات الرعاية الصحية، وخاصة في المناطق المعرضة للأمراض المعدية والأزمات الصحية.
ولكنْ إحجام ترامب عن الانخراط في التزامات مناخية واسعة النطاق، يشكل تحدّيّاً لأفريقيا، وهي قارة معرضة بشدة لتغير المناخ. إنّ التأثير البيئي للأحداث الجوية المتطرفة، وانعدام الأمن الغذائي، والنزوح يجعل المرونة المناخية أولوية للدول الأفريقية.
ومع ذلك، فإنّ تركيز ترامب على النمو الاقتصادي، والاحتياجات الصحية الفورية، قد يهدر مبادرات المناخ الأساسية، مما يضع أفريقيا في وضع هشٍّ لمعالجة التحديات البيئية طويلة الأجل. ونظرا لمشاركة ترامب المحدودة في برامج المناخ، فسوف تحتاج الدول الأفريقية إلى متابعة الشراكات المناخية مع أصحاب المصلحة الدوليين الآخرين، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والصين والمنظمات غير الحكومية العالمية.
ومن خلال تنويع شراكاتها، يمكن للدول الأفريقية تأمين الموارد اللازمة للتكيف مع المناخ مع الاستفادة من المساعدات الأمريكية في مجال الرعاية الصحية. ويمكن لهذا النهج المتوازن أنْ يوفر لأفريقيا المرونة اللازمة لمعالجة كل من الاحتياجات الصحية الفورية والتحدي الأوسع المتمثل في المرونة المناخية.
بناء مسارات الاعتماد على الذات
النهج المتوقع لدونالد ترامب “أمريكا أولاً” سيُغيّر بلا شك طبيعة العلاقات بين إفريقيا والولايات المتحدة؛ لكن بإمكان القادة وصانعي السياسات الأفارقة استغلال هذا التحول؛ لبناء قارة أكثر صلابةً، واعتماداً على الذات. فمن خلال التنقل في إطار شراكة قائمة على المعاملات المباشرة، يمكن لإفريقيا أنْ تستفيد من زيادة الاستثمارات المباشرة، وتقليل الاعتماد على المساعدات، وخلق فرص لتمكين اقتصادي مدفوع بمشاريع التجارة والبنية التحتية.
ولكي تنجح القارة وفق شروط ترامب تحت شعاره “أميركا أولا”، يجب أنْ تستعد استراتيجياً للتغيرات المحتملة في السياسات التجارية، وأنْ تستثمر في الأطر التجارية الإقليمية، وتعزز التعاون داخل القارة. وبهذا، يمكن للاقتصادات الإفريقية تقليل تعرضها لتقلبات السياسات الخارجية، وضمان نمو اقتصادي مستقر. فضلاً عن ذلك، ينبغي للحكومات الإفريقية أنْ تُعطي الأولوية لإصلاحات الحَوْكَمة الداخلية، والتحالفات الإقليمية؛ للحفاظ على المعايير الديمقراطية في ظل المشاركة السياسية الانتقائية للولايات المتحدة.
وفي مجالَيْ الرعاية الصحية والتكيف المناخي، يعتمد نجاح إفريقيا على بناء شراكات تعالج الاحتياجات قصيرة الأجل والمخاطر البيئية طويلة الأمد. فمن خلال التنسيق مع الأطراف الدولية، والسعي نحو تحالفات متنوعة، يمكن لإفريقيا التخفيف من حدود نهج ترامب تجاه السياسات المناخية، مع الاستفادة من مبادراته العملية في مجال الصحة.
إنّ عودة ترامب إلى منصبه يُنذِر بتغيير في العلاقات الأمريكية-الإفريقية؛ لكنه يوفر أيضاً لإفريقيا فرصة لإعادة ضبط شراكاتها، وتعزيز استقلالها السياسي، والتقدم نحو مستقبل من الاعتماد الاقتصادي على الذات. ومن خلال تبني استراتيجي للاستثمارات المباشرة، وحوكمة براغماتية، ونهج عالمي متنوع، يمكن لإفريقيا ليس فقط التكيف مع عقيدة ترامب “أمريكا أولاً“؛ بل الازدهار في مواجهتها.