جدول المحتويات
في مشهد سياسي مشحون بالتوقعات والتحفظات، أعلن رئيس كوت ديفوار، الحسن واتارا، عن ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، المقررة في الخامس والعشرين من أكتوبر 2025.
هذا الإعلان، الذي جاء عبر خطاب متلفز مساء التاسع والعشرين من يوليو، لم يكن مجرد بيان شخصي؛ بل بدا وكأنه صفحة جديدة تُفتح في تاريخ سياسي طويل ومعقّد، بدأ مع توليه السلطة عام 2011م، ومرّ بمحطات دستورية مضطربة، وها هو اليوم يعود ليجدد الجدل حول علاقة السلطة بالدستور، وحول حدود الشرعية السياسية في مواجهة تحديات الأمن والاستقرار.
الرئيس الذي تجاوز العقد الثامن من عمره قدّم ترشحه بوصفه “ضرورة وطنية“، مبررًا قراره بتصاعد التهديدات الإرهابية في المنطقة، وتقلبات السوق العالمية، وتحديات اقتصادية ونقدية متشابكة.
لكنه، في المقابل، أعاد إلى الأذهان سلسلة من التوترات السياسية التي تزامنت مع ترشحه السابق في 2020، حين وصفته المعارضة آنذاك بـ “غير الدستوري“، وقاطعت الانتخابات احتجاجاً على ما اعتبرته اختراقاً لمبدأ تحديد الولايات الرئاسية.
ورغم أنّ أنصار واتارا يرونه ضمانة للاستقرار واستمرار النمو الاقتصادي، فإن هذا المسار يعيد طرح تساؤلات عميقة عن مصير التعددية السياسية، وقدرة النظام على استيعاب المعارضة، وحدود استثمار الشرعية القانونية في غياب توافق وطني جامع.
ومن هنا تنبع أهمية هذا التقرير، الذي يسعى إلى تسليط الضوء على الأبعاد الدستورية والسياسية والأمنية لهذا الترشح، ليس من باب الإثارة أو الانحياز؛ بل من زاوية تحليلية تضع الحدث في سياقه المحلي والإقليمي، وتترك للقارئ أن يبني حكمه عبر الوقائع والمقارنات الهادئة.
أولًا: ترشح رابع في ظل جدل دستوري لم يُحسم
لم يكن إعلان الرئيس الحسن أواتارا ترشحه مفاجئًا تمامًا، إذ سبقه حراك واسع من حزبه الحاكم “Rassemblement des Houphouëtistes pour la Démocratie et la Paix (RHDP)“، ويُترجم إلى العربية بـ “تجمّع الهوفويتيين من أجل الديمقراطية والسلام“.
هذا الحزب، هو في الأصل ائتلاف سياسي تشكّل في مطلع الألفية الثانية من عدة أحزاب وشخصيات سياسية تتبنى فكر الزعيم الإيفواري الراحل فيليكس هوفويه بوانيي (Félix Houphouët-Boigny)، الذي يُعَدّ الأب المؤسس للجمهورية الإيفوارية الحديثة، وأول رئيس لها بعد الاستقلال (1960م–1993م).
وقد تطوّر لاحقًا إلى كيان حزبي موحّد يقوده واتارا، مستنداً إلى إرث سياسي يُقدِّم “الهوفويتيين” كتيار يؤمن بالسلام الاجتماعي، والليبرالية الاقتصادية، والارتباط التاريخي بفرنسا (Françafrique)، ومقاومة الشيوعية والنزعات الثورية.
ففي الأسابيع الأخيرة، نظّم الحزب مهرجانات ومسيرات شعبية في مختلف مناطق البلاد، دعت بشكل صريح إلى ترشيح أواتارا لولاية جديدة، معتبرة إياه الضامن الأول للاستقرار وسط اضطرابات إقليمية متزايدة.
لكن توقيت الإعلان، قبل ثلاثة أشهر فقط من الانتخابات، يؤشر إلى أنّ قرار الترشح ظل معلّقاً حتى اللحظة الأخيرة، ربما في محاولة لقياس المزاج العام، وتقدير توازنات القوى الداخلية.
فالجدل الدستوري قائمًا منذ 2016، حين أُقرّ دستور جديد أعاد ضبط عداد الولايات، مما أتاح لواتارا الترشح في 2020. هذا “التحايل الدستوري المشروع” – وفق تعبير بعض المحللين – لم يقنع جميع الأطراف؛ بل رسّخ الانقسام حول مدى مشروعية تجاوز ولايتين رئاسيتين، حتى وإنْ تم ذلك بتعديل قانوني.
اليوم، يبدو المشهد أكثر التباسًا من ذي قبل، فالرئيس ذاته، الذي وعد في 2020 بأنْ بجعل تلك الولاية “الأخيرة”، يعود ليقدّم نفسه كخيار لا بديل عنه، متذرعاً بحالة الطوارئ الإقليمية والخبرة القيادية.
وفي مثل هذه السياقات، لا يكون النقاش حول النص القانوني فحسب؛ بل أيضًا حول روحه وتفسيره ومآلاته. فالشرعية القانونية، مهما بدتْ مكتملة، لا تكفي وحدها لفرض الاستقرار أو منع الاحتقان، خصوصاً إذا شعر جزءٌ معتبر من الشعب والنخب السياسية أنّ اللعبة السياسية باتت مغلقة ومكررة. فالإفراط في البقاء، حتى من باب “المسؤولية”، قد يُفقد السلطة قدرتها على التجديد والثقة.

ثانيًا: مشهد معارضة منقوصة وتضييق سياسي محتمل
بينما أعلن واتارا ترشحه، لم يكن المشهد الانتخابي متوازنًا؛ إذْ إنّ اثنين من أبرز الشخصيات المعارضة – الرئيس الأسبق لوران غباغبو، والخبير الاقتصادي تيجان تيام – يواجهان عقبة قانونية قد تمنع ترشحهما. فاستبعادهما من السجلات الانتخابية فتح الباب أمام حملة ضغط تقودها المعارضة، التي أعلنت تحالفًا استراتيجيا بين الحزب الديمقراطي الإيفواري (PDCI) وحزب الشعب الإفريقي (PPACI)، منْ أجل إعادة إدراج زعيميهما في السباق.
فلوران غباغبو، الذي عاد من لاهاي بعد تبرئته في المحكمة الجنائية الدولية، لا يزال يحظى بشعبية واسعة في الجنوب، ويُنظر إليه من قبل أنصاره كرمز للمقاومة ضد الهيمنة الدولية.
أما تيام، فهو وافد جديد نسبياً إلى المعترك السياسي؛ لكنه يتمتع بكاريزما دولية وخبرة اقتصادية قد تجذب الناخبين الباحثين عن بديل عقلاني للنخبة الحالية. فحرمان هاتين الشخصيتين من الترشح، تحت مبررات قانونية أو إجرائية، قد يضع الانتخابات في موضع اتهام، ويفتح المجال أمام الطعن في شفافيتها وجدّيتها.
وقد سبق للمعارضة أنْ قاطعت انتخابات 2020 احتجاجًا على ترشح واتارا آنذاك، وهو سيناريو قد يتكرر إذا لم تتم تسوية الخلافات الحالية.
ومع غياب الثقة في مؤسسات التحكيم الانتخابي، والتخوف من استغلال النفوذ، قد تتحوّل الانتخابات من فرصة للتجديد الديمقراطي إلى نقطة تصعيد سياسي تهدد السلم الاجتماعي.
ثالثًا: الأمن الإقليمي والتحديات الاقتصادية كسياق مبرِّر للترشح
في خطابه، ركّز واتارا بشكل كبير على التهديدات الأمنية التي تطوّق منطقة الساحل، مشيرًا إلى خطر الإرهاب الذي يزداد اتساعاً في النيجر وبوركينا فاسو ومالي، واحتمالات تسلل عناصر متطرفة إلى داخل كوت ديفوار.
كما استعرض التحديات الاقتصادية العالمية، من تقلبات أسعار المواد الخام، إلى ضغوط التضخم وتراجع القدرة الشرائية، فضلًا عما وصفه بـ “المخاطر النقدية” في ظل تراجع قيمة الفرنك سيفا (العملة الإقليمية) مقابل العملات الأجنبية.
هذا التوصيف يعكس خطابًا واقعيًا إلى حدٍّ ما؛ لكنه يتضمن أيضاً بعدًا استراتيجيا يسعى لتبرير استمرارية السلطة باسم الاستقرار والقدرة على التسيير. وهو نمط مألوف في عدة دول إفريقية؛ حيث يُسوّق “الزعيم المجرَّب“ كصمام أمان في وجه المستقبل المجهول، خصوصا حين تكون المؤسسات ضعيفة، والبدائل غير واضحة. غير أنّ التجارب الحديثة – كما في النيجر والسودان – أظهرتْ أنّ غياب التداول الديمقراطي لا يمنع الاضطراب؛ بل قد يعجّل به إذا غابت القنوات السياسية الشرعية.
وفي هذا السياق، تبدو معادلة “الأمن مقابل الديمقراطية” غير متوازنة. فالحفاظ على الاستقرار لا يتطلب فقط قيادة محنكة؛ بل مؤسسات قوية، وشراكة حقيقية بين السلطة والمعارضة، وبيئة تسمح بتداول سلمي دون خوف أو إقصاء.
الخلاصة
في ظل إعلان الرئيس الحسن واتارا ترشحه لولاية رابعة، تدخل كوت ديفوار مرحلة سياسية دقيقة يتقاطع فيها العامل القانوني مع السياسي، والاستقرار المعلن مع الهشاشة الكامنة.
فبين خطاب يقدّم الخبرة كضرورة أمنية، وواقع يشهد على انقسامات سياسية عميقة، تبدو البلاد أمام لحظة مفصلية تختبر فيها ليس فقط متانة دستورها؛ بل نضج مؤسساتها ومدى قدرتها على صون التعددية ومنع الانزلاق إلى الاستقطاب.
وما يُثار اليوم من جدل دستوري واعتراضات على إقصاء مرشحين بارزين لا يمكن عزله عن المسار العام للديمقراطية في كوت ديفوار، وهو مسار لا يزال هشًّا رغم ما تحقق من استقرار نسبي منذ 2011.
فالتجربة الإيفوارية، على غرار تجارب عدة في القارة، تطرح تساؤلات جوهرية، ألا وهي: هل تكفي شرعية النص لتثبيت شرعية الحكم؟ أم أنّ التوافق السياسي والثقة المجتمعية هما الضمانة الحقيقية لأي ولاية، أكانت أولى أم رابعة؟
إنّ الإشارات القادمة من الداخل الإيفواري تدعو إلى التريث وإعادة تقييم المسار، ليس من باب التشكيك؛ بل من باب الحرص على صون مكتسبات عقد من التعافي، وتفادي إعادة إنتاج أزمات الأمس في ثوب قانوني جديد. ففي النهاية، لا يُقاس استقرار الدول بعمر قادتها؛ بل بقدرة أنظمتها على تجديد نفسها دون قطيعة، وعلى العبور بين التحديات دون وصاية على إرادة الناخبين.